رأس المال: الفصل الثاني والعشرون (79) تحول فائض القيمة إلى رأسمال2


كارل ماركس
الحوار المتمدن - العدد: 6749 - 2020 / 12 / 1 - 11:22
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     



2) خطأ فهم الاقتصاد السياسي لتجديد الإنتاج على نطاق موسع
قبل أن نبدأ في بحث بعض التعريفات الأكثر دقة للتراكم، أو إعادة تحویل فائض القيمة إلى رأسمال، ينبغي أن نزيل الغموض الذي ابتدعه الاقتصاد السياسي الكلاسيكي.

إن السلع التي يشتريها الرأسمالي، بقسم من فائض القيمة، لأغراض الاستهلاك الشخصي، لا يمكن أن تخدمه کوسائل للإنتاج ولإنماء القيمة؛ كذلك شأن العمل الذي يشتريه لإشباع حاجاته الطبيعية والاجتماعية، فهو ليس عملا منتجاً. فهو يبدد أو ينفق فائض القيمة بوصفه إيراداً، على شراء تلك السلع وذلك العمل، بدلا من تحويل فائض القيمة هذا إلى رأسمال. وبالنسبة إلى نمط الحياة المألوف لطبقة النبلاء الاقطاعيين القديمة، الذي قال عنه هيغل بحق “إنه يتمثل في التهام ما هو موجوده”(*) والذي يتعاظم بالخدم والحشم على وجه الخصوص، كان من الأهمية بمكان للاقتصاد السياسي البورجوازي المناداة بمبدأ مراكمة رأس المال بوصفه الواجب الأول لكل مواطن، وأن يعظ، دون كلل، بأن المرء لا يستطيع أن يراكم إذا ما التهم كل إيراداته ولم ينفق جزءا كبيرة منها لاستخدام عمال منتجين إضافيين، يدرّون مکسباً أكبر من تكاليفهم. من جهة أخرى، كان على الاقتصاد السياسي أن يقارع الرأي المسبق الشائع الذي يخلط بين الإنتاج الرأسمالي والإكتناز (1)، ويتوهم أن الثروة المراكمة تعني الثروة المنقذة من خطر الفناء في شكلها العيني، أي المسحوبة من ميدان الاستهلاك، أو حتى من میدان التداول. أما في الواقع فإن سحب النقود من دائرة التداول يتناقض كليا مع إنماء قيمتها بوصفها رأسمالا، في حين أن مراكمة السلع على سبيل الاكتناز ليست إلا محض جنون(2). فتراكم كتل هائلة من السلع يأتي إما نتيجة لتوقف في التداول أو لفيض في الإنتاج (3). ومهما يكن الأمر فإن ما هو ماثل في أذهان الناس هو صورة تخزين السلع الذي يراكمه الأغنياء لأغراض الاستهلاك التدريجي من جهة، ومن جهة أخرى تكوين المخزونات الاحتياطية، وهذه الظاهرة الأخيرة سمة مشتركة لجميع أنماط الإنتاج، وسنتوقف عندها هنيهة حين نقوم بتحليل عملية التداول.

إذن، الاقتصاد السياسي الكلاسيكي محق تماما في هذه الحدود حين يؤكد أن السمة المميزة لعملية التراكم هي استهلاك المنتوج الفائض على أيدي عمال منتجين لا غير منتجين. ولكن خطاه يبدأ من هنا أيضا. لقد ابتدع آدم سميث موضة تصوير التراكم على أنه مجرد استهلاك العمال المنتجين للمنتوج الفائض؛ وهذا يضارع القول إن تحویل فائض القيمة إلى رأسمال لا يتطلب سوى تحويله إلى قوة عمل. دعونا نستمع إلى ما يقول ريكاردو، مثلا، في هذا الأمر:

“ينبغي أن نفهم أن كل منتوجات أي بلد تستهلك تماما، ولكن ثمة فارقاً هائلا لا يمكن تخيله بين أن يستهلك المنتوج أولئك الذين يقومون بتجديد إنتاج قيمة أخرى، أو من لا يقومون بتجديد إنتاج أي قيمة أخرى. وحين نقول إن الإيراد قد أدخر وأضيف إلى رأس المال، فإن ما نعنيه بذلك هو أن هذا الجزء من الإيراد الذي قلنا بأنه أضيف إلى رأس المال، إنما يستهلكه عمال منتجون لا غير منتجين. وليس ثمة خطا أكبر من الافتراض بأن رأس المال ينمو بفضل عدم الاستهلاك”(4).
الواقع، ليس ثمة خطا أكبر من هذا الذي كرره ريكاردو والآخرون بعد آدم سميث، وهو أن “ذلك الجزء من الإيراد الذي قلنا بأنه أضيف إلى رأس المال، إنما يستهلكه عمال منتجون”. . فحسب هذا التصور، ينبغي لفائض القيمة الذي تحول إلى رأسمال، أن يصبح بأكمله رأسمالا متغيراً. أما في الواقع فإن فائض القيمة، شأنه شأن القيمة الأصلية المسلفة، ينبغي أن ينقسم إلى رأسمال ثابت ورأسمال متغير، أي إلى وسائل إنتاج وقوة عمل. وقوة العمل هي الشكل الذي يظهر به رأس المال المتغير خلال عملية الإنتاج. وفي هذه العملية يستهلك الرأسمالي قوة العمل ذاتها، أما قوة العمل فتستهلك وسائل الإنتاج أثناء أدائها لوظيفتها، وهي العمل. والنقود المدفوعة لشراء قوة العمل تتحول، في الوقت نفسه، إلى وسائل عيش يستهلكها “العامل المنتج” لا “العمل المنتج”. إلا أن آدم سميث يصل، بتحليل خاطئ جوهرياً، إلى استنتاج أخرق يقول إنه على الرغم من انقسام كل رأسمال فردي إلى جزء مكون ثابت وآخر متغير، فإن رأس المال الاجتماعي يتألف من رأسمال متغير فقط، أي أنه ينفق، حصراً، على دفع الأجور. لنفرض، مثلا، أن أحد صناعيي المنسوجات الصوفية يحول مبلغاً قدره 2000 جنيه إلى رأسمال. إنه ينفق جزءا من المبلغ في شراء نساجين، وينفق الجزء الآخر في شراء غزول صوفية وآلات، وغير ذلك. إلا أن الأشخاص الذين يبتاع منهم الغزول والآلات، يدفعون هم بدورهم إلى عمالهم جزءاً من هذه النقود، وهكذا دواليك حتى تنفق الألفا جنيه كلها في دفع الأجور، أي حتى يكون المنتوج الذي تمثله الألفا جنيه قد استهلك برمته على يد عمال منتجين. ومن الجلي أن زبدة هذه الحجة كلها تكمن في عبارة «وهكذا دواليك»، التي تقذفنا من ولي إلى شفيع(**). الواقع أن آدم سميث يقطع بحثه عند هذا الموضع بالذات، حيث تبدأ الصعوبات (5).

تبدو عملية تجديد الإنتاج السنوية يسيرة على الفهم إذا أبقينا أنظارنا شاخصة إلى رصيد الإنتاج السنوي الإجمالي ولا شيء سواه. لكن كل جزء من مكونات هذا المنتوج السنوي ينبغي جلبه إلى سوق السلع، وهنا تبدأ المصاعب. فحركات رؤوس الأموال المفردة والإيرادات الشخصية، تتداخل وتتشابك، فتضيع في غمرة التنقلات العامة من مكان لآخر، أي في غمرة تداول الثروة الاجتماعية، مما يعشي البصر عن رؤية المشهد، ويطرح أمام الباحث قضايا بالغة التعقيد. ولسوف أقوم بتحليل الصلات الفعلية في الجزء الثالث من الكتاب الثاني. ومن منجزات الفيزيوقراطيين الكبيرة أنهم كانوا أول من سعى إلى تصوير المنتوج السنوي على النحو الذي يبدو به بعد اجتيازه قنوات عملية التداول، وذلك في الجدول الاقتصادي (***) (Tableau économique) الذي وضعوه(6).

وما عدا ذلك، فمن البديهي أن الاقتصاد السياسي لم يألُ جهدا في أن يستثمر لمصالح الطبقة الرأسمالية موضوعة آدم سميث القائلة بأن كل ذلك الجزء من المنتوج الصافي، الذي يتحول إلى رأسمال، إنما تستهلكه الطبقة العاملة.

_________________

(*) هيغل، فلسفة الحق، برلین، 1840، الفقرة رقم 203. [ن. برلین].
(1) “لا يمكن لأي اقتصادي سياسي في يومنا هذا أن يستخدم تعبير الادخار بمعنى اكتناز وحسب؛ ولكن خارج هذا الإطار الضيق وغير الكافي، لا يمكن أن نتصور استخدام هذا التعبير بالنسبة للثروة الوطنية إلا ذلك الذي ينشأ عن تباین استعمال ما هو مدر، استنادا إلى تمایز فعلي بين مختلف أنواع العمل الذي تعيله هذه المدخرات”. (مالتوس، [مبادئ الاقتصاد السياسي]، ص 38-39)
(2) هكذا نجد أن بلزاك، الذي درس جميع ألوان البخل، دراسة عميقة، بصور المرابي العجوز غوبسيك وقد تلبسه الخوف حين شرع يكدس السلع ابتغاء الاكتناز.
(3) لتراكم السلع… انعدام التبادل… نبض الإنتاج. (ت. کوربیت. Corbet T. ، المرجع المذكور، ص 104).
(4) ریکاردو، [مبادئ الاقتصاد السياسي، لندن، 1821]، ص 163، الحاشية.
(Ricardo, [Principles of Political Economy, 3rd Ed. London, 1821,] p. 163, Note).
(**) حرفياً: من بونطیوس إلى بيلاطوس، حاکم فلسطين في عهد الرومان، والأخير هو الذي أمر بصلب السيد المسيح. [ن.ع].

(5) إن السيد جون ستيوارت میل، بغض النظر عن كتابه “المنطق”، لا يبين أبداً الأخطاء الواردة في تحليل أسلافه. إن هذه الأخطاء بحاجة إلى تصويب من وجهة نظر الاختصاصي وحتى ضمن الآفاق البورجوازية للعلم. ونراه يستنسخ، دوما، انکار أساتذته المضطربة، بدوغمائية التلاميذ، فيقول في الحالة المعنية: «إن رأس المال نفسه يتحول كلياً إلى أجور، في آخر المطاف؛ وحين يستعاد ببيع المنتوج، يعود فيتحول إلى أجور، من جديد».
(***) الجدول الاقتصادي: أول مخطط لتجديد إنتاج وتداول راس المال الاجتماعي وضعه الفيزيوقراطي کینیه. يتناول مارکس هذا الجدول في: نظريات فائض القيمة، الجزء الأول، الفصل السادس، وكذلك: رأس المال، المجلد الثاني، الفصل 19. [ن. برلین].
(6) لم يقتصر آدم سميث، في وصفه لعملية تجديد الإنتاج وبالتالي التراكم، على عدم تحقيق خطوة إلى الأمام في أمور عديدة، بل تقهقر كثيراً بالمقارنة مع أسلافه، وبخاصة الفيزيوقراطيين. إن الوهم المذكور في المتن أعلاه، يرتبط بدوغما مذهلة حقا، ترکها آدم سميث إرثا للاقتصاد السياسي، وهي دوغما ترى أن سعر السلعة يتألف من الأجور والربح (الفائدة المئوية) والريع، أي فقط من الأجور وفائض القيمة. وانطلاقا من ذلك يعترف شتورخ، بسذاجة كاملة قائلا: «من المستحيل إرجاع السعر الضروري إلى عناصره الأولية». (شتورخ، دروس في الاقتصاد السياسي، 1815، المجلد II، ص 141، الحاشية). إنه لعلم اقتصاد جميل هذا الذي يعلن أن من المستحيل إرجاع سعر السلع إلى عناصره الأولية البسيطة! ولسوف نبحث هذه النقطة في الجزء الثالث من المجلد الثاني وفي الجزء السابع من المجلد الثالث بالتفصيل.