رواية (ماركس العراقي) ح 6


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6797 - 2021 / 1 / 24 - 00:30
المحور: الادب والفن     

التفرع والتزهر
حملت سنة 77 أجمل حلم راودني منذ أن رحلنا مجبرين للمدينة الصغيرة وهو العودة إلى مدينتي الأم، لأتخلص من الضيق والتضايق من مجتمع منزوي متشبث بخبث بعلاقات القربى والتفاخر والانتساب لبعضهم، عشت تسع سنوات غريب بجسدي وفكري، إحساس مر ان لا تكون منسجما مع من حولك وشعور ينتابك بأنك لا تنتمي لهذا المحيط، يزداد الشعور بالوحدة والتفرد والتميز كلما أيقنت أن ما حولي لا يمكنهم أن يكونوا جزء من حلم كبير ينمو كالطفل معي، تمر السنون وأنا احلم بنضج فكرة المدينة الفاضلة التي لا مكان لها في الواقع أكثر من كونها فكرة سادية أعذب نفسي بها، المدينة التي تقدس مفكريها وتقدم لهم كل ما يلزم لأن يكونوا مصابيح لها ليزداد بهاء نورها إشعاعا وألقا، جاءت هذه السنه لأتخلص من كثير من الضياع وقد نضجت رؤيتي للأشياء من حولي وصرت قادرا لأن أسمي الأشياء بأسمائها دون تردد أو وجل أو خوف.
من أجمل الأوقات التي يحرص الإنسان عليها عندما يحمل في داخله هدف محاط بعناية وتشجيع حتى لو كان هذا الهدف فوق مستوى الطاقة الأعتيادية، قد تكون محاولتي بالعمل في العطلة الصيفية في معمل تعليب كربلاء والتي يبادر بها لسد النقص في الأيدي العاملة نتيجة زيادة أنتاج الطماطة في موسمها، المرة الأولى أجرب العمل المنتظم ولو أنه كان مؤقتا لكنه في الأخر يمنحك شيء من الشعور بالاستقلال، في مدة ثلاثة أشهر كنت عاملا على الملاك المؤقت في معمل كبير اسوة بعشرات الطلاب أقراني، لي الآن مورد مالي قد عزز من قدرتي على شراء شيء يخصني ملابس وكتب وأحيانا أساهم بجزء من مصروف البيت، جميل الشعور بالنصر وجميل أيضا أن يكون ذلك بمثابرتك واستقلالك.
في المصنع هناك تابعت زميل لي أكبر مني طالب في السنة ما قبل الأخيرة من كلية العلوم سميع ومتفاعل بالحوار في فترة الراحة أو أثناء العمل أيضا، تلازمنا في الوجبات الليلية لأنها أكثر هدوا من وجبة الصباح والظهر، جاء ليجمع لنفسه مبلغا خصصه كليا لشراء الكتب ويدخر جزءا منه للتهيئة لما سيكون عليه ببداية العام الدراسي القادم، منظره وهو مجتهد جدا في أداء العمل مرتديا نظارات سميكة وأناقة حقيقة في الكلام قربتني منه، عرفت أخيرا أنه من الذين تحول ميلهم الفكري من التدين الخالص إلى المجاهرة بالإلحاد بعدما أيقنته البيولوجيا في ذلك فتحول إلى النقيض، لم أكن متوافقا معه فكريا ولكنه منحني المنهج الذي يجب أن أختطه في التفكير والبحث.
كان لتأثيرات خالي القديمة على فكري بريق لا ينسى والآن أصبح بإمكاني التقرب إليه أكثر، فهو أحد مدراءي في العمل كما يمكنني أن اكون بقربه في أي وقت، استبدلت رفقتي مع الجد به وبزواره وأصدقائه الذين كانوا ينظرون للأمور ببساطة وبوعي تلقائي وفطري، الآن مع المجموعة التي تصاحب خالي وكلهم من كبار الموظفين والمتخصصين فيهم البعثي واليساري والشيوعي كما فيهم الناقد والمحلل والأديب، أفضل ساعات الحوار هي التي تمتد من العصر المتأخر وصولا إلى منتصف الليل في الحدائق المنزلية التي تعج بهم يوميا في حفلات خاصة سيدها الخمر والترد يوميا، مع النرد العرق لا تبقى تفصيله من تفصيلات الحياة إلا ويتم أستعراضها بدأ من علاقات العمل وانتهاء بالوضع السياسي للبلد، لكن خيبتي كانت أكبر مما كنت متهيأ لها، فلم يعد خالي ذلك الماركسي الشيوعي العتيد فقد مال نحو المسالمة ومسايرة الواقع، قد يكون شعر بالخيبة أو كانت له مبررات تمنعني هيبته وأحترامه ومحبتي له أن أستعلمها منه .
تحسست أن الأمور في منظومة العمل والحياة لديهم تتسارع بتعجيل منتظم يوحي لي بالاطمئنان للمستقبل، صار هدفي المستقبلي الآن إنهاء دراستي الثانوية ومن ثم الجامعية لألتحق بهذا المكون الجميل كجزء من حلم طويل، عمال وإداريون وفنيون وحقيقيون ومن كل الأصناف عالم أسمه علاقات العمل، مجتمع العمال والمثقفين مجتمع المدينة القائم على التنوع وعلى ما تعط من وجود حقيقي بعيدا نسبيا عما كان في مدينة الجد، القرابات هنا محصورة في أفراد العائلة والعمل الذي يجمع الكل ويشدهم نحو المصير المشترك بعد أن جمعهم المعمل في دور حديثة ومنظمة في رقعة واحدة كجزء من تنظيم العمل وزيادة الأنتاج.
أحيانا يسايرني الحنين إلى كميلة ببراءتها ودموعها التي تقاطرت على خديها كجمانتين لاصفتان وتبرقان تحت شعاع المصباح الكهربائي، مؤلم جدا أن تدع من يحبك بجنون يبكي دون أن تمد يدك لتمسح عنه أو لتضمه لصدرك وتمنحه شيء من الأمان والحنان، لم يكن بإمكاني أن أفعل شيء.... يا ترى هل ما زالت كميلة تتذكرني أو تحن لتلك المواقف الطفولية البريئة، أما رقية التي رق قلبي لها من عميق أحاسيسه فقد تركتها بدون وداع على أمل فارغ أن أكون جديرا بها في يوم من الأيام، ينتابني الحنين يوميا إلى رقية وإن لم يكن بنفس القدر الذي أكنه لكميله التي فتحت في قلبي أول صفحة عشق جميلة، هل الطفولة بإمكانها أيضا أن تخترق زمنها لتطالب بأشياء قد تبدوا مع الزمن من حقوقها المحفوظة، أعيش فراغا عاطفيا لا أعرف الآن سوى زميلة لي في العمل طيبة لحدود الهبل، وإن كانت تعلم أن لا مستقبل بيننا لكنها كانت تتودد وتتقرب وهي تعلم أننا مجرد صدفة قدرية، لم أجد فيها ذاك الغموض المحبب ولا تلك اللهفة التي توحي لي بالمسارعة للاستجابة، حتى انتهت أيام عقدي في العمل لم أعد أراها ولا حتى مصادفة.
في الدراسة الإعدادية تتحرر من الطفولية والصبيانية في طريق تحولك إلى مرحلة النضج الأولي الذي ستقودك لعوالم الرجال، هكذا فهمت أنتقالتي من الدراسة المتوسطة منذ عام وأكثر، أريد أن أكون شيء مختلف أو متبدل حتى، أسعى لتكوين عالم متعدد العلاقات الفكرية وحتى الأجتماعية من دون أن أخسر ذاتي، معرفة ناس وأصحاب جدد والأختلاط ومحاولة فهم ما يدور حولي من حركة فكرية تتضح فيها معالم حياة جديدة ومختلفة، تعرفت في هذه السنة لأول مرة على مضمون فكر له خصوصية بالمدينة وتأريخها كماضي يطل برأسه من جديد ليقول لنا (تأريخكم هو كل ما تملكون فالمستقبل هو أبن التاريخ ولا بد للأبن أن يبر بأبيه)....قرأت بعض الأفكار والمنشورات بالصدفة عن فكر الإسلام السياسي الذي بدأ ضيفا جديدا على المشهد العام أو أنني أكتشفته هكذا.
لم يكن هناك ما يشدني لها بقدر ما أعطت لي تصور يعمق فكرتي الأولى عن العروبة والإسلام وعن صراع القطبين على احتواء الموقف لصالح أي منهم، فكرة الصراع بين العقل والعقل الأخر أمقتها أصلا، أقصاء الأخر يذكرني بالتهميش الذي عشته بمرارة تمنيت أن تكون المناظرات أمام الناس ووجها لوجه، كي لا يحرم العامة وصغار المثقفين من فرصة الإطلاع المباشر على الرأي والرأي الأخر، هنا تكون وظيفة الفكر صناعة الوعي لا تغيب المدارك الصانعة له .
أصبحت الجريدة الصباحية في متناول اليد أما أجهزة التلفاز فهي متوفرة ناهيك عن المكتبة المركزية بسعتها وتنوع خزينها يفتح أفاق لمن لا يرغب بالقراءة أصلا، أحسست أن العالم أصبح مفتوحا على كل الطرقات لا من مشكلة أواجهها في ترقية أفكاري، غير قلة الأصدقاء الذين يؤمنون حقا بأفكارهم ويدافعون عنها بعلمية دون ترديد المقالات السمجة، أحيانا البعض بضحي حتى بروحه من أجل المبدأ، ولكن الأفضل أن لا تدع نفسك أضحية ما لم تكن هذه التضحية متناسبة مع النتيجة.
كنت اتألم لشهداء الحركة الفكرية السياسية في العراق ممن كان على خطي القومي أو من الرفاق الشيوعيين، كراهتي للسلطة ابتدأت من لحظات تفكيري الأولى بأي حق إنساني يقتل صاحب الفكر وهو حر بما يعتقد، إن كان على صواب فهو ينفع المجتمع وإن كان على خطأ فالأيام هي من تعاقبه، إلا الذين يدعون إلى هزيمة الحياة نفسها فلا أظن القتل مناسب أبضا.
ما أن أنتهى العمل في مصانع تعليب ربلاء حتى بدأت أول أيام الدراسة في العام الجديد، فقد تأخرت بإجراءات النقل من مدرستي القديمة إلى كربلاء، من حسن الصدف أن الأستاذ عدنان الذي كان معاونا للمدير في الثانوية هناك صار معاونا أيضا في الثانوية التي وقع الأختيار عليها، فقد أقنع والدتي وهو يعرفها كونه من جيراننا أيضا بأن الفرع الأدبي أكثر تناسبا لي مع معرفته بي وبظروفنا المعيشية، وهكذا تم تسجيلي في الفرع الأدبي في ثانوية القدس، رغم بعدها عن محل سكني لكنها تتصف بوجود كادر تدريسي جيد جدا ومن ذوي الخبرة الطويلة، ذهبت أحلام الكيمياء ومعادلاتها والجدول الذري أدراج الوهم وعلي القبول بالأمر الواقع، في أول أيامي في إعدادية القدس كان الجو مشوشا علي فكل الطلة زملائي لم تكن لي صلة معرفة بهم أضافة إلى نظرة البعض لي بأني لست كربلائيا كما يظنون، أيام وتلاشت الفكرة ونسجت خيوط الصداقة مع الجميع إلا من كان يحمل نفسا عنصريا وهم أصلا ليسوا من أبناء المدينة بل هم بقايا مرتحلة من دول الجوار.
في أول الأيام تعرفت أيضا إلى نمط أخر من الأساتذة فيهم من كان يحمل شهادة الدكتوراه في الأدب العربي، تعجبت أن يكون مثل هذه الشخصية بعيدا عن الجامعة، وجدت فيه شخصا أخر يمنحك المعرفة من منبعها وكأنه يمنحها لأبنه، بالرغم من كونه أستاذا كبيرا ومن عوائل كربلاء العريقة إلا أنه بسيط جدا حتى في رعايته للطلاب يمازحهم ويبتسم في وجوههم رغم شعوري بالألم الدفين الذي يعتريه، كان هناك أستاذ رائع جدا ما زلت أكن له كل الأحترام والمحبة إنه سعد الوزير أستاذ علم مادة علم الأجتماع الذي كان موسوعة ميسرة وحبيبة وقريبة للقلب، حسين البزاز أستاذ اللغة الإنكليزية الي أقتلع من داخلي كره المادة وحببها لي بوجهه البشوش الضاحك، أما أستاذ الاجتماعيات ناظم كان هو الأخر برغم حدته إلا أنه ساخر وقريب جدا من طلابه، لم أعتد هذا الجو من قبل وساهم وجودهم بكل قوة بأن أقبل بخيار الأستاذ عدنان لي.
أنتهى العام الدراسي سريعا بكل جمالياته وبحضوري بين طلبة أصبحوا جزء جميل من تاريخي، عدنان عبود الشخصية القيادية في المدرسة ورئيس الأتحاد الوطني للطلبة، شاب ذو عينين تبرقان حبا وأدبا، صاحب العكيلي لاعب منتخب كربلاء بكرة السلة واليد، ماجد النقاش الفنان الفطري والمثقف المتدين، عبد الزهرة الخزاعي رفيقي اليومي في الطريق ذهابا وأيابا، حسين شعيب وعبد الزهرة الجميل ذو العينين الخضراوين ومنافسي في الدرجات والتفوق وزميلي لاحقا في كلية القانون، المرحوم عبد الله الفواز الفيلسوف المبكر والمثقف الناضج، هاني عاشور الشاعر والأديب الذي ينضح فخرا وتكبرا.
عام 1979 عام الشؤم والإنكسار وتهديم الكثير مما كنا نبنيه كشباب وقد حملت معها إنعطافة كبيرة سياسيا، فقد شهدت غياب الكثير من الأصدقاء جبرا، فقد تم تسفير صديقي ماجد النقاش إلى إيران وهو أبن كربلاء وجزء من ثروتها الحضارية هو وعائلته كالعشرات من العوائل الأخرى، كنا نراهم يمرون فجرا محملين بباصات كبيرة تقذفهم نحو المجهول، أصبح الوضع أكثر تعقيدا خاصة بعد أن فرض علينا واجب الخفارات والمبيت مرة في الأسبوع في المدرسة بحجة تأمين الحماية لها، سمعنا بوضوح هذه المرة بوجود تنظيم حزب الدعوة وخطره والتهمة تعني الموت الأبدي لمن تلتصق به صدقا أو كذبا، تحول الصراع هنا بين البعث والدعوة ولم ينتهي صراعه السابق مع الشيوعيين، البعث الحزب الواحد بعد أن كان يطرح شعار الحزب القائد، كانت مرارة التسفير عند الكثير من الناس شديدة بفقد أعزاء وأصدقاء وأفرياء لا شأن لهم بالسياسة ولا بصراع مقبل بين دعاة الدين وفرسان القومية.
هذه السنة اخرجتني من الثنائية التي كنت أدور فيها بين البعث والشيوعية بدخول الفكر الديني المصاحب للثورة الإيرانية، فكرتي التي تمسكت بها من أوائل أيامي أدراكي الفكري أن العرب هم قلب الإسلام وما لم يعمل القلب جيدا لا يمكن للبدن أن ينهض بالمهمة، كنت أتمنى أن يكون الحدث عربيا طبعا حدث الثورة وفي العراق بالذات لينتقل منه إلى سوريا هذه المعادلة الوحيدة التي يمكن أن تبسط الوحدة العربية، هذا الأمر أظنه سنة تأريخية العراق وسوريا أولا ثم مصر لتنتهي الأوضاع بهذا الترتيب، ونكون أمام القوة التي تصنع الوحدة وتجوهر الطريق للمسلمين في طريقهم أيضا.
تمسكت بهذا المنحى ودافعت عنه بقوة ورأيت ان الحدث الإيراني لا يخرج عن لباس إسلامي لثورة قومية فقط تنبع من طبيعة المجتمع الفارسي الذي يدافع بشيفونيته المتمركزة بالذات الفارسية، ويستخدم الدين منافحا عنها وكأن الإسلام هو الفارسية والفارسية المستهدية بالإسلام هو الكون الإسلامي الكامل، لم أقف ضد تطلعات الشعب الإيراني بحقه في تقرير مصيره ولكن كنت أخشى النفس القومي الذب عشت نفحات منه هنا في كربلاء، الفارسي لا يذيب روحه في أي مجتمع ويبقى وفيا لها حتى يهلك، العنصرية تتمركز مع الدين وتحيدا المذهب ستشعل النار في جسد المنطقة، هذه كانت قراءتي فأعلنت أنني ضد التوجهات القادمة من الشرق ولا بد من حكمة وسياسة هادئة لإطفاء الحريق القادم نحونا، لست مع خطوات البعث في تهجير من لا ذنب له فكلنا لو رجعنا في أصولنا قد نكون غرباء عن هذا البلد، ولكن من يسمع وطبول الفوضى والنار القادمة تقرع بقوة.
في مدينتي كربلاء لم يكن طرح هذه الرؤيا على الخواص سهلا دون أن تتهم بالعنصرية ومعادات الإسلام أو أقلها الولاء لآل محمد، ما كنت أعده الرفيد لفكري القومي تجلى اليوم في موقفي من الثورة الإيرانية، كنت أصر أمام مسؤولي الحزبي أنها ثورة إيرانية حقيقية تنتسب للمجتمع ذاته وليست شيء أخر، كان الإعلام والتوجه الرسمي يصفها بالمؤامرة الإمبريالية الصهيونية، من الغباء ان تتعامى عن حقائق الأرض لثبت التوهم، صارعت بهذه الفكرة كلا الاتجاهين القومي البعثي والديني الشيعي، أما الشيوعيين لم يبقى لهم وجود ظاهر حتى خالي الذي كان من أشهر الشباب الشيوعي هو الأخر تحول إلى المد البعثي وصار أقرب للقوميين منه للأمميين.
دخول الإسلاميين الخط الفكري وانتشار أثار وأفكار الثورة الإيرانية في صفوف الشباب خاصة من الذين لديهم حس مستفز من العناصر التي ترعرعت في ظل تقوقع فكري لا يسمح بالخروج من الثوابت الفكرية، أو من الذين لم يقرأوا تماما حركة الفكر الإنساني، وممن له أرتباط خفي كان تحت رماد الهدوء والسكون الفكري، خرجت همهمات توحي بقوة لوجود تيار قوي يريد الصعود ومتسلح بكل قواعد الصراع الفكري مستغلا ظواهر تمدين المجتمع بمنهج قهري لم يكن يستوعب روحيته المحافظة وعلمانيته التي ضايقت الفكر الحر، واعتبرت ما فيه خطر وجودي على التيار القومي .
الأحرى عقليا أن يتحالف التياران بوجه القوى المناوئة والتي تتحذ من الإلحاد والأممية فكرا وطريقا، لاسيما أن الفكر العروبي في جوهرة مستند بقوته على ما يمنحه له الإسلام من قوة، وما قدم الإسلام للعروبة أكثر مما قدمت العروبة لنفسها، ظننت في حينها أن الفرق ليس بذاك البعد بين القومية العربية والإسلام المحمدي لأنهما وجودان متبلوران وفق خط تكاملي واحد، نبع من مكة والمدينة لينتهي في عواصم ثلاثة وعشرون دولة عربية الآن.
تمسك الإسلاميون بمنهجهم المنحاز دون مساومة ولا حتى ببرغماتية عملية تهيئ الظرف وتوسع قاعدتها بالسلم والمحبة بدل العنف ونبذ الأخر، لم يعط لكل الأطراف فرصة لاحتواء التمزق الذي بدأ ينتشر في عموميات وخصوصيات المجتمع، في المرحلة الإعدادية وجدت نفسي وجها لوجه أمام شريحة من الشباب سبقتني إلى مواضيع لم أكن أضع أدراكها في الحسبان، كتاب فلسفتنا واقتصادنا والكثير من جواهر الرؤى الفكرية التي وجدت بعض من الزملاء قد سبقوا وأمعنوا في هضمها، حتى صارت لهم ما يشبه القرآن الثاني، أما أنا فما زال المنهج الكلاسيكي التي صاغته وفرضته العزلة في مدينتي الصغيرة وتقوقعي في نقاشات الهدف منها أثبات الفوز والغلبة دون أن تؤسس لشبابيك فكرية أنطلق منها إلى عوالم بحثية راقية، هي التي صاحبتني في تلك الفترة التي أعلنت أنتصار الثورة الإيرانية وما تبعها من فيض فكري نخبوي أمتد يتغلغل في صفوف الشبيبة والشباب برغم الخوف والملاحقة.
لا بد من البحث مجددا من أول الطريق فليس ما يملكه البعض من خزين ثقافي يتيسر بسهولة لي دون منهج في القراءة، البعض من أساتذتنا يسير على أفق رحب في أفكارهم، استفدت من ملاحظات أساتذتنا في علم الأجتماع والأقتصاد الذي درسته للتو في المرحلة الأخيرة من الإعدادية وفتنت به سيكون بطرا، المعرفة باب يقود لأبواب أكبر ومساحات أعظم من الرؤية للواقع وفهم حركة الوجود، هنا دخل فكر علي الوردي يتغلغل في صفحات تفكيري الجديد فعطست به حد الافتنان، كنت أتساءل مع نفسي هل حقا أن البداوة مسخت من العراقي شخصيته الحضارية فعلا، هل فكر الخميني يشكل إنقاذ من بداوة مبشيل عفلق أو أممية لينين الوحشية وأفكار ابن خلدون التي أسست لمفهوم القومية والعصبة التنظيمية؟ أيضا سؤالي الذي شتتني مرة أخرى، هل من بديل حضاري يمكن أن يزرع في الشخصية العراقية روح المدنية التي مزقتها أخبار الاعتقالات والإعدامات التي تجري في الظلال وتنتشر في العلن.
كانت نهاية الدراسة الثانوية لي بداية لعالم مختلف ومضطرب ابواق الحرب تنفخ في كل مكان، زيارة السادات ما زالت تداعياتها تضرب في العمق الواقع القومي وتحيل أحلام الوحدة إلى ورق مسافر مع الريح في ظل عاصفة لا يمكن لأحد قبل سنوات يتوقعها أو على الأقل يقبل بها، إسرائيل تدخل لبنان بكل وقاحة وأمام أمة تشتعل شعارات ليلا ونهارا بأن العرب سيقذون كيان الصهاينة في البحر، لم يعد بريق المقاومة الفلسطينية يجذب الشباب المتحمس وإن كان المعارك حامية الوطيس في ربوع وتخوم أرض العرب، أحاديث النضال والكفاح من اجل الغد الحالم تبدلت نحو أجواء أخرى، نحن الذين لا صلة لنا في القرار السياسي وصناعته في ذهول حقيقي عما يري وكأن الأمر يحدث في كوكب بعيد بين أقوام لا نعرفها ولا تعرفنا، ,الأحداث تجري بسلاسة نحو نهايات تتأزم تحمل معها غيوم سوداء للمنطقة، أخبار تهجير ذوي الأصول الإيرانية والأجنبية تتزايد دون أن نسمع ردة فعل شعبية ولا حتى إنسانية.
رافقت الأحداث تبدلات في حقيقة الشعور في المواطنة وشروطها أحتفالات كبيرة وصاخبة وترف معيشي بدأ بتغلغل في سلوكيات الكثير من العوائل العراقية، تخفي تحت مظهرها الكثير من الألأم المكبوتة التي لا يريد أحد أن يسمعها، حملة اعدامات مستمرة تجري بتكتم وإرهاب على ذويهم كي يصمتوا دون أن يظهروا حتى الحزن، عشرات الألاف من العمالة المصرية والأردنية تتوافد على العراق بشكل لم يحدث في التأريخ القريب للمنطقة، هناك تبدلات بنيوية كبرى مست النسيج الوطني وخربت الكثير من عراقية الواقع، الشيوعيين بين متخفي أو صامت أو مهاجر أو لا يعرف أحد له قرار في أي مكان معتقل أو مأسور، نذر مخيفة وغيوم تتلبد بسماء العراق معها لم يعد التفكير يستوعب أو يلاحق المخفي في الوضع العام.
في زخم الاندفاع نحو المجهول المعلوم تكاملت الكثير من أدواتي الفكرية والشخصية وعرفت المنهج وأدركت أن الفكر يعني الحياة بوجهها المشرق الباني ضد كل أشكال الكراهية والظلم وقمع الحرية، لم أعد ذلك الفتى السفسطائي الذي تبهره الحوارات والتألق بالغلبة والفوز أحلام الطفولة لم تعد تستهويني، مصاحبتي للكثير من زملاء الدراسة ماجد وهاني والكثير ممن تعمقوا في مسارات محددة نقشت ملامح توجه جديد أضيفت لها بعض تأثيراتي على تعقلي وعقليتي المتقبلة والمستعدة للتلاقح بدون حواجز أو حدود، لابد من شخصنة الرؤية الفكرية منسوبة لي لذاتي للقناعات التي تؤمن بها بيقين الأنا المتسامحة المسالمة عاشقة الحرية للحرية، لذا استثمرت العطلة التي تسبق التسجيل في الدراسة الجامعية لقراءة القرآن الكريم والعودة لفهم قضية الدين من منبع صافي، أنا وكتاب الله ووسيلتي إيماني أن الخالق أكبر من أن يؤمرنا بتخريب الوجود لينجح فلان يسقط فلان.
في الحرب كما في الحب دوما هناك خيوط تجرك دون أن تعي أنك ستمشي لتخوض أمرا ليس بمقدورك الهرب منه أو تجنبه على الأقل بلا هوادة، حرب الأفكار والمعتقدات من غير أسلحة نارية تقتلك أو تقتل بها من تشاء، لكنها أكثر تأثيرا من مختلف الحروب وأشد وطأة، لم أنسى حبي الأول ولم أعد أحتمل حركات المتعشقين بالوهم، أردتها تجربة ناضجة بعقلي لا بقلبي لأنني أعرف أن كل خيباتي وخساراتي بسببه، لذا لا بد من البحث عن حب عاقل لمحب مجنون، حب لا يمكنه القفز فوق السطوح المكشوفة ولا يخذل روحي المعذبة يكفيها ما عانت، جب امتلاك للروح بتبادل أدوار العطاء، قد يقول البعض من أصدقائي عندما يخبرونني عن حلمي أنك تحلم بناموس جديد من رحم الخيال، انتظر أن أجد يوما ضالتي تنتظرني على ضفة نهر ساكن أو ركن هادئ، أو في طريق لا بسلكه إلا من عشق الأرض أكثر من عشقه لروحه.
وجودي في الظل لا يعني فقداني التأثير لعبت أدوارا مهمة تكفيني وتشبع رغبتي بالحضور وسط هذا المجتمع، قد يكون أهتمامي بالتخرج سريعا ودون مشاكل منعني الانغماس التام في الاضواء، حظيت بإعجاب أساتذتي وبالأخص مدرس اللغة العربية الذي كان مفتخرا بي، طلب مني يوما أن أرافقه بعد الخروج من المدرسة ولوحدنا، كان يضمر لي كلام مهم وأوصاني وبروح الاب الحريص، أن لا أكتب الآن ولا أتسرع في الكتابة ولا أطرح أرائي علنا، قال أكتب وأنجز أفكارك ثم مزق ما كتبت حتى تكون خارج أطار الخشية من المجهول، قال بعض أفكارك تسبب لك القتل حرصت بعدها أن أتذكر تلك الكلمات الخالدات التي أدين بها له وحياتي أيضا، فقد نجوت مرات ومرات مما كنت أفكر بها وقررت لا عودة لها مطلقا.