رأس المال: الفصل الثالث والعشرون (88) 5) أمثلة إيضاحية عن القانون العام للتراكم الرأسمالي


كارل ماركس
الحوار المتمدن - العدد: 6778 - 2021 / 1 / 4 - 10:29
المحور: الارشيف الماركسي     



القانون العام للتراكم الرأسمالي
5) أمثلة إيضاحية عن القانون العام للتراكم الرأسمالي

ب) الفئات ذات الأجر السيىء من الطبقة العاملة الصناعية البريطانية

لنلتفت الآن إلى الفئات ذات الأجر السيّء من الطبقة العاملة الصناعية. خلال المجاعة القطنية لعام 1862، أوعز المجلس الملكي السري (*) إلى الدكتور سميث بالتحقيق في شروط تغذية عمال القطن المعوزين في لانکشایر وتشبشاير. وقادته الملاحظات التي جمعها عبر سنوات سابقة كثيرة إلى الاستنتاج بأن “تدارك أمراض الجوع” (starvation diseases) يقتضي بأن يحتوي الغذاء اليومي للعاملة العادية الوسطية، في الأقل على 3900 حبة (Gran)(**) من الكربون، و180 حبة من الآزوت، أما الغذاء اليومي للرجل الوسطي فينبغي أن يحتوي، في الأقل، على 4300 حبة من الكربون، و200 حبة من الآزوت، وهذه الكمية من العناصر الغذائية، تتوافر في باونین من خبز القمح الجيد، للإناث، أما الذكور فيلزمهم أكثر من ذلك بمقدار 9/1 ويلزم للرجل والمرأة البالغين، في الأقل، 28,600 حبة من الكربون و 1330 حبة من الآزوت في الأسبوع. وقد ثبتت صحة حساباته عملياً، وعلى نحو مدهش، بتطابقها مع كمية الغذاء الهزيلة التي انحدر إليها استهلاك عمال القطن بفعل العوز. وكانت هذه الكمية في كانون الأول/ ديسمبر 1862 تبلغ 29,211 حبة من الكربون، و1295 حبة من الآزوت اسبوعيا.

وأمر المجلس الملكي السري عام 1863 بإجراء تحقيق في مصاعب القسم الأسوأ تغذية من الطبقة العاملة الإنكليزية. واختار الدكتور سایمون، المفتش الطبي في المجلس السري، الدكتور سميث، المذكور آنفا، للقيام بالبحث. وشمل تحقيقه، العمال الزراعيين، من جهة أولى، كما شمل عمال النسيج الحريري، وخياطات الإبرة، وعمال صناعة القفازات الجلدية، وعمال نسيج الجوارب، ونسيج القفازات، وصناع الأحذية من جهة ثانية. وإن عمال الفئة الثانية، باستثناء عمال حياكة الجوارب، يعيشون في المدن حصراً. واتخذ البحث قاعدة للتحقيق أن يختار أوفر الأسر صحة وأفضلها عيشا من كل فئة.

كان الاستنتاج العام كما يلي

“كان الاستهلاك الوسطي للآزوت، عند فئة واحدة فقط من فئات عمال المدن التي جرى فحصها، يتجاوز، قليلا، الحد الأدنى المطلق الذي تبدأ من بعده أمراض الجوع، بينما كان الاستهلاك ناقصاً عند فئتين – وشدید النقص عند إحداهما – في كل من الآزوت والكربون. زد على ذلك، أن فحص أسر السكان الزراعيين، كشف عن أن أكثر من الخُمس يحصل على أقل من الكمية الضرورية من الأغذية الكربونية، وأن أكثر من الثلث يحصل على أقل من الكمية الضرورية من الأغذية الآزوتية، وأن هناك ثلاث مقاطعات (بیرکشایر، اوکسفوردشایر سومرستشایر) لم يكن الغذاء الآزوتي فيها كافياً في وجبات الطعام المحلية العادية وسطياً»(1).
وكان نقص الطعام بين العمال الزراعيين بأسوأ أشكاله من نصيب هذه الفئة في إنكلترا، هذا القسم الأغنى من أقسام المملكة المتحدة (2). لكن هذا النقص كان من نصيب النساء والأطفال أساسا بالدرجة الأولى، لأنه “ينبغي للرجل أن يأكل كي يؤدي عمله”. وكان هناك فقر مدقع أعظم يفتك بفئات عمال المدن الذين جرى فحصهم. “إن تغذيتهم لعلى درجة من السوء بحيث أن هناك في صفوفهم، وبشكل أكيد، حالات كثيرة من الحرمان القاسي المدمر للصحة” (وهذا كله من زهده الرأسمالي! نعني من زهده في تقديم وسائل العيش الضرورية ضرورة مطلقة، لمجرد إقامة أود عماله!)(3).

ويبين الجدول التالي ظروف تغذية الفئات المذكورة أعلاه من عمال المدن، بالمقارنة مع الحد الأدنى الذي يفترضه الدكتور سميث، وبالمقارنة أيضا مع نصیب عمال القطن من الطعام خلال فترة بؤسهم الأكبر:

(4)

كلا الجنسين

الكمية الأسبوعية الوسطية من الكربون
(بالحبات)




الكمية الأسبوعية الوسطية من الآزوت
(بالحبات)




عمال خمسة فروع صناعية في المدن.
28,876

1192


عمال الصناعة العاطلون عن العمل في لانكشاير 29,211



1295

الحد الأدنى من الكمية الوسطية المقترحة لعمال لانكشاير، للذكور والإناث
28,600


1330

إن نصف (أو 60/125) من العمال الصناعيين الذين جرى التحقيق في أحوالهم، لا يشرب البيرة إطلاقا، و28% منهم لا يذوق الحليب. وتراوح المتوسط الأسبوعي للأغذية السائلة في الأسر العمالية، بين 7 أونصاته(***) عند الخياطات بالإبرة و3/4، 24 أونصة عند صناع الجوارب. وكانت الخياطات بالإبرة في لندن تشکلن غالبية أولئك الذين لا يتناولون الحليب إطلاقا. أما كمية الخبز المستهلكة أسبوعياً فكانت تتراوح من 3/4 ,7 باون عند الخياطات بالإبرة، إلى 1/2, 11 باون عند صناع الأحذية، مما يعطي متوسطة إجمالية مقداره 9,9 باون للعامل البالغ أسبوعياً. وكانت كمية السكر (دبس السكر، إلخ.) تتراوح بين 4 أونصات أسبوعياً عند صانعي القفازات الجلدية و11 أونصة عند صانعي الجوارب، وكان المعدل الإجمالي يبلغ 8 أونصات للعامل البالغ في الأسبوع، بالنسبة إلى جميع الفئات. أما المتوسط الأسبوعي من استهلاك الزبدة (الدهن وإلخ.)، فكان 5 أونصات للعامل البالغ. والمتوسط الأسبوعي للحوم (شحم الخنزير، إلخ.) يتراوح بين 1/4, 7 أونصات عند عمال نسيج الحرير و1/4, 18 أونصة عند صناع القفازات الجلدية، والمتوسط الإجمالي المختلف الفئات هو 13,6 أونصة. وتبلغ كلفة الطعام الأسبوعية للعامل البالغ الأرقام الوسطية التالية: عمال نسج الحرير – شلنان و2,5 بنس، خياطات الإبرة – شلنان و7 بنسات، صناع القفازات الجلدية – شلنان و9,5 بنس، صناع الأحذية – شلنان و3/4, 7 بنس، عمال حياكة الجوارب – شلنان 1/4, 6 بنس. أما بالنسبة إلى عمال نسج الحرير في ماکلسفیلد فلم يكن المتوسط الأسبوعي أكثر من شلن واحد و8,5 بنس. وكانت أسوأ الفئات تغذية هي الخياطات بالإبرة، وعمال نسج الحرير، وصناع القفازات الجلدية(5). ويقول الدكتور سایمون، في تقريره العام عن الصحة بصدد هذه الوقائع ما يلي:

“يمكن لأي امرئ ملم بالمعالجة الطبية للفقراء، أو بمرضي الردهات والعيادات الخارجية للمستشفيات أن يؤكد أن نقص التغذية يسبب الأمراض أو يفاقمها في حالات عديدة … مع ذلك، ومن وجهة النظر هذه، برأيي هناك جانب صحي مهم جدا تنبغي إضافته… إذ يجب أن نتذكر أن نقص الغذاء نقصاً محسوساً لا يحتمل إلا كرها، وأن شحة الوجبة الغذائية وفقرها لا يأتيان، عادة، إلا في أعقاب مجيء حرمانات أخرى. وقبل أن يؤثر نقص الغذاء في الصحة، وقبل أن يأخذ الطبيب المتخصص في الفسلجة في حساب حبات الآزوت والكربون التي تفصل بين الحياة والموت جوعا، فإن بيت العامل يكون قد خلا من وسائل الرفاه المادي، وتكون الملابس ووقود التدفئة أقل من الطعام – فتتلاشی الحماية اللازمة من قساوات المناخ، ويكون مجال السكان قد ضاق إلى حد أن الزحمة تورث الأمراض أو تزيدها، ويكون أثاث المنزل وآنيته قد شحّت – حتى النظافة تغدو باهظة الثمن أو عصية، وإذا ما بذل العامل الفقير جهوداً للحفاظ على النظافة، مدفوعاً باحترام النفس، فإن كل مجهود کهذا يمثل وخزات إضافية من الجوع. ويتخذ المرء سکنا، حيث يكون المأوى أرخص، في أحياء لا تعود فيها تعليمات الرقابة الصحية إلا بالقليل من النتائج، وحيث مجاري تصريف المياه القذرة هي أسوأ ما يكون، وحيث القليل من خدمات کنس الشوارع من الأقذار الكثيرة، والقليل من الماء بأسوأ أنواعه، ثم، إن كان المأوى في المدينة، القليل من النور والهواء. هذه هي الأخطار الصحية التي يتعرض لها الفقراء لا محالة، حين يكون فقرهم كافياً لفرض شحة الغذاء. وعلى حين أن مجموع هذه الفظائع يمثل خطراً رهيباً على الحياة، فإن شحة الغذاء وحدها، تشكل لحظة مريعة في حد ذاتها … هذه تأملات مؤلمة، خصوصا إذا تذكرنا أن الفقر الذي نتحدث عنه ليس البتة هو الفقر الذميم الناجم عن الكسل. فهو، فقر أناس يعملون. حقا، وإن العمل الذي يشتري به عمال المدن القليل جدا من الطعام، يمدد، في الغالب، تمديداً مفرطاً. مع ذلك، فمن الجلي، أن هذا العمل لا يمكن أن يعتبر كافياً لإعالة النفس، إلا بمعنى ضيق جدا … وهذه الإعالة الاسمية هي، عموما، ليست إلا دورة مغلقة تفضي إلى الفاقة طالت أم قصرت”(6).
إن الصلة الداخلية بين الجوع الذي يخز أشد فئات الطبقة العاملة مثابرة، والاستهلاك الباذخ، الفظ أو الرقيق، للأغنياء، الذي يرتكز على التراكم الرأسمالي، إن هذه الصلة لا تتكشف للعيان إلا بعد معرفة القوانين الاقتصادية. أما حال السكن فهو على خلاف ذلك. فبوسع أي مراقب متجرد أن يرى أنه كلما تعاظم تمركز وسائل الإنتاج، تعاظم بالمقابل تكدس العمال في مساحة محدودة، وبالتالي فكلما كان التراكم الرأسمالي أسرع، زادت مساكن العمال بؤساً. أما «تحسين» (تحسينات improvements) المدن، الذي يرافق نمو الثروة، بتهديم الأحياء سيئة البنيان، وإشادة القصور كمباني للمصارف والمخازن، وسواها، وتوسيع الشوارع خدمة للمواصلات التجارية، ولعربات الترف، ومد خطوط عربات الترام التي تجرها الخيل، وما إلى ذلك، فإنه يطرد الفقراء بسرعة إلى جحور، أكثر سوءاً وازدحاماً. ومن جهة أخرى، يعلم الجميع أن غلاء المساكن يتناسب عكسياً مع جودتها، وأن المضاربين بالمنازل يستثمرون مناجم الفقر هذه بأرباح أعظم وكلفة أقل مما كان يجري في مناجم بوتوسي(*4). إن الطابع التناحري للتراكم الرأسمالي، وبالتالي لعلاقات الملكية الرأسمالية عموما (7)، يبرز هنا بدرجة من السطوع تجعل حتى التقارير الرسمية الإنكليزية في هذا الموضوع، تزخر بانتقادات مهرطقة ضد «الملكية وحقوقها». وبموازاة تطور الصناعة، وتراكم رأس المال، ونمو المدن و «تجميلها»، تشق آفة المرض طريقها قدما إلى حد أن مجرد الخوف من الأمراض المعدية، التي لا تعفي أحدة حتى «الأعيان»، قد أدى إلى تشريع 10 قوانین برلمانية، على الأقل، تتعلق بالصحة بين عامي 1847 و1864، وأن البورجوازية المذعورة في بعض المدن، مثل ليفربول، وغلاسكو، وسواهما، استخدمت البلديات بغية الوقاية. ومع ذلك فإن الدكتور سایمون، في تقريره المؤرخ عام 1865، يقول: «إذا تحدثنا بصورة عامة، أمكن القول إن آفة الأمراض في إنكلترا منفلتة من عقالها». وأوعز المجلس الملكي السري في عام 1864 بإجراء تحقيق في شروط سكن العمال الزراعيين، وجرى تحقيق ثان في عام 1865 حول سكن الطبقات الأفقر في المدن. ونجد البحوث البارعة للدكتور جوليان هنتر في التقريرين السابع (1865) والثامن (1866) من تقارير الصحة العامة. وسأتناول فيما بعد ما يخص العمال الزراعيين، أما بالنسبة إلى مساكن عمال المدن، فنقتطف، على سبيل الاستهلال، ملاحظة عامة أوردها الدكتور سایمون، حيث يقول:

«رغم أن وجهة نظري طبية تماما، فإن المشاعر الإنسانية العادية. تقتضي ألّا أغفل الوجه الآخر أيضا لهذا الشر. إن زحمة السكن البالغة درجاتها القصوى، تنطوي بما يقارب الحتمية، على استبعاد كل مراعاة الأحاسيس الآخرين، وعلى اختلاط غير طاهر للأجساد والوظائف الجسدية، وعلى هتك للعري الجنسي، خلیق بالبهائم، لا بالإنسان. والتعرض لهذه المؤثرات يؤدي إلى انحطاط، يزداد أثره عمقاً على أولئك الذين يستمرون في التعرض إلى تأثيره. أما الأطفال الذين رأوا النور، تحت هذه اللعنة، فإن حالتهم، غالبا ما تكون أشبه بتعميد في العار (baptism into infamy). وإنه لأمر ميؤوس منه، بما يفوق التصور، أن يحلم المرء بأن الأشخاص الذين وضعوا في هذه الظروف، يمكن أن يتوقوا من نواح أخرى لبلوغ ذلك المناخ من التمدن الذي تشكل النقاوة الجسدية والأخلاقية جوهره» (8).
وتحتل لندن المرتبة الأولى من حيث الازدحام المفرط في المساكن، التي لا تصلح قط لعيش البشر. ويقول الدكتور هنتر: «إن هناك نقطتين واضحتين: أولا، وجود زهاء عشرين مستوطنة كبيرة في لندن، تضم الواحدة قرابة 10 آلاف نسمة تفوق أوضاعهم البائسة أي بؤس آخر سبق أن رأيته في أي مكان آخر من إنكلترا؛ ويعود هذا الوضع كلياً تقريبا إلى سوء تدبير المنازل، وثانياً، إن حالة ازدحام وخراب المنازل في هذه المستوطنات هي اليوم أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل عشرين عاما خلت»(9). «وليس من المغالاة في شيء القول إن الحياة في أحياء كثيرة من لندن ونيوكاسل هي الجحيم بعينه»(10).
زد على ذلك، أن الشطر الأفضل حالا من الطبقة العاملة، إلى جانب صغار أصحاب الحوانيت، وغيرهم من الشرائح الدنيا للطبقة الوسطى، تسقط أكثر فأكثر في لعنة شروط السكن الحقيرة هذه، في لندن، كلما اتسع “تحسين” المدينة واتسع ما يرافقه من تهديم الشوارع والمنازل القديمة، وكلما نما عدد المصانع وتزايد تدفق المخلوقات البشرية على العاصمة، وأخيرا كلما ارتفعت إيجارات السكن بارتفاع الريع العقاري في لندن.

«لقد ارتفعت بدلات الإيجار ارتفاعا كبيرة جدا بحيث أن قلة من العمال تستطيع استئجار أكثر من غرفة واحدة» (11).
ولا يكاد يوجد عقار سكني واحد في لندن غير مثقل بعدد هائل من «الوسطاء» (middlemen). أما بالنسبة إلى سعر الأرض في لندن فهو، دوما، عالي جدا بالمقارنة مع المداخيل التي يحققها سنويا، وذلك، على الأخص، لأن كل شارٍ للأرض يأمل في بيعها، عاجلا أم آجلا حسب سعر المحلفين (Jury Price) (السعر الذي تحدده هيئة المحلفين القضائية في حالات انتزاع الملكية)، أو في الكسب بفضل زيادة استثنائية في القيمة بسبب التجاور مع بعض المؤسسات الكبيرة. ونتيجة لذلك، ثمة تجارة منتظمة تتمثل في شراء عقود الإيجار التي توشك على الانتهاء ولا يمكن توقع شيء آخر من هؤلاء السادة في هذه المهنة – فهم يسعون إلى انتزاع كل ما يمكنهم انتزاعه من المستأجرين، طالما كان المنزل بحوزتهم، وترك أقل ما يمكن تركه لمن يأتي من بعدهم (12). إن الايجارات تدفع أسبوعياً، ولا يجازف هؤلاء السادة بفقدان شيء. وفي أعقاب مد سكك الحديد داخل المدينة
«شوهدت أخيراً في الجزء الشرقي من لندن، أعداد من الأسر طردت من منازلها القديمة وهي تطوف على غير هدى، في مساء السبت، حاملة على الظهور، بعض متاعها الدنيوي الشحيح، بلا ملجأ تلوذ به غير مأوى العمل»(13).
إن مآوي العمل هذه مزدحمة إلى أقصى حد أصلا، و «التحسينات» التي سمح البرلمان بالقيام بها بدأت لتوها وحسب. ورغم أن العمال يطردون بعد تهدیم منازلهم القديمة، فإنهم لا يهجرون أبرشيتهم الأصلية، أو إنهم يستقرون على تخومها، في أقصى الحالات، وفي أقرب موضع ممكن منها.

«وبالطبع فإنهم يحاولون الإقامة في أقرب موضع ممكن من أماكن عملهم. فيتركون، اضطراراً، منزلا بغرفتين ليقطنوا غرفة واحدة. وحتى حين يدفعون إيجاراً أعلى، يصعب على المطرودين أن يحصلوا على مأوى جدید بمستوى المسكن القديم المزري الذي ردت عائلتهم منه … إن نصف عمال الستراند ملزمون بأن يسيروا مسافة ميلين لبلوغ أماكن العمل».

وهذا الستراند نفسه، الذي يثير شارعه الرئيسي، لدى الغريب، انطباعاً مهيباً عن ثراء لندن، يقدم لنا مثالا عن حشر المخلوقات البشرية في تلك المدينة. فقد أحصى المفتش الصحي في واحدة من أبرشيات الستراند، وجود 581 شخصا في الإيكر الواحد، رغم أن نصف حوض نهر التايمس كان يدخل في الحساب. ومن الواضح وضوحا لا لبس فيه أن كل إجراء صحي قسري، كما هو الحال في لندن حتى اللحظة الراهنة، إنما يطرد العمال من أحد الأحياء، بتهديم البيوت غير الصالحة للسكن، فلا يؤدي عملياً سوى إلى تكديسهم معا بكثافة أشد في حي آخر.

ويقول الدكتور هنتر: «إما أن يوضع حد للإجراءات كلها بالضرورة کشيء سخيف تماما، وإما أن يثار عطف الجمهور (!) إلى الواجب الذي يمكن أن نسميه اليوم من دون مبالغة واجباً وطنياً، أي إلى تقديم سقف يغطي أولئك الذين لا يستطيعون، لافتقارهم إلى رأس المال، تأمينه لأنفسهم، رغم أنهم يستطيعون دفع أقساط دورية لأولئك الذين يؤمنون لهم المأوى»(14).
إن المرء ليعجب بهذه العدالة الرأسمالية! فمالك الأرض، أو صاحب البيوت، أو رجل الأعمال لا يكتفي بأخذ تعویض کامل حين تنتزع أملاكه بسبب إجراء بعض «التحسينات» (improvements) كمد خط لسكك الحديد، وبناء شوارع جديدة، إلخ، بل يجب أيضا وفقا لقانون السماء والأرض، أن يكافأ على هذا «الزهد» الاضطراري، علاوة على ذلك، بربح كبير. أما العامل فيلقى به على قارعة الطريق مع زوجته وأطفاله ومتاعه كله – وإذا توجه العمال بأعداد هائلة إلى أحياء تتمسك بلدياتها بلياقتها تمسكاً خاصاً فإنهم يلاحقون باسم الصحة العامة!

وباستثناء لندن، لم تكن هناك في بداية القرن التاسع عشر، مدينة واحدة في إنكلترا تضم 100 ألف نسمة. فقد كانت ثمة 5 مدن فقط يزيد عدد نفوسها عن 50 ألفاً. أما اليوم فتوجد 28 مدينة يزيد عدد نفوسها عن 50 ألفا.

«وليست النتيجة الوحيدة لهذا التغير أن فئة سكان المدن قد تنامت تنامياً هائلا وحسب، بل إن المدن الصغيرة، القديمة، المكتظة بالسكان، أضحت الآن مراکز تشاد من حولها الأبنية، في كل الجوانب، فتسد عليها منافذ الهواء سدّاً تاماً. وبما أنها لم تعد ملائمة للأغنياء، فإنهم يهجرونها إلى الضواحي الأكثر مسرة. والسكان الذين يحلون محل هؤلاء الأغنياء، يقطنون المساكن الضخمة بمعدل أسرة في كل غرفة، وكثيرا ما يشركون معهم مستأجرين. وهكذا يتزاحم الناس في منازل لم تكن معدة لهم، ولا تلائمهم إطلاقا، في بيئة مهينة حقاً للبالغين ومفسدة للأطفال» (15).

وعليه، كلما ازداد تراكم رأس المال سرعة في مدينة صناعية أو تجارية، تسارع تدفق سيل المادة البشرية الصالحة للاستغلال، وتعاظم بؤس المساكن المرتجلة للعمال. لذلك فإن مدينة نيوكاسل – أبون – تاین، بوصفها مرکز منطقة استخراج متسع باستمرار للفحم وفلزات المعادن، تحتل المرتبة الثانية بعد لندن في جحيم المساكن. فهناك ما لا يقل عن 34 ألف شخص يسكنون في غرف منفردة. وعمد البوليس في نیوکاسل وغایتسهيد إلى تهديم أعداد كبيرة من المنازل، أخيراً، بسبب خطرها الداهم على المجتمع. ويسير بناء منازل السكن الجديدة سيرة بطيئاً جداً، أما الأعمال فتغذ السير حثيثاً. لقد باتت المدينة، عام 1865، مزدحمة بالسكان أكثر من أي وقت مضى. ويندر أن تتوافر فيها غرفة للإيجار. ويقول الدكتور أمبلتون، من مستشفى الحميات في نيوکاسل:

«ليس ثمة أدنى شك في أن سبب استمرار وباء التيفوس وانتشاره الشديد هو الاحتشاد المفرط للمخلوقات البشرية في مساكن قذرة. فالبيوت التي يقطنها العمال تقع عادة في أحواش أو أزقة مغلقة ضارة بالصحة. أما من ناحية الهواء، والنور، والفضاء، والنظافة، فهي نماذج حقيقية على القصور، والوبال الصحي، وهي عار على أي بلد متمدن. ففي هذه الأماكن يضطجع الرجال والنساء والأطفال ليلا متراصين معا. أما بصدد الرجال، فإن وجبة الليل تخلف وجبة النهار، ووجبة النهار تخلف وجبة الليل في تتابع لا ينقطع على مدى وقت طويل، بحيث لا يتبقى الوقت الكافي لكي تبرد فرش النوم. ولا تتزود هذه المنازل كلها بما يكفي من الماء، وحالها أسوأ من ناحية المرافق الصحية، فهي منازل قذرة، تفتقر إلى التهوية، وتحفل بالوباء»(16).
يتراوح الإيجار الأسبوعي لأمثال هذه المساكن بين 8 بنسات إلى 3 شلنات.

ويقول الدكتور هنتر: «إن مدينة نيوكاسل – أبون – تاين هي نموذج يبين كيف تنحط واحدة من خيرة قبائل ريفنا إلى مستوى الوحشية تقريبا، بفعل الظروف الخارجية المتمثلة بالمسكن والشارع»(17). ونتيجة مد وجزر رأس المال والعمل، فإن حال المساكن في مدينة صناعية ما، قد يكون اليوم مقبولا وفي الغد فظيعاً. وتشرع سلطات المدينة، أحيانا، في إزالة أفظع المساوئ. ولكن في الغد، يتدفق حشد كبير مثل أسراب الجراد، من الإيرلنديين بأسمالهم الرثّة، أو من العمال الزراعيين الإنكليز المتدهورين إلى حالٍ مزر، فيتكدسون، في الأقبية والعنابر، أو أن المسكن العمالي الذي كان محترماً حتى ذلك الوقت، يتحول إلى نُزل عام يتغير نزلاؤه بسرعة تغير مبيت الجنود في منازل المواطنين أيام حرب الثلاثين. مثال: برادفورد. فهاهنا، كان موظفو البلدية الأجلاف، منهمكين تماما في اصلاح المدينة. يضاف إلى ذلك أنه في عام 1861 كان في برادفورد 1751 منزلا شاغراً. ولكن ها هو ذا الانتعاش الصناعي، الذي أغدق عليه الليبرالي الأنيس، نصير الزنوج، السيد فورستر، إطراء سامياً. وبالطبع فمع انتعاش الصناعة تتدفق أمواج من «الجيش الصناعي الاحتياطي» أو «فيض السكان النسبي» المتقلب دوماً. غير أن أقبية السكن المفزعة والغرف الصغيرة المؤجرة المسجلة في القائمة (أنظر الحاشية)(18) التي
حصل عليها الدكتور هنتر من معتمد إحدى شركات التأمين، كانت تأوي، في الغالب، عما يتقاضون أجوراً حسنة. وقد صرحوا بأنهم على استعداد لدفع إيجار أكبر لقاء مساكن أفضل، لو تيسرت لهم… وحين يسقط هؤلاء مع أسرهم في لجة الانحطاط والمرض، الواحد بعد الآخر، يذرف الليبرالي الأنيس فورستر، عضو البرلمان، دموع الغبطة على بركات التجارة الحرة، وأرباح رجال برادفورد البارزين التي يجنونها من صناعة الغزول الممشطة Wonsted. وفي تقرير 5 أيلول/سبتمبر 1865، نجد أن الدكتور بیل، أحد أطباء مؤسسات الفقراء في برادفورد، يعزو الوفيات المفزعة بين المرضى بالحميات في منطقته، إلى أوضاع سكناهم:

في قبو صغير يبلغ حجمه 1500 قدم مكعب ثمة عشرة أشخاص…
وفي شوارع فنسنت وغرين – إير – بليس، وليز، هناك 223 منزلا يقطنها 1,450 نزيلا، ويوجد فيها 435 فراشاً و36 مرحاضا … إن السرير الواحد – وأدرج ضمن هذه الكلمة أي لفة من مزق بالية، أو أي حشوة هزيلة من نشارة الخشب – يستقبل بالمتوسط 3,3 أشخاص، وبعضها يستقبل 5 إلى 6 أشخاص، وقد قيل لي إن البعض لا يجد فراشاً على الإطلاق، وينام هؤلاء بملابسهم المعتادة، على الأرض العارية – شبابا وشابات، متزوجين وعزاباً، الكل معا. ولا حاجة بي للإضافة بأن معظم هذه المساكن معتم، رطب، قذر، وإنها جحور نتنة، لا تصلح بالمرة لسكنى البشر، إنها بؤر تنشر المرض والموت حتى بين أولئك الذين يعيشون في أوضاع أفضل (of good circumstances)، والذين يسمحون لدمامل الطاعون هذه بان تتقيح بين ظهرانينا (19). وتحتل بریستول المرتبة الثالثة من حيث بؤس المنازل بعد لندن.

«بریستول، حيث يزخر الفقر المدقع (blankest poverty) والبؤس المنزلي في واحدة من أغنى مدن أوروبا»(20).

__________

(*) Privy Council: هيئة في البلاط الإنكليزي تضم وزراء وكبار موظفين، ورجال كنيسة من أعلى المستويات. تأسست في القرن الثالث عشر، كمجلس إدارة للدولة، لكن دورها تقلص في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولم تعد تسهم في إدارة إنكلترا حاليا. [ن. برلین].
(**) مقياس للوزن يساوي 62 , 2 ميلليغرام. [ن. برلین].
(1) تقرير الصحة العامة السادس، لعام 1863، لندن، 1864، ص 13.
(2) المرجع نفسه، ص 17.
(3) المرجع نفسه، ص 13.
(4) المرجع نفسه، الملحق، ص 232.
(***) مقياس للوزن يساوي 28,35غرام. [ن. برلین].
(5) تقرير الصحة العامة لعام 1863، ص 232، 233.
(6) تقرير الصحة العامة السادس لعام 1863، لندن، 1864، ص 14-15.
(*4) مناجم فضة قرب مدينة بوتوسي في بوليفيا. [ن. ع].
(7) “ليس ثمة مجال ضحى فيه بحقوق الأشخاص، بهذه الدرجة من الوقاحة والصراحة، على مذبح حقوق الملكية، مثل مجال سكن العمال. فكل مدينة كبيرة تعد مكانا لتقديم الضحايا البشرية، ومحراباً يحرق فيه الآلاف كل عام قربانا لآلهة الجشع: مولوخ”. (ص. لينج S.laing المرجع المذكور، ص 150).
(8) تقرير الصحة العامة الثامن، 1866، ص14، الحاشية.
(9) المرجع نفسه، ص 89. ويقول الدكتور هنتر في معرض الإشارة إلى الأطفال في هذه المستوطنات: لا يوجد الآن على قيد الحياة من يستطيع أن يخبرنا كيف كان الأطفال يربون قبل أن يبدأ عصر ضواحي الفقراء المكتظة، وسيكون نبياً متهوراً ذلك الذي سوف يخبرنا أي سلوك سيسلك هؤلاء الأطفال في المستقبل وهم يترعرعون على هذه الشاكلة، ويستكملون الآن، في ظروف لا نظير لها من قبل في البلاد، تربيتهم ليمارسوها في المستقبل، بوصفهم فئات خطرة بالسهر حتى آخر الليالي مع أناس، من كل الأعمار، نصف عراة، سکاری، داعرين، متشاجرين (المرجع نفسه، ص 56).
(10) تقرير الصحة العامة الثامن، 1866، ص 62.
(11) تقرير المفوض الصحي في سانت مارتن-إن-ذي-فیلدز، 1865.
(Report of the Officer of Health of St. Martin’s-in-the-Fields, 1865).
(12) تقرير الصحة العامة الثامن، 1866، لندن، ص91.
(13) المرجع نفسه، ص 88.
(14) المرجع نفسه، ص 89.
(15). المرجع نفسه، ص 56.
(16) تقرير الصحة العامة الثامن، 1866، ص 149.
(17) المرجع نفسه، ص 50.
(18) [تقرير الصحة العامة الثامن، ص 11]. أدناه قائمة وضعها معتمد إحدى شركات تأمين العمال في برادفورد:



شارع فولك ان رقم 122 غرفة واحدة 16 شخصاً


شارع لوملي رقم 13 غرفة واحدة 11 شخصاً
شارع باور رقم 41 غرفة واحدة 11 شخصاً
شارع بورتلاند رقم 112 غرفة واحدة 10 أشخاص
شارع هاردي رقم 17 غرفة واحدة 10 أشخاص
شارع نورث رقم 18 غرفة واحدة 16 شخصاً
شارع نورث رقم 17 غرفة واحدة 13 شخصاً
شارع وايم رقم 19 غرفة واحدة 8 بالغين
شارع جوويت رقم 56 غرفة واحدة 12 شخصاً
شارع جورج رقم 150 غرفة واحدة 3 أُسر
رايفل كورت، ماريجيت رقم 11 غرفة واحدة 11 شخصاً


شارع مارشال رقم 28 غرفة واحدة 10 أشخاص
شارع مارشال رقم 49 ثلاث غرف 3 أُسر
شارع جورج رقم 128 غرفة واحدة 18 شخصاً
شارع جورج رقم 130 غرفة واحدة 16 شخصاً
شارع ادوارد رقم 4 غرفة واحدة 17 شخصاً
شارع جورج رقم 49 غرفة واحدة أسرتان
شارع يورك رقم 34 غرفة واحدة أسرتان
شارع سالت باي (الأسفل) غرفتان 26 شخصاً
الأقبية
ساحة ريجنت قبو واحد 8 أشخاص
شارع ايكر قبو واحد 7 أشخاص
روبرتس كورت رقم 33 قبو واحد 7 أشخاص
شارع باكبرايت، القبو المستخدم كورشة نحاس قبو واحد 7 أشخاص
شارع ايبنزر رقم 27 قبو واحد 6 أشخاص
(19) المرجع نفسه، ص 114.
(20) المرجع نفسه، ص 50.