بوابـةُ العَدَم


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6790 - 2021 / 1 / 17 - 11:44
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

Facebook: @NaootOfficial

هَبّةُ هواءٍ عاصف تفتحُ بابَ الفصل. فيسألنا معلّمُ الرياضيات: مَنْ دخل الآن؟ فهتفتُ بكل ثقة:"فاي." فرمقني الأستاذُ بعتابٍ قائلا: "غلط!” وأجاب تلميذٌ آخر: "صفر؟" وتتوالى الإجابات "الغلط" من تلاميذ الصف الأول الإعدادي. أما "فاي"، ويُكتب رياضيًّا هكذا: Ø، فهو "اللا شيء" أي "العَدَم". وهو قيمة افتراضية لا وجود لها. لذا رفض المعلمُ إجابتي؛ لأن الذي دخل الفصل هو "كتلةٌ من الهواء"، يعني: "شيء محدد"، وليس عَدَمًا. وأما زميلي الذي افترض أن "لا أحدَ دخل الفصل" يعني صفرًا، لأننا لم نرَ "إنسانًا"، يدخل، فقد وقع في مغالطة اعتباره أن البشر وحدهم قابلون للعدِّ والإحصاء، ولم يدرك أن الهواءَ الداخل يحمل ملايين الذرات والإلكترونات الخ. بل أن الهواءَ في ذاته مكوّن من عدة غازات وأبخرة مختلطة، ومن ثم مستحيلٌ أن يكون "صفرًا”. وتعلمنا يومها أن هذا "الصفر"، الذي نراه "تافهًا"، هو رقمٌ ضخم جدًّا جدًّا. إذ إنه يسبق عددًا لا نهائيًّا من الأرقام السالبة. فالصفرُ يتربّع كملك متوّج في منتصف خط الأعداد الذي يمتد يمينًا ويسارًا بغير انتهاء إلى حيث يشاءُ الله. أكبرُ أرقامه، التي تقع على يمينه، (+ما لانهاية)، وأصغر أرقامه، التي تقع على يساره، (–ما لانهاية)، وكلاهما رقمٌ افتراضيّ لا وجود له لأنه متناهٍ في الكبر، أو في الصغر. مثلما نأتي بحبل طوله متر، ثم نقسّمه نصفين كلّ منهما نصفُ متر، ثم نقسّم كل نصف إلى ربعي متر، وهكذا بشكل دائم. لن نحصل على الصفر أبدًا، بل على قِطع من الحبل متناهية القصر. لأن الصفر ليس له مضاعفات ولا أجزاء. لو ضربته في/ أو قسمته على رقم، ستحصل على صفر أيضًا. لكن لو قسمت رقمًا عليه ستحصل على قيمة غير متعيّنة، لا وجود لها في حقل الأعداد الطبيعية ولا المُتخيّلة. هذه "الإعجازية" لرقم الصفر هي التي دعت الفيثاغوريين، نسبة إلى فيثاغورس، إلى احترامه واعتباره أحد مفاتيح ألغاز الكون، حتى لُقِّبوا بـ"عَبَدَة الصفر". وهي كذلك التي دعت الرياضيين الجدد إلى ابتكار الرمز (فاي Ø) للتدليل على العدم أو اللاشيء، لكي يردوا الاعتبار للصفر العظيم الذي هو بوابة العدم، وليس العدم. الصِّفرُ مفتاحُ العدم، مثلما "الصبر مفتاح الفرج". البوابة التي عبرها نمرق إلى عالم الأرقام السالبة التي لا نهاية لها. هذه "اللانهائية" هي التي بنى عليها السفسطائي "زينون الإيلي"، في القرن الخامس قبل الميلاد، معظم مفارقاته وحججه التي حيّرت المناطقة والرياضيين. إذ تنطوي على سلامة منطقية فلسفية، وتخالفُ الظاهرة الفيزيقية المرئية. مثل استحالة أن يسبق "أخيلُ" السلحفاةَ! و" أخيل" هو أسرعُ عدّاء إغريقيّ وصفته الإلياذة بالسريع القدمين. لو بدأ "أخيل" السباق متأخرًا عن السلحفاة بمسافة مليمتر واحد، لن يسبقها. لأن السلحفاة سوف تترك مكانها قبل وصول أخيل ببرهة من الزمن، وسيكون عليه دائمًا قطع عدد لا نهائيّ من المسافات الضئيلة التي قطعتها السلحفاةُ قبله، وبذلك لن يسبقها أبدًا منطقيًّا ورياضيًّا! وهي إحدى مفارقات "زينون" الشهيرة التي بناها على نظرية "المتوالية الحسابية والهندسية". تلك المفارقات نبهت علماءَ محدثين مثل "آينشتين" إلى اندماج الزمان والمكان بحيث لا يمكن فصلهما فغدا الزمنُ بُعدًا رابعًا للكون وبه يوصف المكان. في حين فصل "زينون" الزمان عن المكان فذهبت إحدى مفارقاته إلى استحالة حركة جسم من نقطة إلى نقطة؛ بما إن عليه أن يقطع "عددًا لا متناهيًا" من المسافات. وبما أن اللامتناهي لا وجود له، فلا يمكن قطعه في زمن متناه. كذلك بما أن كل جسم "الآن" موجودٌ في مكان محدد، فبالتالي هو ساكن، وبما أن الزمن مكون من عدد لا متناه من هذه "الآنات"، فإذن كل الأجسام ساكنة لا تتحرك! وهنا الفكرة وراء الرسوم المتحركة التي تعتمد على عرض صور ساكنة بشكل متتال متتابع فنشعر بحركة الأجسام الساكنة أصلا.
قبل سنوات بعيدة، كنتُ أتجوّل في حي "حدائق القبة"، وقد أنهيتُ قراءة كتاب "عبدةُ الصفر" للفرنسي "آلان نادو”. لمحتُ محلاً للزهور مكتوبًا عليه "عبدة الزهور الجميلة" (بالتاء المربوطة). اندهشتُ وقلتُ لابد صاحب المحل شاعرٌ، إذ آمن أن الزهورَ لها محرابٌ للتعبّد! دخلتُ المحلَ وصافحتُ المدير بحرارة وسألتُه كيف ابتكر اسم المحل الفريد، وإن كان قد اقتبسه من عنوان كتاب "نادو": "عبدة الصفر"؟ فخرج معي إلى بوابة المحل ورفع بصره قائلا: "نادو مين وصفر مين؟! أنا اسمي "عبده" (بالهاء)، ودي الزهور الجميلة! سلامة عقلك يا ست!"
“الدينُ لله، والوطنُ لمن يروي زهور الوطن.”
***