رأس المال: الفصل الثاني والعشرون (82) 5) ما يسمى برصيد العمل


كارل ماركس
الحوار المتمدن - العدد: 6760 - 2020 / 12 / 13 - 11:19
المحور: الارشيف الماركسي     


تحول فائض القيمة إلى رأسمال
5) ما يسمى برصيد العمل

أوضحنا في ثنايا هذا البحث أن رأس المال ليس مقداراً ثابتاً، بل هو جزء مرن من الثروة الاجتماعية، يتغير باستمرار مع كل تقسيم جديد لفائض القيمة إلى إيراد ورأسمال إضافي. كما أوضحنا أيضا، أن ما يحتويه رأس المال من قوة العمل، والعلم، والأرض (ونعني بها، اقتصادياً، كل مواضيع العمل التي تقدمها الطبيعة بصورة مستقلة عن الإنسان) يمحض رأس المال هذا، حتى لو كان مقدار ما هو عامل منه ثابتاً، يمحضه طاقات مرنة توسع، في حدود معينة، مجال عمله بمعزل عن مقداره بالذات. ولقد أغفلنا، في هذا البحث، ظروف عملية التداول جميعا، وهي الظروف التي تتيح للكتلة نفسها من رأس المال إمكانية العمل بصورة متفاوتة كل التفاوت. وبما أننا افترضنا سلفا أن هناك حدوداً يفرضها الإنتاج الرأسمالي، أي بما أننا افترضنا سلفا وجود شكل من عملية الإنتاج الاجتماعية تطور تطوراً عفوياً خالصاً، فقد أغفلنا أي تركيب أكثر عقلانية يتحقق على أساس وسائل الإنتاج المتيسرة في الوقت الحاضر بصورة مباشرة ومنهجية. ولقد كان الاقتصاد السياسي الكلاسيكي يميل دوماً إلى اعتبار رأس المال الاجتماعي بمثابة مقدار ثابت يتمتع بدرجة فعل ثابتة لا تتغير. ولقد تجمد هذا الرأي المسبق کدوغما، بفضل ابتذال جریمباس بنتام وحده، هذا المداح الحصيف والواعظ الذرب باسم الحس البورجوازي السليم في القرن التاسع عشر (1). ويحتل بنتام بين الفلاسفة المرتبة التي يحتلها مارتن تابر(*) بين الشعراء. وما كانا ليظهرا إلا في إنكلترا (2). وفي ضوء دوغما بنتام تبدو أبسط ظواهر عملية الإنتاج، كالتوسع والانكماش المفاجئين، لا بل حتى التراكم ذاته، أموراً عصية على الإدراك (3). ولقد استخدم بنتام نفسه هذه الدوغما، إلى جانب مالتوس وجيمس ميل وماکلوخ، وإضرابهم، لأغراض تبريرية، وبخاصة لتصوير ذلك الجزء من رأس المال، نعني تحديداً رأس المال المتغير، أي ذلك القسم من رأس المال الذي يتحول إلى قوة عمل، بوصفه مقداراً ثابتاً. ولقد لفقوا حكاية أن الوجود المادي لرأس المال المتغير، أي كتلة وسائل العيش التي يمثلها رأس المال هذا بالنسبة للعامل، نعني ما يسمى برصيد العمل، وكأنها جزء منفصل من الثروة الاجتماعية، تحدده قوانين طبيعية لا يمكن تجاوزها. فابتغاء تحريك ذلك الجزء من الثروة الاجتماعية الذي يجب عليه أن يعمل كرأسمال ثابت، أو، إذا أردنا التعبير عن ذلك بشكل مادي نقول لكي يعمل كوسائل إنتاج، تلزم كتلة معينة من العمل الحي. وهذه الكتلة يحددها تكنيك الإنتاج. ولكننا لا نعرف عدد العمال اللازمين لجعل هذه الكتلة من العمل سيالة، لأن هذا العدد يتغير بتغير درجة استغلال قوة العمل الفردية، كما لا نعرف سعر قوة العمل، باستثناء حدها الأدنى، الذي هو أيضا مطاط جداً. إن الوقائع التي ترتكز عليها هذه الدوغما هي ما يلي: لا يحق للعامل التدخل في تقسيم الثروة الاجتماعية إلى وسائل متعة للذين لا يعملون، وإلى وسائل إنتاج. هذا من جهة. ومن جهة أخرى لا يمتلك العامل القدرة على توسيع ما يسمى «برصيد العمل على حساب إيراد» الأثرياء، إلا في حالات استثنائية ملائمة (4).
وهناك مثال يوضح الحشو الكلامي الممجوج الذي ينجم عن مسعى تصوير القيود الرأسمالية التي تحد من رصيد العمل بوصفها قيودا تمليها طبيعة المجتمع عموماً، كما هو الحال عند البروفيسور فاوسیت. فهو يقول:

“إن رأس المال الدائر (5) في بلد ما هو رصيد الأجور، وإذا رغبنا في حساب متوسط الأجور النقدية التي يتلقاها كل عامل، فينبغي، ببساطة، أن نقسم مقدار رأس المال هذا على عدد السكان العاملين”(6). هذا يعني أننا نقوم أولا بجمع الأجور الفردية المدفوعة فعلا، لنزعم بعد ذلك أن حاصل الجمع هذا يؤلف مجموع قيمة رصيد العمل الذي حددته وأنعمت به علينا السماء والطبيعة. وأخيراً نقسم حاصل الجمع هذا على عدد رؤوس العمال لنحصل، من جديد، على متوسط ما يصيب العامل الواحد. فيا لها من براعة نادرة. إلا أنها لم تمنع السيد فارسيت من المضي إلى القول، من دون أن يلتقط أنفاسه:

“إن مجمل الثروة التي تراكمها إنكلترا سنويا، تنقسم إلى جزأين، الأول يستخدم في إنكلترا بالذات كرأسمال للحفاظ على صناعتنا، أما الثاني فيصدر إلى البلدان الأجنبية … ولا يوظف في صناعتنا الوطنية سوى جزء غير كبير، من الثروة المراكمة سنوية في هذا البلد”(7). وهكذا فإن الجزء الأعظم من المنتوج المتنامي سنوياً، المنتزع من العامل الإنكليزي دون معادل، يستخدم كرأسمال، لا في إنكلترا وإنما في بلدان أجنبية. ولكن إلى جانب تصدير رأس المال الإضافي على هذا النحو، يجري، بالطبع، تصدير جزء من “رصيد العمل” الذي ابتدعه الرب وبنتام (8).

_____________

(1) قارن من بين مراجع اخرى، كتاب ج. بنتام، نظرية العقاب والثواب، ترجمة أ. دومون، باریس.1826 (J. Bentham, Théorie des Peines et des Récompenses, trad. Et. Dumont, 3éme Éd, Paris, 1826, T. II, 1. IV, ch. 2).
(*) مارتن تابرM. Tupper (1889-1810) شاعر إنكليزي اشتهر بقصائد تعليمية وعظية في الأخلاق. [ن. ع].
(2) إن جریمیاس بنتام ظاهرة إنكليزية صرف. فلم يسبق لأحد مثله، حتى لفيلسوفنا کریستیان نولف، لا في أي زمان، ولا أي بلد، أن تبختر مختالا راضياً، بعرض أشد التفاهات ابتذالا. إن مبدأ المنفعة ليس من اكتشاف بنتام. فلقد استنسخ بأسلوبه البليد، ما قاله ملفينيوس ومفكرون فرنسيون آخرون بفطنة فكرية في القرن الثامن عشر. فلمعرفة ما ينفع الكلب، مثلا، ينبغي على المرء أن يدرس طبيعة الكلب أولا. ولكننا لا نستطيع استنباط هذه الطبيعة من “مبدأ المنفعة”. وعند تطبيق ذلك على الإنسان، فإن الذي يحاكم كل السلوك والتصرفات والعلاقات الإنسانية، إلخ، بموجب مبدأ المنفعة، عليه أولا أن يدرس الطبيعة الإنسانية بوجه عام، وتبدلات الطبيعة الإنسانية في كل حقبة تاريخية. أما بنتام فلا يكلف نفسه عناء السؤال والجواب. إنه يأخذ، بسذاجة وبلادة، المالك الصغير الجلف المعاصر (Spiessburger)، وبالذات المالك الصغير الجلف الإنكليزي، کنموذج للإنسان السوي العادي. وكل ما هو نافع لهذا النوع من الإنسان السوي ولعالمه، يكون، في ذاته ولذاته، نافعاً. وبهذه المسطرة يقيس بنتام الماضي والحاضر والمستقبل. فالدين المسيحي، مثلا، نافع، لأنه يحظر، باسم الدين، نفس الآثام التي يعاقب عليها قانون العقوبات حقوقياً. والنقد الأدبي “ضار” لأنه يعثر على الناس المحترمين صفو التمتع بمؤلفات مارتن تابر، إلخ. بمثل هذه النفايات ملأ صاحبنا الشجاع، جبالا من الكتب تحت شعار: “ولا يوم من دون لمسة فرشاة” (nulla dies sine linea)(م). ولو كان لي إقدام صديقي الشاعر، هاینریش هاینه، لسميت السيد جریمباس عبقري الغباوة البورجوازية.
(م) تنسب عبارة «لا يوم من دون لمسة فرشاة» إلى الفنان الاغريقي ابيلليز (Apelles) الذي يصر على ممارسة الرسم يوميا. [ن. برلین].
(3) «إن الاقتصاديين يميلون… لأن يعتبروا كمية معينة من رأس المال وعدداً معيناً من العمال بوصفهم أدوات إنتاج ذات قدرة ثابتة، أو ادوات تعمل بشدة معينة ثابتة… أما أولئك… الذين يرون … بأن السلع هي عناصر الإنتاج الوحيدة … يؤكدون أن الإنتاج لا يمكن أبدأ أن يتوسع لأن الشرط اللازم لتوسع كهذا هو أن يزداد الغذاء والمواد الأولية وأدوات العمل سلفاً، وهذا يعني في الواقع أنهم يرون أن زيادة الإنتاج لا يمكن أن تتحقق من دون حصول زيادة مسبقة فيه، أي، بتعبير آخر أن أية زيادة أمر مستحيل». (س. بایلي، النقد وتقلباته، ص 58 و70).
ينتقد بایلي هذه الدوغما من وجهة نظر عملية التداول بالدرجة الأساسية.
(4) يقول جون ستيوارت ميل في كتابه مبادئ الاقتصاد السياسي [الكتاب الثاني، الفصل 1، 318] ما يلي: إن أصناف العمل المضنية حقا والمنفرة حقاً، لا تتلقى أجوراً أفضل من غيرها، بل تتلقى، دوما، أسوأها … وكلما كانت المهنة مقززة، بات مؤكداً تماما أنها تتلقى أدنى تعویض…. وبدلا من أن تكون المصاعب والدخول في تناسب طردي، كما ينبغي أن تكون في تنظيم عادل للمجتمع، فإنهما في تناسب عكسي. وتفادياً لسوء الفهم، أود أن أشير إلى أنه على الرغم من أن أناسا من طراز جون ستيوارت میل هم الملومون على التناقض القائم بين عقائدهم الاقتصادية التقليدية الجامدة وبين نزعاتهم الحديثة، فإن من الخطأ أن نحشرهم مع زمرة الاقتصاديين المبتذلين، التبريريين.
(5) ينبغي أن أذكر القارئ بأنني أول من استخدم مقولتي دراس المال المتغير (variables) ورأس المال الثابت (Konstantes)». لقد دأب الاقتصاد السياسي، منذ عهد آدم سميث، على أن يخلط خلط عشواء بين التعريفين اللذين تتضمنهما هاتان المقولتان، وبين فوارق شكلي رأس المال الأساسي (fixenkapital) ورأس المال الدائر (zirkilierenden Kapital)، والناجمة عن عملية التداول. للمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة، راجع المجلد الثاني، الجزء الثاني. (6) م. فاوسیت، أستاذ الاقتصاد السياسي في كمبريدج، الوضع الاقتصادي للعامل البريطاني.
(H. Fawcett, Prof. of Polit. Econ, at Cambridge, The econonmic position of the British labourer, London, 1865, p. 120).
(7) فاوسیت، المرجع نفسه، ص 122 و123.
(8) يمكن القول إن ما يصدّر من إنكلترا سنوياً لا يقتصر على رأس المال وحده، بل يتعداه إلى تصدير العمال، بهيئة مهاجرين. والمسألة المشار إليها في النص لا تتعلق بوديعة Peculium أملاك المهاجرين، فالشطر الأعظم من هؤلاء ليسوا عمالا. بل إن أبناء المزارعين يؤلفون القسم الأكبر منهم. إن رأس المال الإضافي الإنكليزي المنقول إلى الخارج سنوياً لتوظيفه لقاء فائدة مئوية هو، بالقياس إلى التراكم السنوي، أكبر من الهجرة السنوية بالقياس إلى الزيادة السنوية في السكان.