رأس المال: الفصل الثالث والعشرون (83)القانون العام للتراكم الرأسمالي


كارل ماركس
الحوار المتمدن - العدد: 6763 - 2020 / 12 / 17 - 11:42
المحور: الارشيف الماركسي     



1) ارتفاع الطلب على قوة العمل، الذي يرافق التراكم، مع بقاء ترکیب رأس المال على حاله

ندرس في هذا الفصل تأثير نمو رأس المال على مصير الطبقة العاملة. وأهم عنصر في هذا البحث، هو تركيب رأس المال، والتغيرات التي تطرأ عليه في مجرى عملية التراكم.

وينبغي أن يفهم اصطلاح: تركيب رأس المال، بمعنى مزدوج. فإذا نظرنا إليه من ناحية القيمة، يتحدد تركيب رأس المال بنسبة انقسامه إلى رأسمال ثابت، أي قيمة وسائل الإنتاج، ورأسمال متغير، أي قيمة قوة العمل أو المبلغ الإجمالي للأجور. أما إذا نظرنا إليه من الناحية المادية، نعني من ناحية الوظائف التي يؤديها في عملية الإنتاج، فإن رأس المال أيا كان، ينقسم إلى وسائل إنتاج، وقوة عمل حية. وبهذا المعنى يتحدد تركيب رأس المال بالعلاقة بين كتلة وسائل الإنتاج المستخدمة، من جهة، وكمية العمل اللازمة لاستخدام هذه الوسائل، من جهة أخرى. التركيب الأول أسميه التركيب القيمي لرأس المال، والتركيب الثاني أسميه التركيب التكنيكي لرأس المال. وثمة علاقة ترابط وثيق بين الاثنين. وللتعبير عن هذا الترابط، فإنني أطلق على التركيب القيمي لرأس المال، بمقدار ما يتحدد بتركيبه التكنيكي ويعكس تغيرات هذا الأخير، أطلق عليه اصطلاح التركيب العضوي لرأس المال. وحيثما نتحدث عن تركيب رأس المال، من دون ذكر صفات أخرى، فإن المقصود بذلك دوما هو التركيب العضوي.

إن رؤوس الأموال المفردة، الكثيرة، الموظفة في فرع معين من فروع الإنتاج، تمتلك تراكيب مختلفة عن بعضها بعضا بهذا القدر أو ذاك. ومتوسط تركيب رأس المال المفرد يعطينا تركيب رأس المال الكلي في هذا الفرع من فروع الإنتاج. وأخيرا فإن المتوسط العام المشتق من مجموع متوسطات تراكيب رؤوس الأموال في جميع فروع الإنتاج قاطبة، يقدم لنا تركيب رأس المال الاجتماعي في بلد من البلدان، وهذا الأخير هو موضوع عرضنا اللاحق في آخر المطاف.

إن نمو رأس المال ينطوي على نمو جزئه المتغير، أي المتحول إلى قوة العمل. فينبغي لجزء من فائض القيمة المتحولة إلى رأسمال إضافي أن يتحول، على الدوام، ثانية إلى رأسمال متغير، أي رصيد عمل إضافي. فلو افترضنا بقاء الشروط الأخرى على حالها وأن تركيب رأس المال يبقى ثابتاً، نعني أن كتلة معينة من وسائل الإنتاج، تحتاج كالسابق إلى الكتلة نفسها من قوة العمل بغية تشغيلها، فإن الطلب على العمل، ورصيد عيش العمال، سوف يرتفعان، كما هو واضح، بتناسب طردي مع نمو رأس المال، فيرتفعان بوتيرة أسرع، كلما كان نمو رأس المال أسرع. وبما أن رأس المال ينتج، سنويا، فائض قيمة يُضاف جزء منه كل عام إلى رأس المال الأصلي، وبما أن هذه الإضافة تنمو سنوياً بنمو ابعاد رأس المال الناشط، وأخيرا بما أن الحوافز الاستثنائية للثراء كافتتاح أسواق جديدة أو ميادين جديدة لاستخدام رأس المال في أعقاب نشوء حاجات اجتماعية جديدة، إلخ، تفضي إلى إمكانية توسيع نطاق التراكم توسيعاً سريعاً بمجرد تغيير انقسام فائض القيمة أو انقسام المنتوج الفائض إلى رأسمال وإيراد، فإن متطلبات تراكم رأس المال يمكن أن تفوق الزيادة في قوة العمل، أي تفوق الزيادة في عدد العمال، وبالتالي فإن الطلب على اليد العاملة يتجاوز عرضها ويؤدي إلى ارتفاع الأجور. ولا بد لهذا الأمر من أن يقع، آخر المطاف، فيما لو استمرت الشروط المفترضة أعلاه. وبما أن عدد العمال الذين يجري استخدامهم كل عام، سوف يكون أكبر من عدد المستخدمين منهم في السنة السابقة، فلا بد، آجلا أو عاجلاً من بلوغ نقطة معينة، تبدأ فيها متطلبات التراكم بتجاوز العرض المعتاد للعمل، وعندها تأخذ الأجور في الارتفاع. وقد ترددت في إنكلترا أصداء نواحٍ شاكٍ من هذه الظاهرة، خلال القرن الخامس عشر كله، وخلال النصف الأول من القرن الثامن عشر. بيد أن الظروف المواتية إلى هذا الحد أو ذاك لإدامة وتكاثر العمال المأجورين، لا تمس الطابع الأساسي للإنتاج الرأسمالي بشيء. فمثلما أن تجديد الإنتاج البسيط يؤدي، باستمرار، إلى تجديد إنتاج العلاقة الرأسمالية ذاتها، أي العلاقة بين الرأسماليين من جهة، والعمال المأجورين من جهة أخرى، كذلك فإن تجديد الإنتاج الموسع، أي التراكم، يجدد إنتاج العلاقة الرأسمالية على نطاق أوسع، أي أنه يزيد عدد الرأسماليين أو يزيد ضخامة ثروة الرأسماليين في هذا القطب، ويزيد عدد العمال المأجورين، في القطب المعاكس. وإن تجديد إنتاج قوة عمل مرغمة، أبداً، على الاندماج برأس المال بصفتها وسيلة لإنماء قيمته، وعاجزة عن الإفلات من قبضته، وخاضعة لعبودية رأس المال، هذه العبودية المتخفية في رداء حرية بيعها لنفسها إلى شتى الرأسماليين المفردين، وإن تجديد إنتاج قوة العمل على هذا النحو يؤلف، في واقع الأمر، إحدى مقومات تجديد إنتاج رأس المال نفسه. فتراكم رأس المال هو، إذن، نمو للبروليتاريا (1).

لقد أدرك الاقتصاد السياسي الكلاسيكي هذه الحقيقة إلى حد أن آدم سميث وریکاردو وغيرهما اعتبروا، بشكل غير دقيق كما ذكرنا آنفا، أن التراكم يطابق استهلاك العمال المنتجين لكل ذلك الجزء من المنتوج الفائض المحول إلى رأسمال، أو بطابق تحویل هذا الجزء إلى مزيد من العمال المأجورين. وقد قال جون بيللرز منذ عام 1696:

“لو كان لدى المرء مائة ألف إيكر (*) من الأرض، وعدد مماثل من الجنيهات الاسترلينية وعدد مماثل من المواشي، ولم يكن لديه عامل، فمن سيكون هذا الثري إن لم يكن عاملا؟ وبما أن العمال يجعلون الناس أثرياء، إذن فكلما زاد عدد العمال، زاد عدد الأثرياء … فعمل الفقراء هو مناجم الأغنياء”(2). كذلك يقول برنار دي ماندفيل في مطلع القرن الثامن عشر:

“حيثما تكون الثروة محمية بصورة كافية، فإن العيش بدون نقود سيكون أسهل من العيش بدون فقراء، فمن ذا الذي سيقوم بالعمل؟.. وبما أنه لا ينبغي تجويعهم [الفقراء] كذلك لا ينبغي اعطاؤهم شيئا يسمح بالادخار. وإذا استطاع أحد أفراد الطبقة الدنيا، هنا أو هناك، أن يرتفع بنفسه فوق الوضع الذي ترعرع فيه، ببذل جهد خارق في العمل، وبالتقتير على نفسه، فلا يجوز لأحد أن يمنعه، بل على العكس. فمما لا ينكر أن العيش بصورة مقتصدة هو المسلك الأكثر حكمة لكل إنسان بمفرده في المجتمع، ولكل عائلة خاصة، لكن من مصلحة جميع الأمم الثرية، ألا يركن الشطر الأعظم من الفقراء إلى الخمول أبدا، وأن ينفقوا مع ذلك كل ما يكسبونه، دوما … إن أولئك الذين يكسبون عيشهم بعملهم اليومي لا يمتلكون ما يدفعهم لأداء الخدمة سوى حاجاتهم، التي من الحكمة تخفيفها، ولكن من الحماقة شفاؤها. إذن فالشيء الوحيد الذي يجعل الرجل العامل مثابراً، هو الأجور المعتدلة، لأن أجوراً أقل مما ينبغي سوف تؤدي به، حسب مزاجه، إما إلى تثبيط الهمة وإما إلى اليأس، مثلما أن أجوراً أكبر مما ينبغي ستجعله وقحاً وكسولاً … يتضح مما تقدم أن أضمن الثروات، لأمة حرة تحظر استخدام العبيد، تكمن في وفرة عدد الفقراء الكدودین. فهم معين لا ينضب للأساطيل والجيوش، وبدونهم، لا تتحقق أي متعة، ويستحيل استخدام منتوجات البلد للحصول على مداخيل. ولجعل المجتمع، (الذي يتألف بالطبع من الذين لا يعملون) سعيداً، والشعب مرتاحاً حتى في أسوأ الظروف، لا بد من أن يبقى السواد الأعظم جاهلا وفقيراً على السواء، فالمعرفة تنمي رغباتنا كما تضاعفها، وكلما تضاءلت رغبات المرء، سهل إشباع حاجاته الضرورية” (3).

ولكن الشيء الذي لم يكن ماندفيل قد رآه بعد، وهو رجل مستقیم، صافي الذهن، أن آلية عملية التراكم ذاتها تزيد، إلى جانب زيادة رأس المال، جمهور «الفقراء الكدودین»، أي العمال المأجورين الذين يحولون قوة عملهم إلى قوة متنامية لإنماء قيمة رأس المال المتعاظم، فيخلدون بذلك تبعيتهم لما صنعوه بأيديهم على شكل منتوج يتجسد في إهاب رأسماليين. ويقول السير ف. م. إيدن، بصدد علاقة التبعية هذه، في كتابه المسمّى “وضع الفقراء، أو تاريخ الطبقات العاملة في إنكلترا”، ما يلي:

«لا بد في منطقتنا الجغرافية من العمل لتأمين حاجاتنا، ولا بد في الأقل من تشغيل قسم من المجتمع، بلا كلل.. وهناك آخرون يتحكمون بثمار المثابرة في العمل، مع أنهم “لا يكدّون ولا يغزلون” ويدينون بإعفائهم من العمل إلى المدنية والنظام لا غير… وهم مخلوقات متميزة أنجبتها المؤسسات المدنية (4)، التي تقر أن باستطاعة الأفراد تملك ثمار العمل بوسائل أخرى غير بذل العمل. وأصحاب الثروة المستقلة… مدينون بثروتهم، لا إلى قدرات خارقة يتحلون بها، بأي حال، بل هم مدينون بذلك، كلية على وجه التقريب، إلى عمل الآخرين. وليس تملك الأرض والنقود، بل “التحكم بالعمل” (the command of labour) هو ما يميز الأغنياء عن الفقراء… وهذا [المخطط الذي يرتضيه إيدن] سوف يعطي المالكين الحد الكافي من النفوذ والسلطة على أولئك الذين يعملون لأجلهم … مما يضع هؤلاء العمال، لا في وضع من الإذلال والعبودية، بل في حالة هينه ومتسامحة من التبعية التي يقر بها كل عارف بالطبيعة البشرية، كأمر ضروري لرفاه العمال أنفسهم»(5).
وتمكن الإشارة على نحو عابر، إلى أن السير ف. م. إيدن، هو التلميذ الوحيد لآدم سميث الذي كتب عملا مرموقاً خلال القرن الثامن عشر (6).
إن تبعية العمال لرأس المال، في ظل شروط التراكم المفترضة حتى الآن، وهي أفضل الشروط بالنسبة إليهم، تتخذ شكلا يسير الاحتمال، أو بتعبير إيدن تبعية “هينة ومتسامحة” (bequeme und liberale). فبنمو رأس المال لا تزداد علاقة التبعية من حيث الشدة بل تزداد من حيث السعة فقط، نعني أن مجال الاستغلال والهيمنة أمام رأس المال لا يتسع إلا بنمو أبعاده هو وعدد رعاياه. وتعود إلى هؤلاء حصة تزداد باستمرار من منتوجهم الفائض، الذي ينمو ويتحول بأبعاد أكبر، إلى رأسمال إضافي، بهيئة وسيلة دفع، بحيث يستطيعون توسيع دائرة حاجاتهم، وتحسين رصيدهم الاستهلاكي، من الكساء والأثاث، وما إلى ذلك، بل وادّخار رصيد احتياطي غير كبير من النقد. ولكن مثلما أن اعطاء العبد ملبساً أفضل وغذاء أوفر، ومعاملة أحسن، ووديعة، (Peculium)(**) كبيرة إلى هذا الحد أو ذاك، لا يزيح علاقة التبعية والاستغلال عن كاهله، فإن ذلك لا يقضي على علاقات التبعية والاستغلال بالنسبة إلى العامل المأجور. والواقع أن ارتفاع سعر العمل، نتيجة تراكم رأس المال، لا يعني سوى أن طول ووزن أغلاله الذهبية التي صنعها بنفسه، يسمحان بإرخاء شدتها. غالبا ما تغفل القضية الرئيسية في المجادلات الناشبة حول هذا الموضوع، نعني الخاصية المميزة (differentia specifica) للإنتاج الرأسمالي. فقوة العمل باع في ظله، لا بهدف إشباع الحاجات الشخصية للشاري بما تقدمه من خدمة أو منتوجات. فغاية الشاري هي إنماء قيمة رأسماله، هي إنتاج سلع تحوي عملاً أكثر مما دفع لقاءه، وتحوي بالتالي شطراً من القيمة لا يكلفه أي شيء، ويتحقق، مع ذلك، عند بيع السلعة. إن إنتاج فائض القيمة أو كسب المغانم هو القانون المطلق لهذا النمط من الإنتاج. ولا تكون قوة العمل صالحة للبيع إلا بمقدار ما تديم وسائل الإنتاج بهيئة رأسمال، وتعيد إنتاج قيمتها كرأسمال، وتثمر عملا غير مدفوع الأجر يكون منبعا لرأسمال إضافي(7). لذا تفترض شروط بيع قوة العمل، سواء كانت حسنة أم سيئة للعامل، ضرورة تكرار بيعها بشكل دائم، وتوسيع تجديد إنتاج الثروة في هيئة رأسمال باستمرار. وتقتضي الأجور، دوما، بطبيعتها بالذات، وهو ما رأيناه من قبل، أداء العامل كمية معينة من العمل غير مدفوع الأجر. وبصرف النظر عن حالة ارتفاع الأجور مقابل هبوط سعر العمل، إلخ، فإن زيادة الأجور تعني في أحسن الأحوال حصول انخفاض في كمية العمل غير مدفوع الأجر الذي يترتب على العامل أن يؤديه. ولا يمكن لهذا الانخفاض، قط، أن يبلغ نقطة يهدد عندها بقاء النظام نفسه. وإذا وضعنا جانبا النزاعات التي تحل بالعنف بصدد مستوى الأجور (وقد بين آدم سميث أصلا، أن رب العمل، في هذه النزاعات، يظل هو رب العمل أبدا)، فإن ارتفاع سعر العمل نتيجة تراكم رأس المال يتضمن الخيار التالي.

إما أن يواصل سعر العمل ارتفاعه، لأن ذلك لا يعرقل نمو التراكم، وليس في الأمر من عجب، لأنه، كما يقول آدم سميث:

“حتى بعد أن تتضاءل الأرباح، فإن رؤوس الأموال لا تواصل النمو وحسب، بل تنمو بوتيرة أسرع بكثير من السابق … إن رأسمالا كبيراً ينمو عموما، وإن كانت أرباحه صغيرة، بصورة أسرع من نمو رأسمال صغير يحقق أرباحا كبيرة” (المرجع نفسه، ص 189). يتضح في هذه الحالة أن تناقص العمل غير مدفوع الأجر لا يعيق البتة اتساع دائرة سيطرة رأس المال. وإما، وهذا هو الجانب الآخر للخيار، يتباطأ التراكم نتيجة ارتفاع سعر العمل، بسبب ضعف حافز الربح. وإن التراكم يتضاءل، ولكن باستمرار هذا التضاؤل يزول السبب الأول للتضاؤل، ونعني به عدم التناسب بين رأس المال وقوة العمل القابلة للاستغلال. وبالتالي فإن آلية عملية الإنتاج الرأسمالية تزيح تلك العقبات التي تخلقها هي نفسها مؤقتا. فيهبط سعر العمل ثانية إلى مستوى يتطابق مع حاجات الإنماء الذاتي لقيمة رأس المال، سواء جاء هذا المستوى دون، أو عند، أو فوق المستوى الذي كان يعتبر طبيعياً قبل ارتفاع الأجور. وهكذا نرى ما يلي: في الحالة الأولى، أن انخفاض الزيادة المطلقة أو النسبية في قوة العمل أو السكان العاملين، ليس هو الذي يجعل رأس المال فائضاً، بل بالعكس فإن نمو رأس المال هو الذي يجعل قوة العمل القابلة للاستغلال غير كافية. وفي الحالة الثانية، أن تنامي الزيادة المطلقة أو النسبية لقوة العمل، أو السكان العاملين، ليس هو الذي يجعل رأس المال غير كافي، بل بالعكس، فتناقص رأس المال هو الذي يجعل قوة العمل القابلة للاستغلال فائضة أو، بالأحرى، يجعل سعرها مفرطاً. إن حركة التغيرات المطلقة هذه في تراكم رأس المال تنعكس في حركة التغيرات النسبية لكتلة قوة العمل القابلة للاستغلال، لذلك تبدو وكأنها ناجمة عن التغير الخاص لهذه الأخيرة. وللتعبير عن ذلك بلغة الرياضيات نقول: إن مقدار التراكم مقدار متغير مستقل، وإن مقدار الأجور مقدار تابع له، وليس العكس. وهكذا نجد، حين تدخل الدورة الصناعية في طور الأزمة، أن الهبوط العام في أسعار السلع يجد تعبيره في ارتفاع قيمة النقد النسبية، وحين تدخل الدورة في طور الازدهار، فإن الارتفاع العام في أسعار السلع يظهر بهيئة هبوط في قيمة النقد النسبية. ويستخلص أصحاب ما يسمى مدرسة وسيلة التداول (جريان أو تداول العملة Currency School) من هذه الواقعة أن ارتفاع الأسعار يعني وجود كثرة من النقود قيد التداول، وأن انخفاضها يعني وجود قلة منها قيد التداول(***). إن جهل هؤلاء وسوء فهمهم تماما للوقائع (8) يضاهي جهل أولئك الاقتصاديين الذين يفسرون ظاهرات التراكم المذكورة أعلاه بإرجاعها تارة إلى قلة عدد العمال المأجورين، وتارة أخرى إلى كثرة عددهم.

إن قانون الإنتاج الرأسمالي، الذي يكمن في لب “قانون السكان الطبيعي” المزعوم، ينحصر، ببساطة، في التالي: إن العلاقة بين رأس المال والتراكم ومعدل الأجور ليست سوى العلاقة بين العمل غير مدفوع الأجر الذي حول إلى رأسمال، والعمل الإضافي الضروري لتحريك رأس المال الإضافي. وهذه ليست بأي حال من الأحوال علاقة بين مقداران مستقلين عن بعضهما بعضا، بين مقدار رأس المال من جهة، وعدد السكان العاملين من جهة أخرى؛ بل هي بالأحرى، في آخر المطاف، علاقة بين العمل غير مدفوع الأجر لهؤلاء السكان العاملين وبين عملهم مدفوع الأجر. فإذا كانت كمية العمل غير مدفوع الأجر الذي تؤديه الطبقة العاملة، وتراكمه الطبقة الرأسمالية، يتزايد بسرعة كبيرة بحيث أن تحويلها إلى رأسمال يتطلب زيادة استثنائية في العمل الإضافي مدفوع الأجر، فإن الأجور ترتفع عند ذاك، ويطرأ هبوط نسبي على العمل غير مدفوع الأجر، إذا ما بقيت الظروف الأخرى ثابتة. ولكن ما إن يبلغ هذا الهبوط نقطة لا يعود فيها العمل الفائض الذي يغذي رأس المال متوافرة بكمية عادية، ينشأ رد فعل معين هو: انخفاض ذلك القسم من الإيراد الذي يتحول إلى رأسمال، وتباطؤ التراكم، فتحل محل حركة صعود الأجور حركة عكسية. وعلى ذلك فإن صعود سعر العمل يبقى محصوراً في حدود معينة لا تمس أسس النظام الرأسمالي من ناحية، وتضمن تجديد إنتاجه الموسّع، من ناحية أخرى. وإن قانون التراكم الرأسمالي الذي مسخه الاقتصاديون إلى قانون طبيعي موهوم، لا يعبر في واقع الأمر سوى عن أن طبيعة التراكم، لا تسمح بأي تناقص في درجة استغلال العمل، أو بأي ارتفاع في سعر العمل من شأنهما أن يعرضا لخطر جدي استمرار عملية تجديد إنتاج العلاقة الرأسمالية، بل تجديد إنتاج هذه العلاقة على نطاق متسع أبدا. ولا يمكن للأمر أن يكون على خلاف ذلك في ظل نمط إنتاج يعيش فيه العامل لأجل تلبية حاجات النمو الذاتي للقيم الموجودة، بدلا من أن تعمل الثروة الشيئية على تلبية حاجات تطور العامل. ومثلما أن الإنسان في عالم الأديان، يخضع لسيطرة مبتكرات عقله هو، كذلك في الإنتاج الرأسمالي، يخضع لسيطرة ما تصنعه يداه بالذات (9).

______________

(1) کارل مارکس، [العمل المأجور ورأس المال، نیو راینیشه تسايتونغ، 7 نيسان/ إبريل، 1849. ن. برلين]. عند بقاء مستوى اضطهاد الجماهير على حاله، يكون البلد أكثر ثراء كلما كثرت البروليتاريا فيها. (کولنز، الاقتصاد السياسي، مصدر الثورات وما يسمى بالطوباويات الاشتراكية) إن “البروليتاري” من الناحية الاقتصادية، ليس سوى العامل المأجور، الذي ينتج رأس المال وينميه، ويلقي به “المسيو رأس المال” كما يسميه بيكور، على قارعة الطريق ما إن يغدو فائضاً عن حاجة نمو قيمة هذا السيد رأس المال. أما البروليتاري المريض في الغابة البدائية، فهو نتاج خيال روشر اللطيف. فساكن الغابة البدائي هو مالك الغابة البدائية، وهو يتصرّف بها تصرفاً حرّاً شأن القردة الشبيهة بالإنسان. فهو إذا ليس بروليتارياً. ولن يكون كذلك إلا إذا استغلته الغابة البدائية، عوضا عن أن يستغلها بنفسه. أما بالنسبة إلى وضعه الصحي، فإن البدائي سيصمد تماما عند المقارنة، لا مع البروليتاري المعاصر فحسب، بل وأيضا مع الأعيان، المصابين بالسفلس وداء الخنازير. ولا ريب في أن السيد فيلهلم روشر يقصد بـ “الغابة البدائية” مروج لونيبورغ مسقط رأسه.
(*) تشير كلمة “إيكر” هنا إلى وحدة قياس تعادل 4047 مترا مربعا. [ن. برلین].
(2) المرجع نفسه، ص2.
(3) برنارد دي ماندفيل، حكاية النحل، الطبعة الخامسة، لندن، 1728، ملاحظات ص212-213 – 328-الحواشي.
(B. de Mandeville, The Fable of the Bees, 5th Ed, London, 1728, Remarks, p.212-213)
(Notes ,328. إن عيشا معتدلا، وعملاً مستمرة، هو الطريق التي تقود الفقراء إلى سعادة مادية)
(لعله يقصد بذلك، في الأرجح، أطول أيام العمل وأقل ما يمكن من وسائل العيش) وإلى ثراء الدولة، (يقصد ثراء الملاك العقاريين، والرأسماليين، وممثليهم السياسيين أصحاب المقامات الرفيعة، وعملائهم). بحث في الصناعة والتجارة، 1770. ,An essay on trade and commerce).
(4) كان على إيدن أن يتساءل: “من خلق هذه المؤسسات المدنية”؟ فمن وجهة نظره، وجهة نظر الأوهام الحقوقية، لا يعد القانون ثمرة لعلاقات الإنتاج المادية، بل يعتبر، على العكس، علاقات الإنتاج ثمرة للقانون. لقد قضى لينغيه بكلمة واحدة على وهم مونتيسيکيو في “روح الشرائع” (Esprit des lois) إذ قال “الملكية هي روح الشرائع”.
(L ‘ esprit des lois, c ‘ est la propriété).
(5) إيدن، Eden، المرجع المذكور، المجلد الأول، الجزء الأول الفصل الأول، ص 1-2 والمقدمة، ص XX.
(6) إذا تذكر القارئ مالتوس، الذي نشر مؤلفه “بحث في السكان” (Essay on Population) عام 1798، فإنني أذكره بأن هذا المؤلف، في صيغته الأولى، لم يكن أكثر من انتحال صبياني، سطحي، کهنوتي، لآراء ديفر والسير جيمس ستیوارت، وتاونزند، وفرانکلین، ووالاس، وغيرهم، ولا يحتوي على جملة واحدة من بنات أفكاره. إن الضجة الكبيرة التي أثارها هذا الكتيب، ترجع إلى مصالح حزبية لا غير، فقد كان للثورة الفرنسية أنصار متحمسون في المملكة البريطانية، وكان مبدأ السكان الذي صيغ شيئا فشيئا في القرن الثامن عشر، ثم أعلن عنه، وسط أزمة اجتماعية كبرى، بقرع الطبول ونفخ الأبواق، باعتباره الترياق الشافي من تعاليم كوندورسيه، إلخ، وقد حظي بترحاب وتهليل الأوليغارشية الإنكليزية بوصفه المدمر الأعظم لكل توق إلى التطور الإنساني اللاحق. أما مالتوس، الذي أخذته الدهشة بهذا النجاح، فقد راح يحشو كتابه بمواد کدست بصورة سطحية ويضيف إليه مواد لم يكن له فضل اكتشافها بل إلحاقها. ولنلاحظ أيضا: رغم أن مالتوس كان كاهناً في الكنيسة العليا الإنكليزية، فقد نذر نفسه للعزوبية – وهذا أحد شروط العضوية، (fellowship) في جامعة كمبريدج البروتستانية: “نحن لا نسمح للأعضاء في الكليات بالزواج، وكل من يتخذ لنفسه زوجة، يكف عن أن يكون عضوا”، تقارير لجنة جامعة كمبريدج، ص 172. هذا ما يمتاز به مالتوس عن غيره من القساوسة البروتستانت الذين خلعوا رداء العزوبية الكاثوليكي المفروض على الكاهن، واتخذوا من وصية “تناسلوا وتكاثروا” رسالتهم المستمدة من التوراة إلى حد أنهم أسهموا عموما، في زيادة السكان بدرجة غير معقولة حقا، بينما كانوا يعظون العمال بـ “مبدأ السكان” في الوقت نفسه. ومما له دلالته أن السادة قساوسة اللاهوت البروتستانتي، أو بالأحرى، الكنيسة البروتستانتية، هم من احتكر ويحتكر هذه القضية الحساسة، قضية الخطيئة الاقتصادية للإنسان، تفاحة آدم، “الشهوة الملحة” (urgent appetite) أو “الكوابح التي تثلم سهام كيوبيد” (the checks which tend to blunt the shafts of Cupid) حسب تعبير مازح للكاهن تاونزند. وباستثناء الراهب أورتيس، من مدينة البندقية، وهو كاتب أصيل ذكي، فإن أغلب معلمي مبدا السكان، هم قساوسة بروتستانت. ونذكر، على سبيل المثال، بروکنر ومؤلفه: نظرية النظام الحيواني (Bruckner, Théorie du Systeme animal)، الذي يعالج معالجة شاملة كامل موضوع نظرية السكان الحديثة، والذي جاءت الخصومة العابرة في هذا الموضوع بين كينيه وتلميذه، میرابو الأب، لتضيف أفكارا جديدة إلى المؤلف المذكور. بعدها جاء الكاهن والاس، ثم الكاهن تاونزند، وأخيرا الكاهن مالتوس، وتلميذه الكاهن المتعصب توماس تشالمرز، هذا من دون أن نذكر کوینبي الكهنة الأقل جدارة في هذا الباب (in this line). في البدء كان الاقتصاد السياسي موضع دراسة الفلاسفة أمثال هوبز ولوك وهیوم، ورجال أعمال ودولة أمثال توماس مور، تمبل، سولي، دي ويت، نورث، لو، فاندرلنت، کانتیلون، فرانکلین، كما درس جانبه النظري بنجاح أكبر على يد دكاترة في الطب أمثال بيتي، باربون، ماندنیل، کینیه. وحتى في منتصف القرن الثامن عشر التمس القس السيد تاكر، وهو اقتصادي بارز في زمانه، التمس العذر لتدخله في أمور شيطان المال. ولكن فيما بعد، مع ظهور مبدأ السكان، هذا، دقت ساعة القساوسة البروتستانت. إن بيتي، الذي كان يعتبر السكان ركيزة الثروة، وكان، شأنه شأن آدم سميث، خصماً لدوداً للكهنة، يقول عنهم، كما لو كان قلبه ينبئه بتدخل هؤلاء السحرة: يزدهر الدين خير ازدهار حيثما يتمرغ الكهنة في حرمان أكثر، تماما مثلما أن القانون يزدهر خير ازدهار حيثما يموت المحامون جوعا. ثم يوجه النصح إلى القساوسة البروتستانت قائلا: إنهم إذا كانوا لا يبتغون، البتة، إطاعة الرسول بولس في إماتة أجسادهم، بالعزوبية، فعليهم ألا يفرخوا من الكهنة أكثره (not to breed more Churchmen) مما تحمله الكنيسة من مراتب (benefices) موزعة الآن، أعني أنه إذا كانت الكنيسة في إنكلترا وويلز تستوعب 12 الف قس افليس من الحكمة تفريخ 24 ألف قس (it will not be safe to breed 24 , 000 ministres) وذلك لأن الاثني عشر ألفاً الذين لا يمتلكون مصدر رزق، سيفتشون عن سبل لكسب العيش، ولن يجدوا سبيلا إلى ذلك أفضل من اقناع الناس بأن الإثني عشر الفة الذين يحتلون المناصب الكنسية يسممون ارواح الناس ويجوعونها، ويقودونها في متاهات الضلال بعيدا عن الفردوس». (بيتي، أطروحة في الضرائب والرسوم، لندن، 1667، ص 57).
(Petty, A Treatise on Taxes and Contributions, London, 1667, p. 57).
أما موقف آدم سميث من القساوسة البروتستانت في زمانه، فيتضح في مؤلفه رسالة إلى أ. سميث، حيث نجد أن الدكتور هورن أسقف نورويتش يوبخ آدم سميث لأنه عمد، في رسالة منشورة وجهها للسيد ستراهن، إلى تطييب ذكرى صديقه ديفيد، (يقصد هيوم)، ولأنه نشر على الملأ كيف أن هيوم كان يسلي نفسه على فراش الموت بقراءة لوسيان، ولعبة الورق دویست، ولأنه بلغ من الوقاحة مبلغا جعله يكتب عن هیوم قائلا “لقد كنت أعتبره، على الدوام، سواء في حياته أم بعد مماته، النموذج الأقرب إلى الإنسان المكتمل حكمة وفضيلة، بقدر ما يسمح ضعف الطبيعة البشرية”. هنا يزعق الاسقف حانقاً: “أيليق بك، يا سيدي، أن تضع أمام أبصارنا كنموذج لاكتمال الحكمة والفضيلة، اخلاق وسلوك إنسان مأخوذ بكراهية لا شفاء منها تجاه كل ما يحمل اسم الدين، إنسان أفنى أعصابه لتسفيه وطمس واقتلاع روح الدين من بين الناس، إنسان كان بوده، لو استطاع أن يمحو ذكر اسم الدين إلى الأبد؟ (المرجع نفسه، ص 8). ولكن لا تبتئسوا يا من تحبون الحقيقة. فالإلحاد لن يدوم طويلا، (المرجع نفسه، ص 17). لقد كان آدم سميث «أثيماً فاسداً» (the atrocious wickedness) نشر الإلحاد في الأرض (بواسطة «نظرية المشاعر الأخلاقية Theory of moral sentiments» التي وضعها). …. إننا نعرف أحابيلك، أيها السيد الدكتور فإن مقصدك حسن ولكنني أرى أنك لن تحقق مرادك هذه المرة. إنك تروم اقناعنا، بمثال ديفيد هيوم المبجل، بأن الإلحاد هو المنعش، (cordial) الوحيد للنفس الكسيرة والترياق الشافي من رهبة الموت… بوسعك أن تضحك على أنقاض بابل، وأن تهنئ فرعون المتجبر على غرقه في البحر الأحمر!» (المرجع نفسه، ص 21-22). وهناك شخص آخر قويم الإيمان، من زملاء آدم سميث في الكلية، يكتب عنه بعد وفاته قائلا: إن حب سميث العميق لهيوم… منعه من أن يكون مسيحياً … فقد كان يصدق كل ما يقوله هيوم. ولو قال هیوم له إن القمر هو جبن أخضر لصدقه. ولذلك فقد صدقه أيضا بانه لا وجود للرب والمعجزات… لقد اقترب من النزعة الجمهورية من ناحية المبادئ السياسية». (النحلة، تأليف جيمس أندرسون، 18 مجلد، إدنبره،1793 – 1791، المجلد III، ص 165-166).
(The Bee, By James Anderson, 18 Vols, Edinburgh, 1791-1793, Vol. III, p. 165-166).
وكان الكاهن توماس تشالمرز يرتاب في أن آدم سميث اخترع مقولة “العمال غير المنتجين” بدافع الضغينة وحسب، خصيصا لأجل الكهنة البروتستانت، بالرغم من عملهم المبارك في كَرم الرب.
(**) الوديعة: قسم من الممتلكات التي كان رب الأسرة في روما يقدمها لابنه أو لعبده على سبيل الاستثمار والإدارة، على أن يبقى السيد المالك الحقوقي، ويبقى العبد مسترقّاً. [ن. برلین].
(7) حاشية للطبعة الثانية: “لكن الحد الذي يقرر تشغيل كل من العامل الصناعي والعامل الزراعي واحد على أية حال، وهو بالضبط قدرة رب العمل على تحقيق ربح من منتوج عملهما. فإذا ارتفع مستوى الأجور بحيث يخفض مكاسب رب العمل دون متوسط الربح، فإنه سيكف عن استخدامهما، أو إنه لن يستخدمهما إلا بشرط قبولهما باجور منخفضة، (جون واید John Wade، المرجع المذكور، ص 240).
(***) ورد في الطبعتين الثالثة والرابعة: ارتفاع الأسعار يعني وجود “قلة”، وانخفاضها يعني وجود “كثرة” من النقد المتداول. [ن. برلین].
(8) راجع کارل مارکس، مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، ص 165 وما يليها.
(9) “إذا عدنا الآن إلى بحثنا الأول، الذي بين… أن رأس المال ذاته ليس إلا منتوج العمل البشري… فسيبدو عصياً على الإدراك تماما أن يقع الإنسان تحت سيطرة رأس المال، الذي هو نتاج يديه، وأن يكون تابعاً له؛ ولما كان الواقع الفعلي هو على هذا النحو بالذات، فثمة سؤال يبرز لا محالة: كيف تحول العامل من سيد لرأس المال – الذي خلفه بيديه – إلى عبد له؟”. فون (فونن، الدولة المعزولة، روستوك، 1863، ص 5-6).
(Von Thünen, Der isolirte Staat, Theil II. Abtheilung II. Rostock, 1863, S. 5-6).
إن من حسنات فونن أنه طرح هذا السؤال. أما جوابه فهو طفولي بكل بساطة.