مقاربة الاتجاه الماركسي الكلاسيكي لبناء الدولة القومية (1)


عبدالله تركماني
الحوار المتمدن - العدد: 6777 - 2021 / 1 / 3 - 17:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

كان ماركس وأنجلز، في العام 1848 الذي كتبا فيه البيان الشيوعي، يعتقدان بالنهاية القريبة للأمم والقوميات. فالبروليتاريون ليس لهم وطن " يا بروليتاريي العالم اتحدوا "، أما الأمة والنزعة القومية فهما عبارة عن بنى فوقية، صارت بالية حين تخطّت السوق العالمية الأسواق القومية " أُلغوا استغلال الإنسان للإنسان فتلغوا استغلال أمة لأخرى. ويوم يسقط تطاحن الطبقات داخل الأمة، يسقط أيضاً العداء فيما بين الأمم ". فالحواجز القومية والتناقضات بين الشعوب في طريق الزوال، فـ " تطور البورجوازية وحرية التجارة والسوق العالمية والإنتاج الصناعي المتجانس وما يلائمه من الظروف الحياتية كافٍ لتحقيق ذلك ".
إنّ حل قضايا المسألة القومية، بقدر ما يمكن أن يكون هناك حل، يرتبط في فكر ماركس وأنجلز في أربعينات القرن التاسع عشر، خاصة خلال ثورات العام 1848 حيث كانا مع الألمان والبولونيين ضد الروس والتشيك، بنظرية عامة هي نظرية التجاوز، بربطهما إيّاها ببيان الإمكانيات الجديدة المتولِّدة عن الثورة الشاملة للطبقة العاملة. فالأمة ستزول بزوال الدولة، وبزوال السوق القومية، وبزوال الندرة والحقوق.
لقد أعطى كارل ماركس وفريدريك أنجلز شكلاً أكثر وضوحاً لأطروحاتهما، وعلى الأخص الأطروحة المتعلقة بالأمة، حين أكدا أنّ على الطبقة العاملة أن تستولي بادئ ذي بدء على الدولة، التي هي قومية بالضرورة " إنّ نضال البروليتاريا ضد البورجوازية، بالرغم من أنه لم يعد في جوهره نضالاً قومياً، يتخذ شكل النضال القومي. فغني عن البيان أنّ بروليتاريا كل قطر مُلزَمة بأن تتخلص من بورجوازيتها ". فلا وجود، بالنسبة لهما، لنضال اجتماعي لا يبلغ حقيقته السياسية، ولا لمضمون اجتماعي لا يتخذ شكله السياسي، ولا لنشاط اقتصادي لا يستطيع أن يرتسم على مستوى الدولة، وعليه فإنّ على البروليتاريا أن تستولي على الدولة القومية (1).
لقد أيد ماركس وأنجلز الوحدة الألمانية البيسماركية في عام1871، وقالا
قولتهما الشهيرة " بيسمارك يقوم بجزء من عملنا ". كما كانا معاديين لـ " مبدأ القوميات " البونابرتي، الذي يضع أية أمم صغيرة على قدم المساواة مع الأمم الكبرى. كما حملا على القومية التشيكية التي كانت مخفراً أمامياً لروسيا القيصرية، المعادية للثورة الديمقراطية الأوروبية عامة، وللثورة الألمانية على وجه الخصوص. ففي الرسائل المتبادلة بين ماركس وأنجلز، خلال الحرب البروسية - الفرنسية التي نشبت في عام 1870وانتهت بانتصار بيسمارك ووحدة ألمانيا، قالا " إنّ جلادّي ثورة 1848 ينفّذون وصيتها " (2).
إنّ الوحدة الألمانية، بالنسبة لماركس وأنجلز، هي جزء من التقدم التاريخي الكبير، جزء من التحوّل البورجوازي، الذي يسعيا ويخططا كي يكون ثورة بورجوازية ديمقراطية: الديمقراطية، استئصال الاقطاعية والعهد القديم، تحريك أوسع الجماهير الشعبية، الوحدة القومية بكل ما تنطوي عليه من اقتلاع الدويلات لصالح الدولة المركزية، على الصعيد الألماني. وضد الروس وأعوانهم في أوروبا الوسطى والشرقية، على الصعيد الإقليمي - العالمي.
وكان أنجلز، في كتابات 1848-1852، قد دعا إلى الوحدة الألمانية بأقصى ما يمكن من الحماس، حمل بشدة على التجزئة الألمانية التي " تمزّق جسد الأمة وتبدد طاقتها "، ودعا إلى الحرب ضد أعدائها، واستثار في عام 1859 الحماس القومي للألمان ضد نابليون الثالث والقيصر الروسي.
ومن المناسب، في هذا السياق، أن نشير إلى أنّ ماركس وأنجلز لم يتخذا مواقف تحبيذ إجمالي إزاء جميع حركات التحرر القومي، فالحال عندهما أنّ الأمم والقوميات ليست متعادلة أمام حركة التاريخ الواقعي. ففي فترة ثورة 1848، التي ترقى إليها معظم كتاباتهما حول المسألة القومية في أوروبا الشرقية، كانت بغضاؤهما لروسيا القيصرية المقياس الأساسي لحكمهما على الحركات القومية. وكمحصلة لموقفهما، الذي يعتبر القيصرية الدعامة الرئيسية للرجعية في أوروبا، فقد انتهيا إلى اعتبار كل انتفاضة قومية تضعف القيصرية أمراً إيجابياً، وإلى اعتبار كل حركة قومية يمكن أن تفيد مواقع القيصرية وتدعمها كحركة رجعية وضارّة.
بيد أنهما في حالة حركة تحرر قومي ينظران إليها كحركة عادلة وتقدمية، كما كانت عليه الحال في بولونيا خاصة، قد استخلصا نتائج تتعلق بما تفرزه الواقعة القومية على الصعيد التكتيكي. ولهذا فإنّ أنجلز، عند مناقشته نتائج تقسيم بولونيا بين الدول الكبرى، قد أكد أنّ هذا الاستعباد الأجنبي قد ولّد في بولونيا تحالفاً بين جميع طبقات المجتمع، فيما عدا الارستقراطية الكبيرة الضالعة مع الدول الكبرى. فقد كتب في سنة 1848 " إنّ تقسيم بولونيا قد تم بفضل المساعدة التي قدمتها الارستقراطية البولونية الإقطاعية الكبرى للدول الثلاث، روسيا والنمسا وبروسيا...
إنّ تقسيم بولونيا الأول قد أدى بالطبع إلى تحالف جميع طبقات المجتمع الأخرى أي النبلاء وبورجوازية المدن وقسم من الفلاحين ضد الدول المضطهِدة الثلاث وضد الارستقراطية المحلية الكبرى ...
منذ أن أُخضعَت بولونيا، ما انفك البولونيون يبدون نشاطاً ثورياً يربط مستعبديهم ربطاً حميماً بالثورة المضادة. وهم بهذا يجبرون مستعبديهم على دعم النظام البطريكي لا في بولونيا فحسب، بل في جميع البلدان الخاضعة لنير سلطتهم. ومنذ انتفاضة كراكوفيا عام 1846 بخاصة، فإنّ النضال من أجل استقلال بولونيا هو، في الوقت نفسه، نضال الديمقراطية الريفية - الوحيد الممكن في أوروبا الشرقية - ضد الاستبداد البطريكي والإقطاعي.
وبقدر ما نساعد، في النتيجة، على استعباد الأمة البولونية، بقدر ما سيتجه قسم من بولونيا إلى الارتباط بألمانيا، وسنرتبط نحن بدورنا بروسيا، ولن نتوصل إلى تدمير الاستبداد البطريكي والإقطاعي تدميراً جذرياً. " إنّ بعث بولونيا ديمقراطية هو الشرط الأول لبعث ألمانيا ديمقراطية ". وهنا نجد ارتسامات واضحة للتحالف بين الطبقة العاملة والفلاحين وبين البورجوازية في البلدان المستعمَرة والتابعة، والتي بلورتها الأممية الثالثة فيما بعد (3).
وإذا كانت الحالة النموذجية للمسألة القومية في أواسط القرن التاسع عشر هي حالة أوروبا الشرقية، فإنّ الحالة النموذجية للمسألة القومية الكولونيالية هي حالة أيرلندا. ففي رسالة بعث بها ماركس إلى أنجلز عام 1869، أكد أنّ الطبقة العاملة الإنكليزية لن تنجز شيئاً مطلقاً قبل أن يهتز النظام البريطاني عندما يفقد أيرلندا. ومما قاله في تلك الرسالة " بصورة مستقلة عن كل جملة " أممية " و" إنسانية "عن العدالة إزاء أيرلندا، فذلك أمر بديهي في مجلس الأممية (الأولى)، فإنّ ثمة مصلحة مباشرة مطلقة للطبقة العاملة الإنكليزية في أن تقطع علاقاتها الحالية مع أيرلندا. ذلك يقيني العميق الذي لا أستطيع أن أكشف كل دوافعه وأسبابه للعمال الإنكليز أنفسهم. لقد تصوّرتُ لمدة طويلة أنّ سيطرة حركة العمال الإنكليز هي التي يمكن أن تسقط النظام الأيرلندي... إنّ دراسة أكثر تعمّقاً أقنعتني الآن بالعكس، إنّ الطبقة العاملة الإنكليزية لن تحقق شيئاً أبداً قبل أن تتخلص من أيرلندا. ففي أيرلنـدا ينبغي أن نطبق الرافع. ولهذا السبب فإنّ المسألة الأيرلندية بالغة الأهمية بالنسبة للحركة الاجتماعية عامة... ليست المشكلة في أيرلندا ذات طابع اقتصادي فحسب، بل المسألة القومية مطروحة أيضاً " (4). إنّ ماركس، بإعطائه الأولوية للعمل في المستعمَرة على العمل في المتروبول، قد فتح الباب أمام سائر الرؤى الماركسية اللاحقة، وخاصة الاتجاه البلشفي.
إنّ الدراسة العميقة للمسألتين القوميتين البولونية والأيرلندية، ولدروس الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في الولايات المتحدة الأميركية، سمحت لماركس وأنجلز بإدخال تعديلات هامة على رؤيتهما للمسألة القومية. فإذا كانا، في البداية، يجعلان التحرر القومي رهناً بتحرر الطبقة العاملة الاجتماعي فانهما صارا لاحقاً، خاصة بعد تحليل خبرة ثورات 1848-1849البورجوازية، يؤكدان أيضاً على الارتباط العكسي، ارتباط نجاح الثورات الاجتماعية وتحرر البروليتاريا بحل المشكلات القومية الملحة.
الهوامش
1- لوفيفر، هنري: (الطبقة والأمة منذ البيان الشيوعي) - عن كتاب: جدل الطبقة والأمة، الطبعة الأولى - بيروت، دار الطليعة - أكتوبر/ تشرين الأول 1974، ص ص 69-72.
2 - مرقص، الياس: الماركسية والمسألة...، المرجع السابق، ص 80.
3 - شرام، ستيوارت و دنكوس،كارير: الماركسية - اللينينية أمام مشاكل الثورة في العالم غير الأوروبي (مجموعة نصوص)، ترجمة: زهير الحكيم، الطبعة الثانية - بيروت، دار الحقيقة - 1988، ص 135-136. وسوف نعتمد النصوص المترجمة في الكتاب بشكل واسع، لأنّ المؤلفَين قدما مجموعة كبيرة من الوثائق الهامة. إضافة إلى ذلك فإنّ هذا الكتاب يتميز بأنه جمع النصوص مع دراسة نقدية لها، مما أتاح اكتشاف الصيغ الأصلية التي كانت عادة تُقتبس من مطبوعات سوفياتية تحكمت فيها الضرورات الجيوبولتيكية طوال فترة الأممية الثالثة، وهذا يعد في حد ذاته إنجازاً له قيمته التاريخية.
4 - شرام، ستيوارت ودنكوس، كارير: الماركسية - اللينينية...، المرجع السابق، ص 135.