رأس المال: الفصل الثالث والعشرون (84) القانون العام للتراكم الرأسمالي 2


كارل ماركس
الحوار المتمدن - العدد: 6766 - 2020 / 12 / 20 - 12:13
المحور: الارشيف الماركسي     



2) الانخفاض النسبي للجزء المتغير من رأس المال في مجرى التراكم والتركز الذي يرافقه

اعتبر الاقتصاديون أنفسهم، أن لا الحجم الفعلي للثروة الاجتماعية، ولا مقدار رأس المال المكتسب أصلا، يقود إلى ارتفاع الأجور، فما يرفع هذه الأخيرة ليس إلا استمرار نمو التراكم، ودرجة سرعة هذا النمو (آدم سميث، [ثروة الأمم Wealth of Nations]، الكتاب الأول، الفصل الثامن). لقد درسنا، حتى الآن، طوراً خاصاً واحداً من هذه العملية، وهو الذي يتحقق فيه نمو رأس المال مقرونا بثبات تركيبه التكنیكي. بيد أن العملية تمضي إلى ما هو أبعد من هذا الطور.

فمنذ أن تنشأ الأسس العامة للنظام الرأسمالي، يمضي تطور إنتاجية العمل الاجتماعي في مجرى التراكم حتى يبلغ نقطة تغدو معها هذه الإنتاجية أعظم رافعة للتراكم.

يقول آدم سميث: “إن السبب الذي يؤدي إلى رفع الأجور، وهو تزايد رأس المال، هو نفسه الذي ينزع إلى زيادة قدرات إنتاجية العمل، وإلى جعل كمية متضائلة من العمل، تنتج كمية متعاظمة من المنتوجات”(*).
وعدا عن الشروط الطبيعية، كخصوبة التربة، وغير ذلك، وعدا عن مهارة المنتجين المستقلين، العاملين في انعزال – التي تظهر نوعية في جودة منتوجاتهم أكثر مما تظهر كمية في كتلتها – فإن المستوى الاجتماعي لإنتاجية العمل يجد التعبير عنه في المقدار النسبي لوسائل الإنتاج التي يقوم عامل واحد، خلال مدة معينة، وبتوتر معين لقوة العمل، بتحويلها إلى منتوجات. إن كتلة وسائل الإنتاج التي يشتغل بها العامل، تزداد بازدياد إنتاجية عمله. إلا أن هذه الوسائل تلعب هنا دوراً مزدوجاً. فازدياد البعض منها هو نتيجة لتزايد إنتاجية العمل، بينما ازدیاد بعضها الآخر، هو سبب لتزايد هذه الإنتاجية. وكمثال على ذلك، فإن تقسيم العمل في المانيفاکتورة، واستخدام الآلات يفضيان إلى زيادة المواد الأولية التي تصنع خلال المدة نفسها، وبالتالي تدخل كتلة أعظم من المواد الأولية والمواد المساعدة في عملية العمل. وهذه نتيجة لتزايد إنتاجية العمل. من جهة أخرى، نجد أن كتلة الآلات ودواب العمل، والأسمدة الكيماوية، وأنابيب تصريف المياه، وما إلى ذلك، هي شرط لزيادة إنتاجية العمل. وكذلك الأمر بالنسبة إلى كتلة وسائل الإنتاج المتركزة في شكل الأبنية، والأفران العالية، ووسائط النقل، إلخ. وسواء كان نمو حجم وسائل الإنتاج شرطة أم نتيجة، فإن نمو حجمها بالقياس إلى قوة العمل المندمجة فيها، إنما هو تعبير عن نمو إنتاجية العمل. وعلى هذا ينجلي نمو هذه الأخيرة في تناقص كتلة العمل قياسا إلى كتلة وسائل الإنتاج التي يحركها هذا العمل أو في تضاؤل مقدار العنصر الذاتي لعملية العمل بالمقارنة مع عناصرها الموضوعية.

إن هذا التغير في التركيب التكنیكي لرأس المال، أي هذا النمو في كتلة وسائل الإنتاج بالمقارنة مع كتلة قوة العمل التي تحيي هذه الوسائل، إنما ينعكس، في التركيب القيمي لرأس المال، عبر ازدیاد جزئه الثابت على حساب جزئه المتغير. فقد يكون رأس المال في الأصل، مثلا، منقسماً إلى 50% تنفق على وسائل الإنتاج، و50% تخصص لقوة العمل؛ وفي فترة لاحقة، ومع نمو درجة إنتاجية العمل، ينقسم رأس المال إلى 80% مخصصة لوسائل الإنتاج، و20% لقوة العمل، وهكذا دواليك. إن قانون النمو المطرد لرأس المال الثابت، قياسا إلى رأس المال المتغير، يتأكد عند كل خطوة (كما بينا من قبل) بالتحليل المقارن لأسعار السلع، سواء قارنا بين مختلف الحقب الاقتصادية لأمة معينة أو بين مختلف الأمم في حقبة واحدة. وإن المقدار النسبي لذلك العنصر من السعر، الذي يمثل قيمة وسائل الإنتاج المستهلكة وحدها، أي الجزء الثابت من رأس المال، يتناسب تناسباً طرديا مع تقدم التراكم، أما المقدار النسبي للعنصر الآخر من السعر الذي يدفع للعمل، أي الجزء المتغير من رأس المال، فيتناسب تناسباً عكسيا مع تقدم التراكم.

لكن هذا الهبوط في الجزء المتغير من رأس المال بالمقارنة مع الجزء الثابت، أي هذا التغير في التركيب القيمي لرأس المال، لا يبين التغير في تركيب أجزاء مكوناته المادية، إلا بصورة تقريبية. فإذا كانت قيمة رأس المال المستخدم اليوم، مثلا، في صناعة الغزل تنقسم إلى 8/7 رأسمال ثابت و8/1 رأسمال متغير، بينما كانت النسبة في بداية القرن الثامن عشر 2/1 في رأسمال ثابت و2/1 رأسمال متغير، نجد من جهة أخرى أن كتلة المواد الأولية ووسائل العمل، إلخ، التي تستهلكها كمية معينة من عمل الغزل بصورة منتجة، اليوم، هي أكبر بمئات المرات مما كانت عليه في بداية القرن الثامن عشر. والسبب هو، بكل بساطة، أن تزايد إنتاجية العمل لا يقترن فقط بتزايد حجم وسائل الإنتاج التي يستهلكها، بل إن قيمة هذه الوسائل تتضاءل إذا قورنت بحجمها. لذا فقيمتها تزداد بصورة مطلقة، ولكن ليس بصورة طردية مع أبعادها. وهكذا فإن تزايد الفارق بين رأس المال الثابت ورأس المال المتغير هو أقل بكثير من تزايد الفارق بين كتلة وسائل الإنتاج التي يتحول إليها رأس المال الثابت، وكتلة قوة العمل التي يتحول إليها رأس المال المتغير. فالفارق الأول ينمو بنمو الفارق الثاني، ولكن بدرجة أقل من هذا الأخير.

ولكن، إذا كان تقدم التراكم يخفض المقدار النسبي لرأس المال المتغير فإن ذلك لا يستبعد بأي حال إمکان ارتفاع مقداره المطلق. لنفرض أن قيمة رأس المال تنقسم في البدء إلى 50% ثابت، و50% متغير، ثم باتت تنقسم فيما بعد إلى 80% ثابت و20% متغير. وإذا كان رأس المال الأصلي، ولنفرض أنه يبلغ 6000 جنيه استرليني، قد ارتفع في غضون ذلك إلى 18 ألف جنيه، فإن جزءه المتغير يزداد أيضا بنسبة الخُمس. فقد کان 3000 جنيه وهو الآن 3600 جنيه. ولكن في حين أن زيادة رأس المال بنسبة 20% كانت تكفي، في السابق، لرفع الطلب على العمل بنسبة 20%، فإن هذه الزيادة الأخيرة في الطلب تستلزم الآن زيادة رأس المال الأصلي ثلاث مرات.

لقد أوضحنا في الجزء الرابع، كيف أن نمو القدرة الإنتاجية الاجتماعية للعمل يفترض سلفاً وجود التعاون على نطاق واسع؛ وكيف أنه لا يمكن إلا على هذا الأساس تنظيم تقسيم العمل وتركيبه والتوفير في وسائل الإنتاج عن طريق تركيزها على نطاق واسع، وظهور وسائل العمل التي لا تصلح، بسبب طبيعتها المادية بالذات، لغير الاستخدام الجماعي، مثل منظومة الآلات، إلخ، وزج القوى الطبيعية الجبارة في خدمة الإنتاج؛ وتحويل عملية الإنتاج إلى تطبيق علمي للتكنولوجيا. وعلى أساس الإنتاج السلعي، حيث نجد وسائل الإنتاج ملكاً لأشخاص خاصين، وحيث يكون العامل اليدوي، إما منتج سلع معزولاً ومستقلا عن الآخرين، أو بائع قوة عمله بوصفها سلعة نظرا لافتقاره إلى الوسائل اللازمة لمزاولة صنعة مستقلة، على أساس هذا الإنتاج، لا يمكن لهذا الشرط، أي للتعاون واسع النطاق، أن يتحقق إلا عن طريق ازدياد رؤوس الأموال الفردية، إلا بقدر ما تتحول وسائل الإنتاج الاجتماعية ووسائل العيش إلى ملكية خاصة للرأسماليين. إن قاعدة الإنتاج السلعي لا تسمح بظهور الإنتاج واسع النطاق إلا في الشكل الرأسمالي وحده. وعلى هذا فإن تراكماً معيناً لرأس المال بين أيدي منتجين أفراد للسلع، يؤلف الشرط الضروري لبروز نمط الإنتاج الرأسمالي الخاص. ولذلك ينبغي لنا أن نفترض أن ذلك هو ما يحدث خلال فترة الانتقال من الحرفة اليدوية إلى المشروع الرأسمالي. وتمكن تسمية ذلك بالتراكم البدائي، لأنه القاعدة التاريخية لا النتيجة التاريخية للإنتاج الرأسمالي الخاص. أما كيف انبثق هذا التراكم ذاته، فذلك أمر لا حاجة لبحثه الآن. يكفي أنه يؤلف نقطة انطلاق. ولكن جميع طرائق رفع القدرة الإنتاجية الاجتماعية للعمل، التي تنمو على هذه القاعدة، هي في الوقت ذاته طرائق لزيادة إنتاج فائض القيمة، أو المنتوج الفائض، وهذا بدوره هو العنصر المولد للتراكم. فهذه الطرائق، إذن، هي في الوقت ذاته طرائق لإنتاج رأس المال بواسطة رأس المال، أي طرائق تراكمه المتسارع. وإن الاستمرار في إعادة تحويل فائض القيمة إلى رأسمال يتجلى في تنامي مقدار رأس المال الذي ينخرط في عملية الإنتاج. وهذا بدوره يؤلف الأساس لتوسيع نطاق الإنتاج، ولطرائق رفع قدرة إنتاجية العمل، التي تصاحبه، وللتسارع في إنتاج فائض القيمة. وعليه إذا كانت درجة معينة من تراكم رأس المال شرطاً لنمط الإنتاج الرأسمالي الخاص، فإن هذا الأخير يؤدي، عن طريق التأثير العكسي، إلى تسريع تراكم رأس المال. إذن، فبنمو تراكم رأس المال ينمو النمط الخاص للإنتاج الرأسمالي، وبنمو نمط الإنتاج الرأسمالي ينمو تراكم رأس المال. إن هذين العنصرين الاقتصاديين يفضيان، بالتأثير المعقد للحوافز التي يتبادلانها، إلى إحداث ذلك التغير في التركيب التكنيكي لرأس المال الذي يؤدي إلى انخفاض الجزء المتغير منه، أدنى فأدنى، بالمقارنة مع الجزء الثابت.

إن كل رأسمال فردي يمثل هذا القدر أو ذاك من تركز وسائل الإنتاج، مع ما يقابله من السيطرة على جيش من العمال كبير إلى هذا الحد أو ذاك. وكل تراكم يغدو وسيلة لتحقيق تراكم جديد. وبتزايد كتلة الثروة التي تقوم بوظيفة رأس المال، يزيد التراكم من تركز تلك الثروة بين أيدي رأسماليين أفراد، فيوسع بذلك قاعدة الإنتاج الكبير، وقاعدة الطرائق المتميزة للإنتاج الرأسمالي. ويتحقق نمو رأس المال الاجتماعي بفعل نمو الكثير من رؤوس الأموال الفردية. وإذا بقيت الظروف الأخرى ثابتة، تزداد رؤوس الأموال الفردية، سوية مع تركز وسائل الإنتاج، حيث يؤلف كل واحد من رؤوس الأموال هذه جزءا صحيحا من رأس المال الاجتماعي بأسره. وفي الوقت نفسه نجد أن ثمة أجزاء تنسلخ عن رؤوس الأموال الأصلية، لتنشط بوصفها رؤوس أموال جديدة، مستقلة. ويلعب توزيع التركة ضمن الأسر الرأسمالية، دوراً كبيراً في هذا المجال، إلى جانب أسباب أخرى. إذن، فبمضي التراكم، ينمو عدد الرأسماليين، بهذا القدر أو ذاك. وهناك صفتان تمیزان هذا النوع من التركز، الذي يقوم مباشرة على التراكم، أو هو بالأحرى، مطابق له. أولا – إن تزايد تركز وسائل الإنتاج الاجتماعية بين أيدي رأسماليين أفراد تحدده درجة ازدياد الثروة الاجتماعية، إذا بقيت الشروط الأخرى على حالها. ثانياً – إن ذلك الجزء من رأس المال الاجتماعي الموظف في كل فرع خاص من فروع الإنتاج موزع على كثرة من الرأسماليين الذين يواجهون بعضهم بعضا ويتنافسون كمنتجي سلع مستقلين. وعليه فإن التراكم، والتركز المرافق له، لا يتبعثران على مراكز عديدة فحسب، بل كذلك يتقاطع ازدياد كل رأسمال ناشط مع تكون رؤوس أموال جديدة، وانشطار رؤوس الأموال القديمة. ولذا يظهر التراكم في صورة نمو في تركز وسائل الإنتاج والسيطرة على العمل، من جهة، وفي صورة تنافر وتباعد بين رؤوس أموال فردية كثيرة، من جهة أخرى.

إن تجزؤ رأس المال الاجتماعي الكلي إلى كثرة من رؤوس الأموال الفردية، أي تنافر هذه الأجزاء بعيداً عن بعضها بعضا، يقابله فعل تجاذبها المعاكس. ولا نقصد بهذا التجاذب، التركز البسيط لوسائل الإنتاج والسيطرة على العمل، اللذين يطابقان التراكم. بل نقصد تركز رؤوس الأموال الموجودة في الأصل، والقضاء على استقلالها الفردي، ومصادرة الرأسمالي للرأسمالي، وتحويل كثرة من رؤوس الأموال الصغيرة إلى حفنة من رؤوس الأموال الكبيرة. وتختلف هذه العملية عن سابقتها في أنها تفترض فقط تغيراً في توزيع رؤوس الأموال العاملة، الموجودة أصلا، ولهذا لا يتقيد نطاق فعلها بالنمو المطلق للثروة الاجتماعية، وبالحدود المطلقة للتراكم. إن رأس المال ينمو إلى كتل هائلة في موضع واحد، وفي يد واحدة، لأن آخرين كثيرين قد فقدوه في موضع آخر. هذا هو المركز بالمعنى الدقيق للكلمة، بوصفه شيئا متميزة عن التراكم والتركز.

إن قوانين تمركز رؤوس الأموال هذا، أي جذب رأس المال لرأس المال، لا يمكن عرضها في هذا الموضع من الكتاب. ولا بد من الاكتفاء بإشارات وجيزة إلى بعض الحقائق. إن حرب المنافسة تُخاض بخفض أسعار السلع. ورخصها يتوقف عند بقاء الشروط الأخرى ثابتة، على إنتاجية العمل التي تتوقف بدورها على نطاق الإنتاج. لذا فإن رؤوس الأموال الكبيرة تهزم رؤوس الأموال الصغيرة. ولا بد من أن نتذكر أن تطور نمط الإنتاج الرأسمالي يزيد مقدار الحد الأدنى من رأس المال الفردي اللازم لتسيير مشروع معين بشروط عادية. لذا نجد أن رؤوس الأموال الأصغر نسبياً، تندفع إلى ميادين الإنتاج التي لم تستول عليها الصناعة الكبرى بعد إلا على نحو متفرق، أو على نحو غير كامل. في هذا المجال تحتدم المنافسة احتداماً يتناسب طرديا مع عدد رؤوس الأموال المتصارعة، وعكسياً مع مقدارها. وتنتهي دوماً إلى خراب الكثير من صغار الرأسماليين، الذين ينتقل بعض رؤوس أموالهم إلى أيدي المنتصرين، ويتلاشى بعضها الآخر. وعدا عن ذلك، تنشأ مع الإنتاج الرأسمالي قوة جديدة تماما، هي نظام الائتمان الذي يزحف في مراحله الأولى خلسة، بوصفه المعين المتواضع للتراكم، جاذباً بخيوط خفية لا تُرى، الموارد النقدية المبعثرة على سطح المجتمع بمقادير كبيرة أو صغيرة، ليضعها بين أيدي الرأسماليين، أفرادا أو جماعات متحدة، لكنه سرعان ما يصبح سلاحا جديداً فتاكاً في حرب المنافسة، ويتحول أخيراً إلى آلية اجتماعية هائلة لمركزة رؤوس الأموال.

وبمقدار تطور الإنتاج والتراكم الرأسماليين، تتطور الرافعتان الأكثر جبروتاً للتمركز وهما – المنافسة والائتمان. كما أن مضي التراكم قدماً يزيد المادة الصالحة للتمركز، أي رؤوس الأموال المفردة، في حين أن توسع الإنتاج الرأسمالي يولد من هنا الحاجة الاجتماعية، ويولد من هناك الوسائل التكنیكية الضرورية لنشوء المؤسسات الصناعية الجبارة التي يتطلب قيامها تمرکزاً مسبقاً لرأس المال. ولذا نجد أن قوة الجذب المتبادل، التي تجمع رؤوس الأموال المفردة، والنزوع إلى التمركز، هما في يومنا هذا أقوى مما كانا عليه في أي وقت مضى. ولكن، وإن كانت السعة والنشاط النسبيان لحركة التمركز يتحددان، إلى درجة معينة، بمقدار التوسع المتحقق في الثروة الرأسمالية وكذلك بتفوق الآلية الاقتصادية، فإن مضي التمركز قدماً لا يتوقف، بأي حال، على حصول نمو إيجابي في مقدار رأس المال الاجتماعي. وهذا هو الفرق الأساسي الذي يميز التمركز عن التركز، فالتركز ليس سوى اسم آخر لتجديد الإنتاج على نطاق أوسع. إن التمركز قد ينشأ بمجرد حصول تغير في توزيع رؤوس الأموال الموجودة أصلا، عن تعديل بسيط في التجميع الكمي لأجزاء رأس المال الاجتماعي. فبوسع رأس المال، هنا، أن ينمو كتلاً جبارة في يد واحدة، لأنه أفلت، هناك، من أيدي أفراد عديدين.

ويبلغ التمركز، في أي فرع معين من فروع الإنتاج، حدوده القصوى إذا اندمجت جميع

رؤوس الأموال المفردة الموظفة فيه لتصبح رأسمالا واحداً (1). ولا يمكن بلوغ هذه الحدود القصوى في كل مجتمع معين، إلا عند توحيد مجمل رأس المال الاجتماعي إما بين يدي رأسمالي واحد وأما في شركة رأسمالية واحدة.

إن التمركز يكمل فعل التراكم بتمكين الرأسماليين الصناعيين من توسيع نطاق أعمالهم. وسواء تحققت هذه النتيجة الأخيرة بفعل التراكم أم التمركز، وسواء تحقق التمركز عن طريق الالحاق القسري – عندما تصبح رؤوس أموال معينة مراكز جذب طاغية لرؤوس أموال أخرى، فتحطم تلاحمها الفردي وتلتهم شظاياها المبعثرة – أم جرى اندماج عدد من رؤوس الأموال، المتكونة أصلا، أو التي تمر بطور النشوء، اندماجاً أكثر سلاسة عبر انشاء شركات مساهمة – فإن النتيجة الاقتصادية تظل واحدة في جميع الأحوال. فتعاظم أبعاد المؤسسات الصناعية يؤلف، في كل مكان، نقطة انطلاق نحو تنظيم أوسع للعمل الكلي لكثيرين، ونحو تطور أوسع لقواه المادية المحركة، وبكلمة أخرى، نحو التحويل المطرد لعمليات الإنتاج المعزولة، الجارية بالطرائق التقليدية، إلى عمليات إنتاج موحدة اجتماعياً ومُدارة علمياً.

بيد أن من الواضح أن التراكم، أي نمو رأس المال تدريجيا عن طريق تجديد الإنتاج، إذ ينتقل من الشكل الدائري إلى اللولبي، عملية بطيئة جداً إذا ما قورنت بالتمركز، الذي لا يقتضي سوى تغيير التجميع الكمي لأجزاء رأس المال الاجتماعي المتكاملة. وكان العالم سيظل حتى الآن بدون سكك حديد لو اضطر أن ينتظر حتى يتمكن التراكم من جعل بعض رؤوس الأموال المفردة كبيرة بما فيه الكفاية لتضطلع ببناء هذه السكك. أما التمركز، على العكس من ذلك، فقد أنجز الأمر في غمضة عين، بواسطة الشركات المساهمة. واذ يؤدي التمركز على هذا النحو إلى توسيع وتعجيل فعل التراكم، فإنه يوسّع ويسرّع، في آن واحد، تلك الثورات في التركيب التكنیكي لرأس المال التي تزيد جزءه الثابت على حساب جزئه المتغير، فتقلص بذلك الطلب النسبي على العمل.

إن كتل رؤوس الأموال التي تندمج بين عشية وضحاها بفعل المركز، تجدد إنتاجها وتنمو، مثلما تفعل رؤوس الأموال الأخرى، ولكنها تحقق ذلك بسرعة أكبر، فتغدو، لذلك، روافع جبارة للتراكم الاجتماعي. وبالتالي فعندما نتحدث عن تقدم التراكم الاجتماعي، فإننا نقصد ضمنياً – في يومنا هذا – فعل التمركز أيضا.

إن رؤوس الأموال الإضافية التي تتكون في المجرى العادي للتراكم (راجع الفصل الثاني والعشرين، البند الأول) تخدم في الأغلب، كقاطرة لاستثمار الاختراعات والاكتشافات الجديدة، والتطويرات الصناعية بوجه عام. ولكن، بمضي الوقت يبلغ رأس المال القديم هو الآخر لحظة تجديده من الرأس حتى أخمص القدمين، لحظة يسلخ جلده القديم لكي يولد من جديد، مثل الآخرين، في شكل تکنیکي محسن، حيث تكفي كتلة أصغر من العمل لتحريك كتلة أكبر من الآلات والمواد الأولية. وبديهي أن الانخفاض المطلق في الطلب على العمل، الذي ينشأ عن ذلك بالضرورة، يكون أعظم كلما كبر نطاق الاندماج الناجم عن حركة التمركز بين رؤوس الأموال، التي تمر بعملية التجديد.

وعليه فإن رأس المال الإضافي، الذي يتكون في مجرى التراكم، يجتذب عددا متضائلاً من العمال، قياسا إلى مقداره، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن رأس المال القديم، الذي يجدد إنتاجه دورياً بتركيب جديد، يطرد عددا متزايداً من العمال الذين كان يستخدمهم في السابق.

_____________
(*) إن من حسنات تونن أنه طرح هذا السؤال. أما جوابه فهو طفولي بكل بساطة. آدم سمیت، ثروة الأمم، المجلد الأول، إدنبره، 1814، ص 142. إن. برلین.
(1) [حاشية للطبعة الرابعة: إن أحدث التروستات، الإنكليزية والأميركية تحاول الآن بلوغ هذا الهدف بالسعي إلى توحيد جميع المشاريع الكبيرة، على الأقل القائمة في فرع واحد من فروع الصناعة، لتحويلها إلى شركة مساهمة ضخمة واحدة تتمتع باحتكار عملي. ف. إنجلز].