واحد من المصريين


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6753 - 2020 / 12 / 6 - 12:35
المحور: حقوق الانسان     

المصريون طيبون. وسيبقون طيبين حتى تقوم الساعة. الخيرُ فِطريٌّ في طبيعتنا، والدِّعةُ تسكن جوانحنا، مهما تبدّلت علينا صروفُ الدهر، وتعاقبتْ نوازلُ القدر، يظلُّ معدنُنا نقيًّا؛ يقاوم الخبثَ ويطردُ الشوائبَ التي تعلقُ بنسيجنا الطيب، بين الحين والحين، حتى يعودَ صافيًا نقيًّا. لا تصدقوا ما ترونه أحيانًا على شاشات الفضائيات وصفحات التواصل الاجتماعي مما يفعله بعضُنا في بعضنا من ويل وسخافات. فأولئك ليسوا "بعضَنا"، بل هي آفاتٌ أصابت نبتتنا الصالحة وسكنت فيها بعض الوقت. لأن الآفاتِ لا تصيبُ إلا أطيبَ الثمر. تلك الآفات الدنسة هي الاستثناءُ الذي يؤكّد القاعدة الراسخة التي تقول: أننا طيبون. أمّا أولئك الوحوش الضارية التي تُكفِّر وتقتل وتتنمّر وتتحرّش وتسرق، فهم ليسوا وحسب غير مصريين، بالمعنى الاعتباري، لكنهم ليسوا بشرًا. البشرية تتبرأ منهم، كما تتبرأ منهم مصرُ.
دعوني أحكِ لكم قصة وصلتني، تؤكد إيماني بطيبة معدننا المصري. لا أدري مصدر القصة ولا راويها ولا المرويّ عنه وعنها. إنما رواها أحدُهم وتواترت نقلا، حتى وصلتني. فقررتُ أن أحكيها لكم لنتأمل ما بها من مغازٍ عميقة.
وعلّ أجملَ ما في تلك القصة أنها وصلتنا بلا أسماء. حتى تنسحب على كثيرين وكثيرين فعلوا ويفعلون ما فعله هذا الرجل، وربما أكثر، دون أن يلتقطها راوٍ ليرويها لنا. وسوف أنقل لكم الحكاية بالمحكية المصرية، كما وصلتني، حتى لا تفقد أصالتَها فتدخل قلوبكم.
يقول الراوي:
"النهارده كنت نازل مشوار في حيّ المهندسين، وعايز أركن السيارة، ملقتش مكان غير أمام فكهاني فاتح محل صغير. استأذنت منه أركن سيارتي قدامه. الراجل كان بشوش الوجه، ووافق بابتسامة، وقال لي: "الأرزاق على الله". خلصت مشواري ورجعت، فقلت بالمرة أشتري شوية فاكهة من الراجل الطيب ده. دخلت وسألته: “الفاكهة بكام النهارده؟" قال لي: “الفراولة الكيلو ب 10 جنيه، والموز ب 8 جنيه.” قلت له: “طيب أعطني 3 كيلو موز، و2 فراولة.” وأنا واقف دخلت سيدة. البائع ابتسم وقال لها: “إزيك يا أم يوسف. إيه الأخبار؟ أولادك عاملية ايه؟" قالت له: “الحمد لله. عايشين في نعمة بفضل الله.” وسألته: “بكام الفروالة عندك النهارده؟" قال لها: “ ب 3 جنيه، وليكي إنتي ال 2 كيلو ب 5 جنيه. والموز زيها.” طبعًا أنا انزعجت وقلت في نفسي البائع الغشاس، أكيد كده عاوز يحاسبني على ثمن ركن العربية قدام المحل بتاعه.
لاحظ البائع انزعاج ملامحي، فغمز لي بطرف عينه وأشار لي بيده علامة: “استنى.” الست أم يوسف أخدت كيلو فروالة، وكيلو موز، وأعطته 5 جنيه، ومشيت. وبعد ما مشيت قال لي البائع: “يا سيدي ماتستغربش. وأنا والله ما بغشك. دي ست معها أربع أولاد صغيرين. أكبرهم عنده 15 سنة. بيشتغل عامل في السوبر ماركت اللي قصادي ده. وبياخد 20 جنيه. وهي جوزها متوفي. وكان شغال عامل نظافة. معاشه مش بيكمل 800 جنيه. وطبعًا مطلوب منها تأكِّل عيالها وتعلّمهم وتدفع إيجار السكن وغيره، بالقرشين دول. والأهم أنها بترفض أي مساعدة من أي حد. ولو حاولت تديها فلوس؛ مبترضاش تاخدها أبدًا، وتقول لك أنا مبسوطة بنعمة ربنا ومش محتاجه الحمد لله. زي ما شفتها كده دايما فاكرة نعمة ربنا. فأنا، وغيري، لما بتيجي تشتري مني فاكهة، دايمًا باقول لها على أسعار بسيطة، علشان أبقا عملت خير وساعدتها أنها تِدوّق عيالها الفاكهة مرة في الأسبوع، أو مرة في الشهر، وفي نفس الوقت ماكسرش نِفسها لو حاولت أعطيها الفاكهة ببلاش، وأُشعرها أنها تتسول، أو حتى أعطيها بواقي الفاكهة الرديئة وأجرح كرامتها. وأقسم لك بالله يا أستاذ، اليوم إلى بتجيلي فيه أم أحمد، وتشتري مني بالرخيص، ربنا بيكرمني آخر كرم، وباكسب الضِّعف في اليوم ده. بيبقى يوم كله بركة. لأن هي دي التجارة مع الله، ومردودها أضعاف الأضعاف في الدنيا وفي الآخره. وجبر الخواطر على الله يا أستاذ.” وقفت أتأمل الفكهاني وعاوز آخده في حضني، وقلت له: “أنت أحسن من ناس كتير بتتكلم عن الفضيلة ليل نهار من غير ما تعملها. ربنا يكرمك.” طلبت من الفكهاني إني أصوره وأنشر صورته، لكنه رفض عشان الست متعرفش. وقال لي: “بس احكي الحكاية للناس يمكن غيري يعمل كده.”
الخيرُ باقٍ فيك يا مصر، ما بقيت الحياةُ وما بقيت مصرُ. "الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ أبناءَ الوطن”.
***