القصور الفكري مرض عضال في الحركة الشيوعية (2/2)


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 6737 - 2020 / 11 / 19 - 19:28
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

في العام 1921 طلب لينين من قيادة الحزب طرد 100 ألف عضوا من الحزب وهو بالإضافة إلى تطهير الحزب من عناصر البورجوازية الوضيعة التي تكون قد نجحت في التسلل بين صفوف الحزب لكن تصفية مثل هذه العناصر تتم فقط عبر رفع السوية الفكرية لمجمل أعضاء الحزب وكان ذلك أول اهتمامات لينين .
في المؤتمر العام العاشر للحزب وهو أهم مؤتمر يعقده الحزب إذ كان المؤتمر الذي أسس لبناء الإتحاد السوفياتي، برز تروتسكي يقود كتلة من الفوضويين سابقا معارضاً نهج لينين في تنمية الثورة الإشتراكية لصالح تصدير الثورة إلى الخارج، إلى ألمانيا بالخصوص بحجة ديمومة الثورة كما اشترط ماركس . ضاق لينين ذرعاً بمهاترات تروتسكي النزقة وشن عليه هجوما كاسحاً وإقترح على المؤتمر تبعاً لذلك أن يتخذ قراراً يحرّم بموجبه التكتلات داخل الحزب، فكان ذلك .
رحل لينين في يناير 1924 وفي العام 25 برز في الحزب كتلتان متطرفتان، كتلة يسارية بقيادة تروتسكي وكتلة يمينية بقيادة بوخارين . وعملت الكتلتان ضد الحزب وقيادتة التي حذرت المتطرفين في الكتلتين من أنها لن تسمح بحال من الأحوال بانتهاك المبدأ اللينيني القاضي بمنع التكتلات بين صفوف الحزب . ولما لم يرتدع أي من الكتلتين حكم على تروتسكي بالفصل من قيادة الحزب وابعاده في وظيفة في أواسط آسيا وحكم على بوخارين ورفيقه رئيس مجلس الوزراء روكوف بالإعدام ولم يتم تنفيذ الحكم بهما .
إغتيال صديق ستالين الرجل الثاني في الحزب سيرجي كيروف أمين الحزب في لينينغراد في ديسمبر 1934 نبه ستالين إلى تنامي وجود الأعداء في الدولة كما في الحزب ؛ وقد دلت التحقيقات على أن كامينيف وزينوفييف وهما من قيادة الحزب لهما ضلع في اغتيال كيروف لأنه يشغل الوظيفة التي كانا يشغلانها . وهو ما فرض سياسة تطهير الحزب والدولة الأمر الذي كان يوصي به لينين باستمرار .

في العام 1938 عقد في ميونخ مؤتمر التصالح أو تهدئة الخواطر (Appeasement) بين الإمبريالية ممثلة ببريطانيا ورئيس وزرائها تشيمبرلن وفرنسا ورئيس الجمهورية دالادييه والنازية ممثلة بهتلر والفاشية ممثلة بموسليني . وقد دلت نتائج المؤتمر على تحضير المؤامرة الكبرى على الاتحاد السوفياتي وهو ما دعا ستالين إلى تعطيل النشاط الحزبي المتجسد في الصراع الطبقي كيما تواجه الشعوب السوفياتية متكاتفة المؤامرة الكبرى على الاتحاد السوفلياتي .
وفي اجتماع للمكتب السياسي في العام 1938 فوجئ ستالين بالقصور الفكري لدى أعضاء المكتب السياسي فصاح بهم مستهجنا .. "ما بكم، ألا تقرؤون ماركس !!؟"، فكان أن اعتكف ستالين لثلاثة أيام كي يكتب كتابة الشهير "المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" وهو الكتاب الذي يعتبر مرجع الفلسفة الماركسية .
البلاشفة بقيادة لينيبن وقد أخذوا على عاتقهم قيادة الثورة الإشتراكية في العالم من بلاد لم تكن صناعية متطورة وهو ما اقنضاهم أن يبذلوا جهود الجبابرة كيما يضمنوا مسيرة ناجحة تصل لأن تتربع الدولة السوفياتية على عرش العالم في نهاية النصف الأول من القرن العشرين . نحن والحالة هذه لا يجوز لنا ألا نعذر القصور الفكري لدى أولئك الجبابرة البلاشفة وقد انغمروا بجهود جبارة لنجاح ثورتهم الاشتراكية الأولى في العالم . ولا يجوز لنا أن نغض الطرف هنا عن تفسير غورباتشوف للجبروت السوفياتي في كتابه البريسترويكا وقد افتتنه جبروت الإنسان السوفياتي حين شاهده أثناء رحلته من جنوب روسيا إلى موسكو في خلية نحل لا تهدأ ليلا ونهاراً في إعادة إعمار الاتحاد السوفياتي وقد لحق به تدمير على يد النازي يفوق الخيال، كان تفسيره هو أن البلاشفة وكأنما مخلوقات غير بشرية نزلوا من السماء وخدعوا السوفياتيين بأنهم سيبنون لهم جنة الله على الأرض . نعم، هكذا ظهر الجبروت البولشفي جبروتاً غير أرضي بنظر شخص غير عادي هو غورباتشوف .

منذ المؤتمر الثامن عشر للحزب في مارس 1939 عملت القيادة على تعطيل عمل الحزب المرتكز في الصراع الطبقي ومحو الطبقات، وكان ذلك من أجل مواجهة الشعوب السوفياتية بمختلف طبقاتها العدو في الدفاع عن الوطن الذي هو وطن الجميع . استمر تعطيل الحزب ثلاث عشرة سنة (1939 – 1951) تواصل ذلك طيلة الاستعداد للحرب والحرب وإعادة الإعمار، وهو ما قضى على حيوية الحزب خليك عن الخسائر الفظيعة التي لحقت به في الحرب في مواجهة وحوش النازية .
في العام 1951 وجد ستالين أن الاتحاد السوفياتي في العام 1951 ليس هو الاتحاد السوفياتي في العام 1938 ؛ دولة دكتاتورية البروليتاريا لم يتبقّ منها سوى الإسم ؛ الإقتصاد الإشتراكي المدني بات اقتصاد الحرب وراء الأورال ؛ قوى الإنتاج من العمال أبيد معظمها في الحرب لتحل محلها النساء السوفياتيات ؛ الصفوف الأولى في الحزب أبيدت أيضا في الحرب . وهكذا وجد ستالين نفسه في مأزق صعب وكبير وليس هناك من قوى يمكن الإعتماد عليها للخروج من ذلك المأزق الخطير . لذلك كانت المرة الأولى يدعو فيها الحزب لعقد ندوة عامة يشارك فيها علماء الإقتصاد من مختلف الأجناس بالإضافة إلى قيادة الحزب للبحث في "المسائل الإقتصادية للإشتراكية في الاتحاد السوفياتي" تلك الندوة التي سجل وقائعها ستالين في كتابه الذي يحمل نفس الإسم الصادر في العام 1952 وفيه يناشد ستالين الجميع بدراسته والتعليق عليه واستعداده الكامل لاستقبال كل التعليقات ودراستها حيث كان ينوي كتابة الجزء الثاني يشرح فيه المسائل المطروحة ومقاربتها .
ما توقعه ستالين من عقد الندوة وجده فيها متجلياً بأوضح صوره . وجد قصوراً فكريا عميقا لا يقارب بأي شكل من الأشكال أيّاً من المسائل المطروحة .
ما زاد ستالين إحباطاً في تلك الندوة هو أن عامة المنتدين اصطفوا وراء فياتشيسلاف مولوتوف مطالبين بتشديد الصراع الطبقي وحتى إلغاء طبقة الفلاحين بقرار فوقي . ذلك ما كشف لستالين أن أحداً من قادة الحزب لا يعي المأزق المطروح وهو ما اضطره لأن ينتصر بقوة، خلافا للمع، للأخوة والمساكنة الطبقية – أحداً لم يفهم ستالين ينتصر للمساكنة الطبقية – وكنت أنا قد درست الكتاب في العام 1954 ولويت شفتي استهجانا لموقف ستالين – ستالين وحده كان يدرك خطورة تشديد الصراع الطبقي على الثورة حيث طبقة البروليتاريا لم تعد بذات القوة كما كانت قبل الحرب .

وهكذا وجد ستالين نفسه في العام 1951 وحيداً في اتحاد سوفياتي لا يمت للإشتراكية بصلة، فالبروليتاريا صاحبة السلطة تم تغريبها بفعل الحرب إذ بذل الملايين من العمال أرواحهم دفاعا عن دولتهم وملايين أخرى تجندوا في الجيش ومن تبقى منهم تحولوا إلى الصناعات الحربية التي تفقر المجتمع . ولم يعدهناك حزب شيوعي ذو حيوية بلشفية بعد أن تم تعطيله لثلاث عشرة سنة . وانتهت الدولة لتكون في قبضة العسكر فعلياً بالرغم من وجود ستالين على رأسها . وليس هناك مصانع مدنية لتعيد العسكر إلى عمال . كانت00000 مختلف الطرق مسدودة أمام استئناف البناء الإشتراكي .

لكن ستالين لم يحدث قط أن تراجع أمام مختلف الصعاب على طريق الثورة الاشتراكية . كان يتجاوز كل الصعاب قبل أن يكون لديه رفاق يساعدونه أما في العام 51 فلِما لا يتجاوز كل الصعاب وملايين الأبطال السوفيات يحيطون به من كل جانب . كان ستالين على ثقة تامة بقدرته في إستعادة دولة دكتاتورية البروليتاريا واستئناف بناء الإشتراكية ؛ وعليه دعا الحزب الشيوعي لعقد مؤتمره التاسع عشر في أكتوبر 52 بعد غياب طويل وليقترح على المؤتمر مشروعي قرارين، أولهما التحول من الصناعة الثقيلة وأهمها صناعة الأسلحة – المعروف عن ستالين أنه كان دائما ضد التسلح – والمشروع الثاني يقضي بالإستغناء التام عن كامل قيادة الحزب بمن في ذلك ستالين نفسه وانتخاب قيادة جديدة من الشباب المتحمس لقضية الشيوعية . لخيبة أمل ستالين ولسوء حظ البشرية جمعاء رفض المؤتمر الاستغناء عن القيادة القديمة وهو ما انتهى إلى اغتيال ستالين بالسم من قبل القيادة القديمة وانهيار المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي .

ذلك هو السيناريو الحقيقي لانهيار الاتحاد السوفياتي وما عدا ذلك فليس سوى تخرصات ذات أغراض خبيثة بالغالب الأعم .