مقاربة الاتجاه البلشفي لبناء الدولة القومية (1)


عبدالله تركماني
الحوار المتمدن - العدد: 6785 - 2021 / 1 / 11 - 14:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

مقاربة الاتجاه البلشفي لبناء الدولة القومية
وهو اتجاه متميّز فيما يتعلق بالمسألة القومية، كان لينين وستالين من أهم قادة هذا الاتجاه، لذا فإننا سنتعرض إلى مساهمتهما، ومن خلال ذلك سنتعرف على تيارات ماركسية أخرى (الاستقلال الثقافي الذاتي/أوتو باور، والعدمية القومية/ روزا لوكسمبورغ، الاقتصادية الإمبريالية بشكليها الأوروبي والآسيوي/ بوخارين وروي)، وقف منها لينين موقفاً نقدياً صارماً.
لقد كان لينين من الماركسيين القلائل الذين نظروا إلى المستعمرات كسبب للنهوض الثوري في النظام الرأسمالي ككل، وكعامل أساسي في الاستراتيجية الثورية خلال المرحلة الإمبريالية. وكانت النقطة المركزية في المفهوم اللينيني حول المسألة القومية هي الربط بين المسألة الوطنية والقومية من جهة، وبين المسألة الاجتماعية – الطبقية من جهة أخرى. فلم يكن إلاّ مساجلاً ضد الطرحين الحديين: الطرح الذي يختزل المسألة القومية بأنها مسألة طبقية، والثاني الذي يتناسى المحددات الطبقية في المسألة القومية نفسها.
وقد ميّز بين اتجاهين لتطور الرأسمالية، وحدد علاقة هذين الاتجاهين بالمسألة القومية: أولهما، الاتجاه السائد خلال مرحلة القضاء على الإقطاع والأطوار الأولى من الرأسمالية، وهو الاتجاه نحو بناء الوحدات القومية والدول القومية. وثانيهما، هو الذي يسود الرأسمالية في أطوارها المتقدمة، حيث تتجاوز الأطر القومية وتتحول إلى قومية شوفينية.
لقد مرت التصورات اللينينية عن المسألة القومية بثلاث مراحل كبرى من التطور:
أولاً- مرحلة التكوّن (1895-1913)، وهي المرحلة التي تشمل كل الحقبة التي سبقت ورافقت وتلت مباشرة انعقاد مؤتمر الحزب الاشتراكي – الديمقراطي الروسي في عام 1903.
إنّ أول إشارة في كتابات لينين إلى حق تقرير المصير وردت في مشروع برنامج الحزب الاشتراكي – الديموقراطي، الذي كتبه في سجنه ببطرسبورغ في عام 1895 – 1896. وقد كانت الإشارة إلى ذلك الحق مبهمة وغير محددة، وتطالب لا بحق تقرير المصير وإنما بـ " حرية الضمير والمساواة بين جميع القوميات " في الإمبراطورية الروسية. وفي المشروع الثاني لبرنامج الحزب في عام 1899 اكتفى بصياغة مطلب ديموقراطي عام مثل " المساواة التامة بين جميع المواطنين ".
والواقع أنّ أول ذكر لحق الأمم في تقرير مصيرها لم يرد بصيغة واضحة إلا في مشروع برنامج الحزب لعام 1903، حيث نصَّ البرنامج في البند التاسع من الفقرة (ج) على: الاعتراف لجميع الأمم التي تتألف منها الإمبراطورية بحقها في تقرير مصيرها. وقد ساهم هذا البرنامج، حول المسألة القومية، في تقارب الشغيلة المنتمين إلى أمم متعددة في نضالهم المشترك ضد النظام القيصري من أجل تحررهم القومي والاجتماعي (1).
وقبل إقرار الصيغة السابقة في برنامج المؤتمر الثاني للحزب الاشتراكي – الديموقراطي الروسي كان لينين قد كتب مقالين عن المسألة القومية: أولهما، بخصوص ما طرحه الاشتراكيون – الديموقراطيون الأرمن حول المسألة القومية، خاصة في منطقة القوقاز التي تتميز بتعايش عدة قوميات. وثانيهما مناظرته مع الاشتراكيين البولونيين.
ففي منتصف عام 1902 تشكَّلَ في القوقاز فرع جديد لحزب عمال روسيا الاشتراكي – الديموقراطي تحت إسم " اتحاد الاشتراكيين – الديموقراطيين الأرمن ". ونظراً للوضع القومي المعقد في القوقاز، حيث تتعايش عدة قوميات خصّص التنظيم الجديد قسماً كبيراً من بيانه التأسيسي الأول للمسألة القومية. وقد ميّز البيان، في طرحه لهذه المسألة، بين مستويين اثنين: المستوى الروسي (كدولة متعددة القوميات) والمستوى القوقازي (كإقليم متعدد القوميات داخل نطاق تلك الدولة).
فعلى مستوى الدولة الروسية طالب البيان بتأسيس جمهورية اتحادية في روسيا الحرة مستقبلاً كضمانة للتطور الحر لجميع القوميات الداخلة في تركيب الدولة الروسية.
وعلى مستوى إقليم القوقاز رفض البيان إدراج مطلب حق تقرير المصير للقوميات القوقازية في برنامج " الاتحاد الأرمني "، حيث تتعدد القوميات والإثنيات وتتداخل حدودها الجغرافية. وبالمقابل طالب البيان بالاستقلال الذاتي للإقليم، فيما يتعلق بالحياة الثقافية، كحرية اللغة والمدارس والتربية.
وقد رحب لينين ببيان الاشتراكيين – الديموقراطيين الأرمن، وأشار إلى أنه قد طرح المسألة القومية طرحاً صحيحاً واشتراكياً – ديموقراطياً، ولكنه لاحظ، في الوقت نفسه، أنه اشتمل على بعض الأحكام المتسرعة. فمطالبة البيان بجمهورية اتحادية في روسيا الحرة مستقبلاً تتناقض مع حق تقرير المصير، فالاتحاد لا يقوم أصلاً إلا بين كيانات قومية مستقلة ومتمتعة – من الأساس – بحق تقرير المصير.
وهكذا، فقد اغتنم لينين فرصة هذا " التناقض" الذي أوقع الاشتراكيون – الديموقراطيون الأرمن أنفسهم فيه ليشرح معنى حق تقرير المصير وموقـف الاشتراكيين الديموقراطين الروس منه:
(أ)- إنّ الاشتراكيين – الديموقراطيين الروس إذ يرفعون شعار حق الأمم في تقرير مصيرها لا يقصدون من ذلك – البتة – تجزئة الدولة الروسية وخلــق دول مستقلة، ذلك أنّ مهمة البروليتاريا الثورية توحيد نضال عمال جميع القوميات على أوسع نطاق ممكن من أجل الجمهورية الديموقراطية والاشتراكية، وليس هدفها تجزئة ذلك النضال باسم الاعتبارات القومية.
(ب) – إنّ حق تقرير المصير هو، بالتالي، حق سلبي، فما دام الهدف توحيد نضال عمال جميع القوميات، ومادام الاضطهاد القومي يعرقل هذه الوحدة، لذا فإنّ " الاعتراف بحق تقرير المصير لكل قومية يعني – فقط - أن من واجبنا، بوصفنا حزب البروليتاريا، أن نكون دوماً، وفي كل الشروط، معارضين لكل محاولة للتأثير من الخارج، بالعنف أو بالظلم، على التقرير الحر لكل شعب لمصيره ". وهذا الواجب، واجب نضالي ضد العنف في المسألة القومية وبالتعريف " واجب سلبي ".
(ج) – إنّ حق تقرير المصير لا يأخذ معنى إيجابياً إلا إذا فُهم على أنه حق بروليتاريا كل أمة في تقرير مصيرها، والاشتراكيون – الديموقراطيون إنما يناضلون في سبيل هذا الحق وحده، لا في سبيل حق الأمم والشعوب – ككل – في تقرير مصائرها.
(د) – إنّ الاشتراكيين – الديموقراطيين إذ يلتزمون بحق تقرير المصير لا يلتزمون ولا يعترفون، في الوقت نفسه وبصورة آلية، بكل مطالب الاستقلال القومي، فمطلب الاستقلال القومي أو الذاتي " ليس مطلباً إلزامياً في برنامج البروليتاريا، ولا يمكن أن يصبح كذلك إلا في حالات خاصة واستثنائية ".
وهكذا، فإنّ لينين، في أوائل عام 1903، لم يكن يرى إلا الوجه السلبي للنزعة القومية التي كان يؤجِّجُ أوارها الاضطهاد الروسي الرجعي لمواطني/ رعايا الإمبراطورية من غير الروس، ولم يكن يرى وجهها الإيجابي. كان يعي ويدرك أنّ الاضطهاد القومي يذكّي جذوة الخصوصيات القومية، ويهدد – بالتالي – وحدة نضال عمال جميع القوميات، تلك الوحدة التي كانت ضرورية للإطاحة بالقيصرية، ولكنه كان منتبهاً – بالمقابل – إلى أنّ الاضطهاد القومي يؤدي أيضاً إلى تأجيج نضال أبناء القومية المضطهَدة ضد الاوتوقراطية. وذلك هو بالضبط دياليكتيك الظاهرة القومية في دولة أتوقراطية متعددة القوميات: من جهة أولى، ميل إلى الانعزال والانفصال والخصوصية. ومن الجهة الثانية، رفد للحركة الثورية، المناضلة في سبيل الإطاحة بالطبقة الحاكمة الأتوقراطية بكل سخط الأمة المضطهَدة وتمردها.
وفي شهر مارس/آذار عام 1903 نشرت مجلة " الفجر " الناطقة بلسان الحزب الاشتراكي البولوني (2) مقالا بعنوان " موقف الاشتراكية – الديموقراطية الروسية من المسألة القومية " لروزا لوكسمبورغ حملت فيه – بشدة – على تفسير لينين " المدهش " لمبدأ حق تقرير المصير، واتهمت الاشتراكيين – الديموقراطيين الروس بأنهم يريدون أن ينصّبوا أنفسهم" أساتذة " في مسألة حقوق الأمم. وأضافت: إنّ الهدف الأول للاشتراكيين البولونيين هو تحرير بولونيا وتوحيدها وإقامة الاشتراكية فيها، وإنّ هذا الهدف لا يتناقض مع نضال الاشتراكيين الروس في سبيل الإطاحة بالقيصرية، وكل ما هنالك أنّ دور الاشتراكيين البولونيين يكمن في " إضعاف القيصرية عن طريق سلخ بولونيا عنها "، أما الإطاحة بهذه القيصرية فهي " من مهمة الرفاق الروس ".
وردَّ لينين في مقال نشره في " الآيسكرا " في 15 يوليو/تموز 1903، وقد بدأ الرد بأن أكد من جديد بأنّ حق تقرير المصير يعني، بالنسبة إلى الاشتراكيين – الديموقراطيين واجب النضال ضد كل عنف قومي خارجي، وأنّ هذا الحق لا يلزمهم بتأييد جميع مطالب تقرير المصير القومي، لأنّ مهمتهم الأساسية، حسب تعبيره في تلك المرحلة، تمكين بروليتاريا كل أمة من تقرير مصيرها، لا كل طبقات الأمة، وبالتالي توحيد نضال بروليتاريا جميع الطبقات لا تجزئته.
وقد سلّط لينين الضوء، في ردِّه على مقال " الفجر "، على جوانب عديدة وهامة لمفهومه عن حق تقرير المصير، نجملها فيما يلي (3):
(أ) – أنه من الواجب التمييز بين الاعتراف بحق تقرير المصير وبين تأييد المطالبة بتقرير المصير، فمن الواجب التمييز بين الحق وبين نتائجه العملية (مثل التمييز بين حق الطلاق والطلاق).
(ب) – أنّ الاشتراكيين – الديموقراطيين، ليسوا أنصاراً غير مشروطين لمطلب الاستقلال القومي، فهم لا يؤيدونه إلا بـ " شروط محددة "، وهذه الشروط هي مصالح النضال الطبقي للبروليتاريا.
(ج) – لئن كانت بولونيا قد مثّلت، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الحصن المتقدم للديموقراطية في أوروبا، فإنّ " بطرسبورغ أصبحت في الساعة الراهنة أهم من وارسو، والحركة الثورية الروسية لها الآن مدى أممي أكبر مما للحركة الثورية البولونية " (4). وفي مثل هذا الوضع تصبح المطالبة القومية المحضة باستقـلال بولونيا " طوباوية رجعية "، ويتوجب على البروليتاريا البولونية أن تربط نضالها في سبيل استقلال بولونيا بـ " المصالح الطبقية للبروليتاريا الأممية وأن توحِّدَ نضالها بالتالي مع رفاقها الطبقيين في الدول الثلاث، التي تحتل بولونيا ".
(د) – إنّ الحزب الاشتراكي البولوني يريد تجزئة الإمبراطورية الروسية، أما الاشتراكيون – الديموقراطيون فغايتهم الإطاحة بالأتوقراطية، والدعوة إلى التجزئة " تظل وستظل جملة جوفاء مادام التطور الاقتصادي يتجه نحو توثيق العرى بين مختلف أجزاء التشكيلة السياسية الواحدة ".
إنّ أخطر موضوعة طورها لينين، من خلال مناقشته مع الاشتراكيين البولونيين تكمن في التمييز الذي أقامه بين الحق وتحقيقه، بين حق تقرير المصير وبين تقرير المصير فعلاً. إذ إنه اشترط الاعتراف بهذا الحق بضمان مصالح النضال الطبقي للبروليتاريا (5).
الهوامش
1 - طرابيشي، جورج: الماركسية والمسألة القومية، الطبعة الأولى - بيروت، دار الآداب - 1969، ص ص 112 - 133.
2 - كان البولونيون من رعايا الإمبراطورية الروسية، وقد انقسم حزبهم الاشتراكي إلى حزبين متمايزين: الحزب الاشتراكي - الديموقراطي، والحزب الاشتراكي البولوني وبقدر ما كان الحزب الأول أممي النزعة كان الحزب الثاني قومياً، وقد اندمج الحزب الأول مع الحزب الاشتراكي - الديموقراطي الروسي.
3 - لينين، فلاديمير إيليتش: (المسألة القومية في برنامجنا) عن: المؤلفات الكاملة، المجلد (6)، ص 452.
4 - من مقال لفرانز مهرينغ عن بولونيا في عام 1902. ويلاحظ أنّ لينين، تجنُّباً لإثارة الحساسية القومية، أكد تفوّق بطرسبورغ على وارسو في الأهمية الثورية من خلال استشهاده بآراء اشتراكيين غير روس.
5 - هنا نرى ضرورة الخروج عن سياق الموقف اللينيني من المسألة القومية في مرحلة التكوّن لنثير مجموعة أسئلة طرحتها الحياة بعد مرور أكثر من مائة سنة على انتصار الثورة الروسية، مثل: مَنْ يحدِّدُ مصالح النضال الطبقي للبروليتاريا؟ أهو الحزب الشيوعي السوفياتي؟ أم السياسة الخارجية للدولة السوفياتية؟ هل قمع " ربيع براغ " في العام 1968 خدم مصالح النضال الطبقي للبروليتاريا؟ أم تراه التدخل السوفياتي في أفغانستان في العام 1979 قد خدم هذه المصالح؟ أم أن تأييد " منغستو ماريام " في مواجهته لثوار إرتيريا، المطالبين بحق تقرير مصيرهم، هو الذي خدم هذه المصالح؟
ثمة أسئلة عديدة راودتنا منذ الستينيات، عندما كانت الأغلبية من شيوعيي بلداننا العربية لا تعرف من اللينينية حول المسألة القومية إلا مواقفها " الشعاراتية "، والإضافات الستالينية السطحية والدوغمائية. مما جعلهم، في المسائل المتعلقة بالمسألة القومية العربية منعزلين عن القضايا الكبرى للنضال العربي المعاصر (بغض النظر عمّا آلت إليه هذه القضايا حالياً).
ولم ندع الأسئلة دون بحث ودراسة، فقد أعددنا أطروحة جامعية حول " موقف الحزب الشيوعي السوري من الوحدة المصرية – السورية "، كما أعددنا قراءة نقدية لملاحظات وآراء الساسة والعلماء السوفييت حول " مشروع برنامج الحزب الشيوعي السوري" في اوائل سبعينيات القرن الماضي، ونشرنا دراسة تحت عنوان " نحن والبريسترويكا " في العام 1988، ونلنا شهادة الدكتوراه في التاريخ المعاصر على أطروحتنا حول " الأحزاب الشيوعية في المشرق والمسألة القومية " لنبين مدى الأضرار التي ألحقتها تبعية الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية للاتحاد السوفياتي على نضال هذه الأحزاب وتفاعلها مع قضايا شعوبها.