محمد الإنسان 3


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6771 - 2020 / 12 / 25 - 05:58
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

نستلهم من المبحث السابق أن محمدا الإنسان كان نموذجا فريدا جاء في عصر المخاض، عصر بدأ في ترتيب أولياته التأريخية وبناء رؤية مغايرة للواقع أو ما يسمونه علماء التاريخ والأجتماع عصر الإرهاصات الأولية في التغيير، هذا التلاقي هل هو جزء من لعبة التأريخ؟ أم أنه قدر فوقي مراد ومنتخب من خلال سيرورة التاريخ ذاته؟ يقول د دانييل ليتل في كتابه فلسفة التاريخ (الموضوعية التاريخية بالمعنى الذي يستطيع المؤرخون معه أن ينخرطوا في البحث عن دليل يؤمنون لأجل بناء نظرياتهم عن الماضي، ويجدر بنا ألا نفهم ذلك بصورة تدعونا للاعتقاد بوجود تفسير أحادي للمجريات والأحداث التاريخية، فنفهم عوضاً عن ذلك، أنه من المُعتاد للغاية أن تفشل الوقائع في فرض التفسير التاريخي، فهناك أسئلة تاريخية كثيرة ذات مشروعية عن نوع الدليل. إن السرديات التاريخية ذات مضمون تأويلي في جوهرها، وتتضمن دائماً إعادة إعمار للماضي) ، هنا ينكر الفيلسوف التاريخي أن يكون للتاريخ طريق واحد أو وجهة محددة سلفا طالما لدينا القدرة على تأويل الحدث وفهمه أستنادا لنظريات عديدة وأتجاهات متنوعة في فهم ودراسة التاريخ ومنه تاريخ الفرد وتاريخ الجماعة على مستويات عدة وأنماط متكيفة مع الواقع الزمن المكان الحدث وأخيرا النتيجة.
إن الأبتعاد عن إلتزام السردية التاريخية الراهنة والتي وصلتنا متأخرة أو هي تأخرت عن معاصرة الحدث _ الإنسان، بأعتبارها حقيقة ثابتة وجعلها الثابت في مجموعة المعارف المتحركة طولا وعرضا في الزمن أو في الواقع سيجعلنا أكثر تحررا وقدرة في إعادة رسم المشهد التاريخي وفق معطيات الدراسة العلمية الحقيقية التي تستجلي من حقيقة التاريخ مجموعة روابط وقيم وأنضباطات أكثر دقة في الوصول للصورة التاريخية التي نحن في صدد دراستها وهي على منصة النقد والفحص العلمي، هنا نكون قد خدمنا القضية التأريخية بمجملها وخلصنا موضوع الحدث وشخوصه من السردية الغوغائية التي طبعت جزء مهم تاريخنا وبالتالي تقليل التاريخ الغوغائي على الشخصية الفردية للإنسان المعاصر.
هذه النتيجة الواقعية نجد لها مكانا مهما في دراسة بعض الشخصيات التاريخية والتي لعبت دورا مهما في صناعة الوجود والتاريخ وأبرزت الحدث العملي أكثر من غيرها، ومنها شخصية النبي محمد الإنسان، فقد أساء البعض لهذه الشخصية عن حسن نية وعن حب حقيقي حينما جردها من واقعيتها ونسبها للخارق المعجز، وأعطاها ملامح ورؤية من خارج حدث التأريخ، وأخرون أساءوا لها عن قصد وتعمد من خلال التغطية على ذاتية الشخصية ومحاولة تأويل ما جرى وفق ما يعرف بتشهيد الشاهد الغائب، بمعنى أنهم أولوا مفاهيم الشخصية المحمدية وفقا لأستنتاجات وأفكار لم تعاصر ولم تفهم الواقع وقواه وأحكامه في تقييم ما تراه أنه كذلك، هناك كتابات تأريخية متأثرة بنسق من القواعد التي لم تكن صادقة في ذاتها ولكنها طاغية في عقول من يروجون لفكرة ما ثم يجعلون ما يؤمنون به هو القاعدة وهي القانون الذي تقاس به الشخصية الدينية.
في تعليق لبعض القراء على ما كتبته عن شخصية محمد الإنسان يجزم قاطعا رؤيته بأن محمدا كان نصرانيا وأن زوجته خديجة كانت على دين عيسى، والدليل أن ورقة بن نوفل الراهب النصراني كان ابن عمها وكان عرابها وعراب محمد، فما جاء به محمد إذن محاولة من طائفة شاذة من النصارى العرب لأبتكار دين جديد من خلال عنصر قد لا يكون محسوبا عليهم ولا ينتمي بالعلن لهذا التيار، ومن المناسب جدا أن يكون متهما بالوثنية ومن قبائل العرب التي هي على عبادة الأصنام، هذا التحليل التخيلي ليس أكثر من بناء فكري وهمي لا تستده أدلة ولا حجج وهو أيضا خارج سياقات المنطق العقلي الذي يتحكم بصيرورة التأريخ.
تاريخ الدين كما أراه هو تأريخ العقل حينما يريد أن يعود لنمطيته الطبيعية ليبدأ من جديد في كل مرة، هذا المنطق نجده حاضرا في النص القرآني تحديدا عندما نسب صفة الإسلام لكل الديانات التي تقول في جوهرها أنها تسلم أمرها لله، ليس من باب التسليم السلبي الذي يعني القعود عن الفعل والتحرك ضمن كونية الإنسان كونه صانع للمعرفة ومطورها، ولكن التسليم بأن حركة ونظام وقانون الوجود المحرك هو من صنع الله، وبالتالي لا إمكانية حقيقية وجدية لتغييره طالما أنه مضى على ما هو عليه وسيبقى كذلك طالما الوجود موجود، هذا الأشتراك الرابط بين الأديان لا يضر بقضية كون محمد كان نصرانيا أو يهوديا أو على ملة إبراهيم، بقدر ما يضر بقضية الإنسان حين يكون في التيه لا يعرف قوانين الوجود ولا يستدل عليها عندما يعبد أو يتعبد باللا معقول واللا عاقل.
التركيز إذا على الشبهات والأقاويل التي تخلو من منطقية وتعقل لم تكن من نصيب محمد فقط، بل هناك من يؤمن أن الكثير من الشخصيات الدينية الكبرى هي مجرد شخصيات أخترعها المؤرخون الهادفون من وراء غاية للوصول إلى فكرة ما، والهدف من ذلك أما تبرير أفكار أو ترويج برامج ذات سمه خاصة تجبر الإنسان للخضوع لها من خلال بوابة القداسة والعلاقة مع السماء، وتأثير هذه المحددات للوصول للسلطة الأجتماعية أو لمصادرة قرار العقل الحر، حتى وصلت الفكرة بالبعض أن محمد مثلا ليس إلا أحد الملوك العراقيين الذين حكموا في فترة ما، وأن مكة ما هي إلا مدينة عراقية في إقليمه الجنوبي، وإن التأويلات التي تستند لها هذه المجموعة تعود إلى نصوص القرآن ذاته، وأنه تم التلاعب باللغة تأريخيا حتى لا يشار إلى ما يرونه من حقائق في زعمهم، والغريب أن مثل هؤلاء ينكر نبوة محمد في ذات الوقت الذي يسبب وبعلل ويبرر ويثبت مقولته أستنادا إلى نصوص القرآن، وكأن القرآن نزل لوحده ووجد في طريق الناس دون أن يكون هناك نبي أو مرسال أرسل به.
هنا أريد أن أصل إلى نقطة مهمة في موضوع دراسة شخصية الإنسان محمد وهي هذا الكم الهائل من الأهتمام بها، بين فارط ومفرط، منتمي ومضاد، له وعليه، لا بد أن ذلك ينبع من أهمية وخطورة وجدية وتأثير هذه الشخصية على الوجود ومقدار ما أثرى فيها من فعل وردة فعل، وهذا ما يعاضد نظرتي أن محمدا لم يكن ذلك الشخص المستلب الإرادة والخاضع بتلقائية مطلقة لفعل الوحي وأمره، بقدر ما ساهم هو أيضا بأفتراض أن الوحي كان مصدر مهم من رؤيته، لكنه بالنتيجة كان هو حامل شعلة التمرد والتغير، وهو الفاعل الأجتماعي التحولي في الواقع وليس الوحي هو مت كان يقود عملية التحول هذه، وبهذا المقدار يكفي لصنع عظمة هذه الشخصية وقوتها، ناهيك عما يؤمن به البعض من أن الدين كان محمديا خالصا بالجذر والتأسيس والفعل ولم يكن متصلا بشكل أو بأخر بالسماء وإرادتها.