دعوة لربط تجريم الإستعمار بالقضاء على نظام إقتصادي عالمي مجحف


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 6800 - 2021 / 1 / 27 - 16:46
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني     

أشرنا في حصة "الحدث" التي شاركنا فيها، وبثت على المباشر في فضائية "الشروق نيوز" الجزائرية يوم الأحد 24جانفي2021 على الساعة السابعة مساء إلى فكرة ضرورة الشروع في دبلومسية عالمية لتجريم كل الإستعمارات بدل إبقاء الجزائر هذه المسألة مع فرنسا فقط، وهي الفكرة التي سبق لي أن قلتها في عدة تدخلات ومقالات منشورة من قبل، وقلت بأنه يمكن أن يكون ذلك مدخل لعودة الجزائر مرة أخرى إلى قيادة العالم الثالث كما كان يقع في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين الذي كرس أغلب دبلومسيته للدعوة إلى نظام إقتصادي عالمي جديد بدل هذا النظام الإقتصادي المجحف اليوم، وأنه ليس من المعقول أن نحصر عملية تجريم الإستعمار في المجال البشري فقط، بل يجب تذكير العالم بمسؤولية الإستعمار في البؤس الإقتصادي والإجتماعي الذي تعيشه الشعوب المستعمرة اليوم جراء االنظام الإقتصادي العالمي السائد حاليا والمجحف في حق شعوب دول الجنوب التي رزحت للإستعمار، فيجب التذكير بأن هذا النظام الإقتصادي العالمي اليوم قد وضع في غياب شعوبنا من طرف الإستعمار الأوروبي بعد ما قام بتقسيم دولي للعمل في القرن19 حيث تخصص هو في التصنيع وحصر مهام البلدان المستعمرة فقط في إنتاج المواد الأولية والإستخراجية، وعلى رأسها الطاقة اليوم.
كان للإستعمار الدور الرئيسي في ربط بلداننا بالرأسمالية العالمية التي لازالت تستغلنا إلى حد اليوم بعد ربطه إقتصادياتنا بالإقتصاد الرأسمالي العالمي بإبقاء هذه البلدان رغم خروج الإستعمار عسكريا تحقق لهذه الدول الإستعمارية سابقا نفس ما كان يحققه لها إقتصاديا اثناء إستعمارها المباشر لنا، ومنها ضمان المواد الأولية والطاقة لها بأسعار بخسة، إضافة إلى سوق لترويج سلعها ومناطق للإستثمار عادة ما تكون في الصناعات الإستخراجية، فلم يولد الإستعمار الأوروبي الحديث إلا بعد أزمة إقتصادية عرفتها أوروبا بعد عقود من ثورتها الصناعية، وهي أزمات دورية تتكرر في النظام الرأسمالي، مما جعلها تحل أول أزمة لها في الثلث الأول من القرن19 باللجوء إلى إستعمار بلداننا بهدف البحث عن أسواق لتسويق سلعها ومناطق للإستثمار ومواد أولية، وهي الأهداف التي حددها بدقة البريطاني هوبسن في كتابه "الإستعمار" في 1902، وبنى عليها لنين كل نظريته القائلة بأن "الإستعمار أعلى مراحل الرأسمالية" في كتابة الشهير الذي يحمل هذا العنوان ذاته.
لكن ما يؤسف له اليوم محاولات البعض إخفاء هذه الحقيقة المؤلمة بدعوى أنها افكار قديمة تعود إلى العقود الماضية عرفتها نضالات شعوب العالم الثالث من أجل تنميتها، وأنا دائما معروف بدعوتي إلى فك الإرتباط بالراسمالية العالمية في الكثير من كتاباتي، وطرحت آليات وميكانيزمات عملية لتحقيق ذلك، وقد سبق أن تحدثنا عن هذه المسألة بإسهاب في بعض كتبي ومقالاتي، فأنا مصر على طرحي بأنه لا يمكن لنا التقدم إلا بفك إرتباطنا بالرأسمالية العالمية بدفع رجال المال عندنا إلى الإستثمار في القطاعات المنتجة، وما أسميته عدة مرات ب"الرأسمالية الوطنية" التي تخدم الإقتصاد الوطني، وتخلق الثروة ومناصب الشغل بدل إستيراد منتجات مصانع الغرب الرأسمالي وتسويقها عندنا والإكتفاء بتصدير موادنا الأولية والطاقوية باسعار بخسة، لتعود إلينا نفس هذه المواد بعد تحويلها إلى منتجات مصنعة جاهزة للإستهلاك في مصانع الغرب الرأسمالي، فنشتريها بأضعاف مضاعفة لأسعار تلك المواد التي بعناها، وهو ما أسماه المفكر الإقتصادي سمير أمين ب"التبادل اللامتكافيء" الذي يبقي في الأخير على نفس أهداف الإستعمار في الماضي، وهي الأسواق والمواد الأولية، فما يمنعنا أن نقوم نحن بتحويل تلك المواد الأولية إلى منتجات مصنعة في بلداننا بتشجيع الصناعة والفلاحة والبحث العلمي والتكنولوجي ودفع أصحاب الأموال سواء محلية أو أجنبية إلى الإستثمار في القطاعات المنتجة لتلك السلع التي نستوردها، فنخلق الثروة ومناصب العمل، ونستقل إقتصاديا عن الآخر، لكن أعلم بأن البعض سيقولون لنا أنها أفكار قديمة، وأننا نتجاهل العولمة الإقتصادية، فهؤلاء المساكين لا يعلمون أنهم مسيطر عليهم بأيديولوجية وأفكار تروجها اليوم الرأسمالية العالمية بواسطة إعلامها ومنشوراتها لإخفاء إستغلالها البشع لشعوبنا الذي يتم اليوم بشكل ناعم وخفي، فلا يمكن لنا تفسير تغييب الإقتصاد السياسي وتاريخ الفكر الإقتصادي والماكرو- إقتصادي (أي الإقتصاد الكلي) في جامعاتنا إلا كي لايفهم الإنسان أو إقتصادي المستقبل كيف تعمل آليات الإستغلال الرأسمالي العالمي، فيستحيل عليه الذهاب إلى جوهر المشكلة الإقتصادية في بلده، فيخدم بذلك دون وعي منه مصالح هذه الرأسمالية العالمية على حساب إقتصاد بلده كما يخدمها أيضا الكمبرادور المتمثلين في وكلاء الإستيراد لمنتجات الرأسمالية العالمية في الغرب في بلداننا أو ما نسميه في بعض الأحيان إستيراد-إستيراد، ويحققون بذلك نفس أهداف الإستعمار في الماضي، وهي البحث عن مواد أولية وأسواق.
قد أعاد تقرير بنجامين ستورا الذي قدمه للرئيس الفرنسي ماكرون حول مسألة الذكرة بين الجزائر وفرنسا إلى الساحة مرة أخرى مسألة تجريم الإستعمار، وهي القضية التي تعود في كل مناسبة تاريخية كمجازر 08ماي1945 وغيرها، كما تعود كلما تأزمت العلاقات الجزائرية-الفرنسية حيث يعد ملف الذاكرة عاملا جد مؤثر في هذه العلاقات، فقبل قراءة وتفكيك تقرير ستورا المناقض لكل حقيقة تاريخية يجب أن نضع في الحسبان محاولات ماكرون منذ فترة معالجة هذا الملف في إطار شامل بربطه أيضا بالإقتصاد والسياسة والإستراتيجية الفرنسية في أفريقيا، خاصة منطقة الساحل محاولا إستغلال تلهف الجزائر شعبا وسلطة إلى إعتراف فرنسي بجرائمها الإستعمارية والإعتذار عنها، وهو إعتراف يحقق مكاسب ممكن أن تكون رمزية للجزائر وبعض التعويضات، لكن تريد فرنسا ماكرون تحقيق من وراء ذلك مصالح إقتصادية وسياسية وإستراتيجية كمقابل لذلك، هذا ما يدفعنا إلى تساؤل مشروع: ألم يكن تقرير ستورا مجرد مناورة فرنسية فقط للضغط على الجزائر أكثر بملف الذاكرة مقابل تحقيق مكاسب أخرى تضمن لها مصالحها في الجزائر كإبقائها سوقا لسلعها ومنتجاتها فقط ومصدرا لموادها الأولية، ومنها الطاقة؟، فهذا السؤال يحيلنا إلى ما أوردته في بداية هذه المقالة حول ضرورة فك الإرتباط بالرأسمالية العالمية والتخلص من تبعيتنا لها التي كان وراءها الإستعمار.
لكن قبل أن تجيب علينا الإيام القادمة على هذا السؤال، علينا أن نكتف بقراءة لتقرير ستورا الذي يجب أن نضعه في إطار مهمة كلفه بها الرئيس ماكرون منذ جويلية2020، ويبدو أنه قد وضع تقريره في إطار محدد من ماكرون، وهو ما أطلق عليه في حواراه مع جون أفريك منذ أكثر من شهر "المصالحة بين الذاكرتين"، وهو ما يعني تراجع ماكرون عن كل تصريحاته السابقة، ومنها تجريمه الإستعمار عندما كان مرشحا للرئاسيات ثم زرعه أمل بإمكانية تحقيق ذلك بعد وصوله للرئاسة حتى ولو تراجع نوعا ما عن تصريحه الصريح كمرشح، ويعود ذلك إلى إكتشافه منطق دولة يصعب عليه تجاوزه، فعادة ما ردد ماكرون بأنه من جيل شباب لاعلاقة له لا بالإستعمار ولا بحرب التحرير الجزائرية، وهوما يعني إمكانية الإعتراف بالجرائم الإستعمارية والتقدم إيجابيا في مسائل الذاكرة، خاصة أن مؤرخين فرنسيين شباب قدموا خدمة كبيرة للجزائر في مسالة الذاكرة بحكم أكاديميتهم، وكذلك بحكم أنهم من جيل الشباب الذين لاعلاقة لهم بالإستعمار وحرب التحرير مثل ماكرون، كما ان ماكرون براغماتي يمكن المراهنة عليه لتحقيق مكاسب في الذاكرة لصالح الجزائر بسبب ظرف إجتماعي وإقتصادي صعب تعيشه فرنسا، وهو عامل يمكن أن يدفع ماكرون للتنازل في مجال الذاكرة لصالح الجزائر مقابل الحصول على مصالح إقتصادية لفرنسا، ويبدو أن الجزائر قد راهنت كثيرا على هذه المعطيات، لكن تفاجأنا بحديثه الأخير مع جون أفريك عن "المصالحة بين الذاكرتين" واضعا الجلاد والضحية في نفس المستوى، وكأن حتى الجزائر قامت بجرائم وإعتداءات مثل فرنسا، وهو ظلم كبير، فتقرير ستورا يبرز ذلك بوضوح عند الحديث عن فرنسيين وحركى قتلوا بعد1962، وكأن على الجزائر ان تعتذر عن ذلك برغم ان الواقع والمنطق ينفي ذلك دون الحديث عن البحث التاريخي الأكاديمي الذي يثبت عكس ذلك تماما، وهو ما أبرزه بشكل جلي على سبيل المثال لاالحصر بييردوم Pierre Daum في كتابه حول الحركى، فحتى لو وقعت احداث كهذه كما يلمح التقرير، فهل هي في نفس مستوى مجازر إستعمارية في المجال الإنساني وقتل الملايين من البشر دون الحديث عن جرائم إقتصادية وثقافية في حق الشعب الجزائري؟، فعلى فرنسا أن تعترف انها أعتدت، وغزت كيانا قائما هو الجزائر، وعليها الإعتذار عن ذلك والإعتراف أنها ارتكبت جرائم ضد الإنسانية في الجزائر، فعلى فرنسا أن تعي بأنه سيأتي وقت وأن حركة التاريخ تسير إلى إعتبار العالم أن كل إستعمار أو تمجيد له بأنه جريمة ضد الإنسان، أفليس من مصلحتها أن تعترف بذلك اليوم قبل أن تضطر للإعتراف بجريمتها بحكم التطور العالمي مستقبلا وإن عرفت البلدان المستعمرة، وعلى رأسها الجزائر القيام بما أسميته في عدة مقالات سابقة "دبلومسية تجريم الإستعمار عالميا" (عد مثلا إلى مقالتنا "من أجل دبلومسية لتجريم الإستعمار دوليا" في الحوار المتمدن عدد 5155 بتاريخ 07ماي2016).
نعتقد أن المطلب الجزائري هو الإعتراف بالجريمة الإستعمارية، وهو ما رفضه ماكرون صراحة ومن خلال هذا التقرير الذي قدمه ستورا، لكن من المفروض ان يقدم عبدالمجيد شيخي أيضا تقريرا جزائريا للرئيس تبون مادام انه عين كممثل للجزائر مقابل ستورا كممثل لفرنسا، فلا نعرف الآن الموقف الجزائري إلا بعد إطلاعنا على التقرير الذي سيقدمه شيخي للرئيس تبون، فمن المفروض ان يكون تقدم في مسألة الذاكرة بين الجزائر وفرنسا بناء على التقرير الفرنسي الذي قدمه ستورا والتقرير الجزائري الذي سيقدمه شيخي، فلهذا نقول ان تقرير ستورا يدخل في إطار خدمة فرنسا في قضية الذاكرة، ولهذا نجد أشياء تتحدث كلها عن مصالحة في الذاكرة من خلال إنشاء لجنة مشتركة بين الدولتين، ووصل الأمر بستورا إلى إقتراح حتى أسماء، كما يطالب بملتقيات أكاديمية وعلمية، وهو أمر عادي كان يحدث في الماضي، فقد عقدت عدة ملتقيات علمية شارك فيها أكاديميون فرنسيون وجزائريون، كما أن إعتراف التقرير بالجريمة الفرنسية في حق بعض الأشخاص كأودان أو علي بومنجل دون أخرى لايقدم أي شيء، فجرائمها كانت جماعية، ففرنسا الإستعمارية كانت تبيد قرى ومداشر على آخرها، ولم تغتال فقط أفراد كأودان وبومنجل أوغيره، ونشير أنها قد سبق لها أن أعترفت بهذه الإغتيالات تحت ضغوط منظمات، ومنها المنظمة التي دافعت عن ذاكرة أودان، لكن ما نستغربه هو دعوة التقرير إلى وضع تمثال للأمير عبدالقادر وإمكانية القيام بذلك لرموز جزائرية أخرى، فلنذكر الشعب الجزائري أن فرنسا قد أنشأت تمثال للأمير عبدالقادر في سيدي قادة بمعسكر في 1948 بهدف ترسيخ ذلك التشويه الذي ألحقته به بترويجها أنه "صديق فرنسا"، وقد حطمت المنظمة الخاصة هذا التمثال لأنها فهمت اللعبة الإستعمارية جيدا، فهل تريد فرنسا تكرار ذلك اليوم بهذا التمثال الذي يقترحه ستورا؟، كما نتساءل ما معنى تدريس تاريخ فرنسا في الجزائر دون أن يوضح لنا هل سيدرس في المدرسة الفرنسية عن جرائم الإستعمار الفرنسي في الجزائر أم سيمجد هذا الإستعمار طبقا لقانون فيفري2005 الممجد للإستعمار، والذي جاء في فترة كادت أن تصل الجزائر وفرنسا إلى معاهدة إستراتيجية للتعاون في2004، لكن أجهضت المعاهدة بسبب رفض شيراك أي تلميح لإعتراف فرنسي بجرائمها الإستعمارية في الجزائر في تلك المعاهدة، واليوم يكرر ماكرون برفضه نفس الأمر، ويبدو في الظاهر أن هدفه هو إرضاء اليمين المتطرف والسعي لكسب أصواته في رئاسيات قادمة في فرنسا، وقد مهد لذلك بمساسه بالإسلام وبسيدنا محمد(ص)، ويبقى السؤال هل تقرير ستورا وممكن ما تقترحه من لجنة مشتركة إضافة إلى تقرير شيخي الذي ننتظره سيكون مقدمة للوصول إلى إعتراف فرنسي تدريجي بجرائمها في الجزائر؟، فهل سيحقق ماكرون ذلك في حالة وصوله إلى عهدة رئاسية أخرى؟، فهل ستغض الجزائر الطرف اليوم تكتيكيا عن مطلبها الأساسي وهو إعتراف فرنسا ماكرون بجرائمها في الجزائر اليوم خوفا من صعود اليمين المتطرف في فرنسا مستقبلا في ظل أزمة إقتصادية حادة تعيشها فرنسا بسبب وباء كوفيد19، وقد علمنا التاريخ أن كل أزمة إقتصادية حادة يؤدي إلى وصول متطرفين إلى السلطة كما وقع في ألمانيا وغيرها بعد الأزمة الإقتصادية العالمية 1929؟، تبقى هذه أسئلة وإحتمالات يجب وضعها بعين الإعتبار.