عمّ نجيب … لقاءٌ أولُ .. لقاءٌ أخير


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6762 - 2020 / 12 / 16 - 09:22
المحور: الادب والفن     

المكان: ڤيلا الدكتور يحيى الرخاوي بحي المقطم. الزمان: خريف 2003. هذا الشيخُ الجليل الذي لا يكاد يُبصر، ومازالت قواه خائرة بعدمت اخترقتْ عنقَه قبل ثماني سنوات، طعنةٌ جهول من خنجر جهول في يد أُميٍّ جهول. رحتُ أتأمله جالسًا في هدوء بين حرافيشه ومُريديه مُطرقًا برأسه متوكئًا على عصاه بيسراه. أصابعُ يمناه، الراقدةُ على ركبته، كانت كأنما تجمّدت على وضع ثابتٍ لا يتغير. قلتُ للجالس إلى جواري: "انظر! كأن أصابعَه تقبضُ على قلم!”. والقلم غير موجود! أصابعُه تقبض على فراغِ قلمٍ ليس هناك. كأنما لا يريد أن يتركَ رفيقَ عمره حتى بعدما ذهب البصرُ وخارت قوى القبض على القلم. هذا كاتبٌ كبير حقًّا. ليلتَها كتبتُ قصيدة "الطريق" التي نُشرت في ديواني الرابع: “فوق كفّ امرأة" 2004 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ ويقول مطلعُها: “لن أصفحَ/ برغم أصابعِك التي تجمّدتْ على قبضةِ القلمْ/ عند سفح المقطم.” كان ذلك أحد لقاءاتي به. أما لقائي الأخيرُ فكان في ربيع 2006، قبل رحيله بشهور. المكان: فندق شبرد الذي يُطلُّ على نيل مصر. قاعةٌ ضوءُها خافتٌ ليترفّقَ بشبكية رجل جاوز التسعين، بينما نصاعةُ عقله تعيشُ خارج الزمن. تحدث معنا بمحبة كعادته مع حواريّيه. أخذني الإنصاتُ والتأملُ، وفجأةً تذكّرتُ شيئًا! معقول على كل ما أقتني من روايات لنجيب محفوظ، لم أحظَ بعدُ بتوقيع منه على أيّ منها؟!
نهضتُ من مقعدي وخرجت مُسرعةً من القاعة وسط دهشة الجميع، وركضتُ على سُلم بهو الفندق نزولا، ثم خروجًا من شبرد ودخولا لفندق سميراميس المواجه. ارتقيتُ الدَّرجَ للطابق الأول حيث المكتبة التي تضمُّ أعمال الكاتب الكبير. لم أتحيّر أمام الاختيارات، وامتدت أصابعي رأسًا إلى "الطريق". الرواية الأقرب إلى قلبي. حيث "البحث عن هوية"، "البحث عن حُلم”. فالبحثُ في ذاته هدفٌ، وليس الوصول إلى الضالّة. جميعُنا ينتظرُ شيئًا ما ونحلمُ. ولو تحققت جميعُ أحلامِنا اختفى سببُ وجودنا. عدتُ إلى صالون الأستاذ ركضًا وكان الأستاذُ ينتظرُ بقلمه كي يوقّع باسمه على الرواية وعلى "الطريق”: نجيب محفوظ،.....…
بعد حادثة الخنجر، أصبح يكتبُ ببطء شديد وبحروفٍ كبيرة. بعدما كتب اسمَه في دقائقَ طوالٍ كأنها الدهرُ؛ حاولتُ سحبَ الرواية من بين يديه وأنا أشعر بالخجل لما سببته له من جهد وتعب. تمسّكَ الأستاذُ بالكتاب ليكتبَ التاريخ، ثم نظر في عيني قائلا: “أوعي توقّعي اسمك دون تاريخ!” وكان درسًا لم أخلفه أبدًا كلما وقّعت أحد كتبي لقارئ.
كتبَ تاريخ يومئذ، 2 أبريل 2006، واستغرقتْه كتابةُ التاريخ خمسَ دقائق أخرى مضافةً إلى الخمس الأولى التي كتب فيها اسمه بخط مرتعش. وصار ذلك التوقيعُ أثمنَ ما في مكتبتي. دسستُ كتابي/ الكنز في حقيبتي ثم أخذني الصمتُ الطويل. أستمعُ إليه، وأستمتعُ بخفة ظلّه وقفشاته السياسية وإلماحاته الذكية التي تشير إلى نصاعة وعي لم يستطع أن ينال منه تراكمُ العقود وغزارة العمل والطعنةُ الحمقاء. كان هذا لقائي الأخير به. ورحتُ أتذكّرُ لقاءنا الأول. يا إلهي! ثلاثون عامًا تفصلُ بين اللقائين!
لقائي الأول به كان في كازينو "قصر النيل". النيل أيضًا؟ ترى ما الرابط بين النيل ومحفوظ؟ كان عمري وقتها تسعَ سنوات.
"لن أصفحَ / برغم أصابعِكَ التي تجمّدتْ على قبضةِ القلمِ عند سفح المقطم./لأن تعثري/في سنواتي التسعِ/ بين مقاعدِ مقهىً مقصوصٍ من العاصمة و بين أميالِك التسعة من النهرِ إلى البحر/ أفلتَ التاجَ من الوجوديين/ ليستقرَّ في يدِ صبيتيْنِ/ تحملانِ لقبَ العائلة."
صحبتنا أمي لتناول الكاساتا في كازينو قصر النيل. وكان الأستاذُ بين حرافيشه. أشارت أمي قائلة: “اللي قاعد هناك ده هو نجيب محفوظ، الكاتب الكبير.". رحتُ أشِبُّ على أطراف أصابعي لكي أتأمل وجهه بوضوح وشاهدتُ "الزبيبة" الكبيرة جوار أنفه. راح عقلي الصغيرُ يحاول الربطَ بين الزبيبة الكبيرة وكونه كاتبًا كبيرًا. كان هذا في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، قبل عقد من حصوله على نوبل. رحتُ أدفسُ وجهي في كأس الكاساتا بالفراولة والڤانيللا، وأشبُّ بين الحين والآخر على قدمي الصغيرتين كي أحدّق في الكاتب الكبير. هل يختبئ الإبداعُ الكبيرُ داخل تلك الزبيبة الكبيرة؟ في المساء، رحتُ أفحصُ وجهي في مرآة غرفتي، فلا أجد زبيبة. هذا يعني أنني أبدًا لن أكون كاتبة كبيرة!
قبل أيام، 11 ديسمبر، كان عيد ميلاد عمّ نجيب محفوظ. لروحه السلامُ ولقلمه الخلود. نَمْ ملءَ جفونك عن شواردها، أيها النجيبُ الجليل، وعِشْ ألفَ عام. “الدينُ لله، والوطنُ لمُبدعي الوطن.”
***