محمد الإنسان 2


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6770 - 2020 / 12 / 24 - 19:29
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

هناك قاعدة أجتماعية ونفسية وإن كان نسبية في الفرض والتعاطي تقول (أن الإنسان ابن بيئته وزمنه)، وبالتأكيد هذه القاعدة ليست قانونا مضطردا وإلا ما كان للإنسان أن يتطور طالما أنه أبن واقع صعب التحرك عن قواعده أو المجازفة بتركها والأبتعاد عنها نحو واقع جديد، ومع هذا تبقى البيئة بعنصريها الزمان والمكان محط تأثير بشكل أو بأخر في تحديد سلوكيات الإنسان وسعيه الدائم نحو الأكتشاف والترقي، هذا الواقع العملي قد يكون له قيمة حين ندرس أي شخصية في أي مجتمع على ضوء ما هو متبع في علمي الأجتماع والنفس، مع أننا نجد أمثلة كثيرة تخرج بعض النماذج المدروسة من قاعدة التأثير الكلي والجزئي، وتتحول هذه النماذج إلى محطة أنتقال للمجتمع وتطوير لسلوكياته بأي وسيلة، وأيضا يبقى الفكر والعقلانية والإقرار بحقيقة وأحقية الزمن في تحريك عجلة التجدد والإنشاء المجتمعي.
في العودة لدراسة الإنسان محمد أبن مكة وبيئتها والزمن الذي ولد فيه والعلاقات والأطر الأجتماعية الحاكمة والمتحكمة في صياغة ملامح شخصيته الذاتية، نجد أن هناك عدة عوامل لها القوة والتأثير في كيفية ولادة شخصية فريدة لم تخضع لقاعدة الإنسان ابن بيئته وهي.
• الطبيعة الدينية لمكة وعمقها التجاري.
• القبلية المفرطة وتشتت ولاءات الناس ما بين الخضوع لمنطق القبيلة ولمنطق واقع مكة.
• التأثير المتوافد على ثقافة مكة الحضاري والثقافي بأعتبارها مركز تجمع وتبادل حواري قائم على النفعية واحيانا على قاعدة تقديم الأجدر على الجدير.
• منزلة الأشخاص وأعتباراتها الذاتية في مجتمع شخصاني وليس مجتمع قيم حاكمة يمكن أن نؤشرها على أنها الضابط الرابط لسلوكياته إلا بالقدر الذي يخدم الذاتية المتضخمة للفرد المكي.
• الطبيعة الإنسانية الفطرية التي لو تم التحكم بها جيدا يمكن قيادتها للتمرد على البيئة وعلى الواقع.
هذه المحددات التي ذكرنا البعض منها من جملة عوامل كثيرة ساهمت في بلورة شخصية الإنسان محمد وتأهيله لقيادة مرحلة التمرد والهدم الأجتماعي لقيم ومحددات تقليدية وقد ذكرنا البعض منها في مباحث سابقة، يعود لها الدور الأساس في خلق هذه الشخصية المتمردة على مجتمعها قبل أن تكون هناك علاقة للسماء بموضوع القدرة أو القوة على التمرد.
فكما وضحنا في ما سبق كان لدور مكة المزدوج ليس فقط على مواطنيها بل وحتى على دورها المحوري في المجتمعات المتصلة بها والمتواصلة معها ذا جناحين، جناح ديني شديد التأثير في صياغة وبلورة رؤى تلك المجتمعات من خلال وجود الكعبة المشرفة والمقدسة لدى الكثير منها، وهذا ما منح مكة دور الموجه والقائد الديني ومنحها معصومية أعتبارية لدى تلك المجتمعات والقبائل التي تعظم ما هو رمزا لقوة السماء وتحاول أن تتماشى مع إرادتها أما خوفا وأتقاء أو تزلفا وبرغماتية في التعامل، من هنا فوجود المكي كشخص إلى جانب أي شخص من خارجها لا بد أن يفرز نوعا من التصنيف ونوعا من التمايز لصالح المكي لأنه وكما يظن الكثيرون في ذلك الوقت أن نفحات رب الكعبة تتواجد في هذه الشخصية التي لا بد من أن تحترم.
هذا جانب مهم وإن لم يكن عاما ومطلقا ولكن مع تمتع هذا المكي بالسلو أو المال أو الفخر بكونه من علية القوم وسادته بالتأكيد تمنحه هذه النظرة مقدارا كبيرا من الإجلال والهيبة وحتى التأييد لكونه يملك أكثر من مصدر من مصادر الأعتبار الأجتماعي، لذا فشخصية الإنسان محمد قد صاغها هذا الأعتبار بكل رئيسي وإن لم يسعى هو لها، ولكن الأعتبارات الأجتماعية والمحلية هي من فرضت بالواقع أن تكون عنوانا للسيد محمد سليل هاشم وعبد المطلب ووليد مكة والنسب الذي يرتقي بالوضيع فكيف بالسيد ابن السيد.
يبقى السؤال هنا هل خدمت هذه الفرضية والأعتبار محمد الإنسان بإرادته أو أنتمى لها للوصول إلى مرحلة التمرد والخروج عن بيئته؟ بالتأكيد الجواب سيكون نعم ساهمت من جانب كبير في تقديم الرجل لمجتمعه وأيضا بفضل ما يملك من أخلاقيات نشأ عليها وجسدها داخل المجتمع وهي التي زادت من رصيده الأجتماعي والأخلاقي بشكل أصبح مجال تكذيبه أو الإساءة الشخصية له في طريقها المسدود الذي لا يسمع.
من المتعارف عليه في المجتمعات التي تسيطر النزعة الأقتصادية عليها بأي فرع من فروع الاقتصاد، لا بد أن تطغى الروح المادية المجردة من المثاليات والقيم الأعتبارية التي لا تنتمي لعجلة الأقتصاد، فمجتمع مكة مجتمع مادي في فلسفته وجذوره وأخلاقياته، وهذا ما يفسر ولليوم تلك الروح الطامحة الطاغية للامتلاك والتعامل بما تمتلك بعيدا عن حسابات أخرى، هذا الوضع ينعكس تماما على سلوك أفراده ويتجسد بالروح الصارمة التي تحسب لكل شيء حساب من منظور الربح والخسارة، فلا غرو مثلا أن تعامل قريش وأهل مكة مع بيت الله أو الكعبة ينطلق من هذه الصورة، فبالرغم مما تلعبه من دور تحكمي في ديانات الناس يبقى هاجس التملك والتجارة وما يرافقها من سلوكيات هو جوهر الأهتمام لديني وليس الأعتماد على ما في الديانة من أخلاقيات أو مثل، لذا فمجتمع مكة يتعامل تجاريا مع الدين والقيم الدينية من هذه الزاوية وليس العكس كما هو شائع في دراسات المؤرخين ورواياتهم على تعظيم اهل مكة للكعبة من زاوية دينية بحته.
هذه الحقيقة الصادمة مع مثالية الإنسان محمد ولدت لديه شعور أولي أن دين أهل مكة هو التجارة وليس عبادة الله أو أحترام قيمه الأجتماعية والفكرية، ومن هذا الإدراك أختط الرجل بدايات التمرد والثورة على الواقع، قد تكون هناك أساليب دعم خارجية أو تسديدات ساهمت بها جوانب خفية في دفع محمد للنهوض بدعوته بغض النظر عن كونية الدعوة ومنشأها، فلو كانت ذات محمد تقبل بالواقع وترى فيه الصورة المطلوبة والحقيقة لم يكن بإمكانه ولا مع الف وحي ورب أن يتزحزح عن هذا التأييد والإقرار بحقيقة المجتمع، ولكن الوعي وحده قد يكون الشرارة لأبسط دوافع خارجية لنشعل نار التغيير لو كنا فعلا نحمل الوفاء لوعينا وحرصنا على ترجمته إلى الواقع.
فما أورده المحققون التأريخيون وكتاب السير والتاريخيات التأملية لا يستقيم لا عقلا ولا منطقا مع مجريات عملية التحول والتطور في شخصية محمد الإنسان، وكأنه صنع على وفق برنامج منقطع عن الواقع على دمية سوف تحول إلى نبي لمجرد رغبة فوقية، دون أن يلاحظوا أن العوامل الشخصية الذاتية العقلية والنفسية لا بد أن تكون مهيأة أصلا للرسالة والقبول بها والعمل لأجلها وصولا للتضحية بكل شيء من أجل مبدأ تؤمن به، ولو كان محمد ابن بيئته وزمانه وقد خير بأعلى مستويات تحقيق الأحلام لبشر، فرفض وقال (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي .....)، هذا النموذج السلوكي لا يمكن أن يكون حقيقيا ما لم يكن أصلا يملك الرؤيا العقلية الأكبر منه، ولا يمكن أن تأت فقط لمجرد أن صاحبها له علاقة مع الفوق، فما يزعمه البعض من الأنتقاص من هذه الشخصية الفريدة بقولهم (أن محمد كان يسعى للملك والفوز بالملذات من خلال دعوته الكاذبة ليس إلا)، فكيف يكون ساعيا لها وقد خير بأعظم منها ورفض؟.
لو قبل محمد بعرض سادة مكة وأنصاع لإرادة المجتمع القبلي أتساقا مع الروح القبلية المتأصلة في فكر من عاصر ومن سبقه من الناس ومنهم ما زال مصرا على الإيمان بتلك الوشائج، كان الآن في وضع مختلف رجل مر على التاريخ كما مر الكثيرون، لكن ما تميزت به رؤيته كان خارجا على كل قوانين وقيم المجتمع وقواعد العمل فيه، فلا التدين التجاري أثر فيه ولا النزعة الأنانونية القبلية كانت قادرة على ترويض عقله للتوافق معها، حتى من يظن أن الثقافة والفكر الوافد على مكة هو المسئول عن هذا الشكل الثوري في شخصية محمد لكثرة ما أتصل وتواصل معه، والحقيقة أن هذا الأمر لو كان فعليا أو مفترضا كحقيقة فلا يمكن التسليم به دون أن تكون الشخصية الذاتية أولا قادرة على هضم التواصل والأستفادة منه، لا سيما أن هذا التوافد والتواصل لم يحدث في زمنه فقط ثم أنقطع، وما زالت مكة تتسع وتتوسع مع كل قادم ويبقى الإنسان المكي إلا ما ندر ابن بيئته ومجتمعه وزمانه لهذا اليوم.