نهاية التاريخ وما بعد الديمقراطية


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 6737 - 2020 / 11 / 19 - 16:39
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

في عام 1992، وكان الاتحاد السوفييتي انهار لتوه، رأى فرانسيس فوكوياما، وهو فيلسوف ومنظر سياسي أميركي، أن كل ما يمكن أن يقع من نزاعات قادمة يجد حله ضمن النموذج الديمقراطي الليبرالي السائد في المعسكر المنتصر، وأنه ليس هناك ما بعد لهذا النموذج. لقد انتهى التاريخ. لم يكد يعتنق أحد هذه الدعوى التي بدت انعكاساً لمزاج التيه والطرب الذي أعقب انتهاء الحرب الباردة بانتصار التحالف الرأسمالي الغربي. فوكوياما نفسه غير رأيه بعد سنوات، محيلاً إلى تطورات تكنولوجية بصورة خاصة.
لكن رغم ما يبدو من إجماع كلامي على لا نهاية التاريخ، يبدو أن التاريخ انتهى فعلاً في الممارسة، وأنه لم يعد ثمة مستقبل متصور يُلمح خارج الديمقراطية الليبرالية في الغرب. الاعتراضات اليسارية في الغرب لم تنجح في تصور مستقبل مختلف بعد سقوط الشيوعية السوفييتية وأشباهها، وانتقاداتها تنصب على إفراط الليبرالية الجديدة و"أصولية السوق"، وتراجع وظائف الدولة الاجتماعية، وليس على رؤية أو مشروع مغايرين. يبدو اليسار الغربي هو المدافع الأوفى عن الديمقراطية الليبرالية، وإن مع مسؤولية اجتماعية أكبر.
لكن بدل أن تكون نهاية التاريخ إقامة سعيدة في الحرية، تبدو في الواقع دخولاً بعينين مفتوحتين إلى سجن مؤبد، سجن اللابديل. مبدأ اللابديل الذي كانت صاغته مارغريت تاتشر في ثمانينات القرن العشرين يبدو ساري المفعول، وإن لم يحظ بقبول أكثر مما كان نصيب نهاية التاريخ من القبول. نحن هنا حيال رفض أيديولوجي جامع لفكرة اللابديل ولانتهاء التاريخ، لكن مع تسليم فعلي جامع بالقدر نفسه. الديمقراطية نفسها تتآكل مع ضمور أبعادها المعيارية المتصلة بالعدالة من جهة، والتعمم العالمي من جهة أخرى. كان كولن كراوتش، وهو أكاديمي بريطاني، قد تكلم منذ عام 2004 على ما بعد الديمقراطية في مجتمعات الغرب، حيث تبقى الآليات والإجراءات الديمقراطية، لكن مع أزمة في الأحزاب والنقابات، وتراجع مستوى التعبئة السياسية، واغتراب متصاعد لقطاعات من الجمهور عن النظام السياسي. صدر الكتاب بين هجمات 11 أيلول الإرهابية والأزمة الاقتصادية في عام 2008، وكان لكليهما مفعول من الخوف وفقدان الأمان لدى قطاعات متسعة من الجمهور الأميركي والأوربي. وإذ صب الخوف لمصلحة تيارات اليمين الشعبوي في هذا البلدان، فإنه قاد كذلك إلى ما قد تصح تسميته بالمنعطف الجينوقراطي، أعني الحكم الأهلي، أو حكم الأكثريات الثقافية، الإثنية أو الدينية أو القومية أو العرقية (ما يؤهل الجينوقراطية لأن تكون بنية تحتية للجينوسايد، تجمعهما مركزية الجينوس، العرق أو السلالة...). ظواهر مثل التفوقية البيضاء وسنوات ترامب في أميركا والبركزيت وصعود بوريس جونسون في بريطانيا والهندوتفا والقومية الهندوسية في الهند في ظل ناريندرا مودي والقانون الأساسي في إسرائيل كدولة للشعب اليهودي ومزيج القومية الروسية والمسيحية الأثوذكسية في روسيا، وحكومة فكتور أوربان القومية المسيحية المعادية للمهاجرين في هنغاريا، والتركيب القومي الإسلامي لرجب طيب إردوغان، والإسلامية في عمومها...، كلها تندرج ضمن مناخ من ثقفنة السياسة والتحول من الأكثريات السياسية إلى الأكثريات الثقافية.
يبدو مضمون ما بعد الديمقراطية هو الجينوقراطية، ضرب من القومية الجديدة تؤكد على الجذور الثقافية والعرقية والدينية. ولعل مما جعل ذلك ممكناً هو أن الانتصار المزعوم للديمقراطية الليبرالية لم يكن انتصاراً لها على اللاديمقراطية واللاليبرالية، على الدكتاتورية أو الشمولية أو الاستبداد، بل هو أساساً انتصاراً للغرب على غيره، أي أن هناك عنصر جينوقراطي سلفاً في هذا الانتصار. لذلك، ورغم ما يبدو من تعارض بين أطروحة فوكوياما الخاصة بنهاية التاريخ وأطروحة صموئيل هنتنغتون الخاصة بصراع الحضارات، فإن ما يجمعهما من تمركز حصري حول الغرب، وضع الأولى، الفلسفية والعامة، في خدمة الثانية عملياً، الثقافية والخاصة.
ثقفنة الديمقراطية تجردها من قواها وروحها القتالية، بتسهيل مطابقتها مع الغرب على ما يقول البوتينيون صراحة، أو مع هذا البلد أو ذاك دون حضور فاعل للديموس (الشعب)، أو لصراع من أجل حقوق أكبر ومساواة أكبر. ما كان يمكن أن ينقذ الديمقراطية هو تقوية بعدها المعياري، ما يتصل بمزيد من العدالة الاجتماعية ومن الحرية، وهو تعممها العالمي، وهو كذلك الدفاع عن حريات أكبر وحقوق أكثر ومزيد من العدالة للمحرومين منها في كل مكان.
هناك اليوم مناخ من الأزمة العالمية، متصل بمشكلات عالمية في تكوينها مثل التدهور البيئي والأوبئة، وكذلك المنعطف الجينوقراطي والمسألة الإسلامية، فضلاً عما يبدو من أزمة اقتصادية اجتماعية مستمرة، والاحتمالات الدستوبية لتطور كل من تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا البيولوجية، وقد أقام يوفال نوح هراري شهرته على قراءة احتمالات تطورهما. ومن غير المحتمل أن تجد الأزمة العالمية حلولاً لها في غير نطاق عالمي. يمكن التفكير في مجتمع عالمي كوجهة أو وعد، يخرجنا من أزمة اللابديل والدوران حول الذات، ومن العودة إلى الماضي مثلما يريد الإسلاميون واليمين الشعبوي في الغرب وغيره. الكلام على مجتمع عالمي مكون من فوق سبع مليارات من البشر يمكن أن يبدو هروباً إلى الأمام، نحو طوبى يائسة، بينما نحن نلاحظ صعوبة تماسك مجتمعات محلية لا يتجاوز سكانها ملايين أو عشرات قليلة منها. لكن عدا أن تداعي المجتمعات وتماسكها اليوم هو "وظيفة" للوضعية العالمية بقدر كبير، وليس لمجرد ديناميكيات داخلية تجري فيها (وإن بنسبة قوى كل منها: الأضعف أكثر انكشافاً وعالمية)، عدا ذلك هناك سلفاً مجتمع عالمي، تشهد على ذلك وقائع لا تحصى، من أحدثها أزمة كورونا و"حالة الاستثناء" العالمية المتصلة بها، ومؤخراً المتابعة الدولية الواسعة للانتخابات الأميركية، وقبلها بقليل الجرائم الإرهابية في باريس وفيينا، التي وثقت ربط عالمي المسلمين والغرب للمرة الألف. وهناك فضاءات عامة حديثة نسبياً، متصلة وعالمية، تتمثل في "وسائل التواصل الاجتماعي" تغير طبيعة الفضاءات العامة المحلية في كل مكان. المجتمع العالمي آخذ بتشكل متسارع، لكن لا يزال نظام العالم يتراوح بين نظام دول سيدة على ما هو متمثل في الأمم المتحدة، وبين احتكار للسيادة من قبل أوليغارشية متجسدة في مجلس الأمن. بل يمكن فهم المنعطف الجينوقراطي كتراجع أمام ظهور المجتمع العالمي وكالتصاق بالقومية والماضي.
يميز زغمونت باومان بين القوة- السلطة التي يراها عالمية أكثر وأكثر وبين السياسة التي لا تزال محلية، ولذلك تفشل أكثر وأكثر في مواجهة ما هو عالمي. وهذا وضع متجه لأن تكف الدول عن كونها مقرات السياسة في المجتمعات، وهي كفت من قبل عن كونها مقرات السيادة. ما نتبينه من تدهور في مستوى النخب السياسة في كل مكان قد يكون منشأه هنا: الخيال السياسي المشدود إلى الإطار الوطني لا يؤهل لظهور نخب سياسية أرفع وقيادات سياسية كبيرة. بالعكس، يبدو هذا الإطار الوطني هو الحاضنة الأبرز لنخب جينوقراطية، ولميل الحكومات إلى الاقتراب منها، على ما يظهر بتسارع في فرنسا مؤخراً. هناك رفض في بلدان أوربا والغرب لأخذ العلم بواقعها كمجتمعات ما بعد هجرية (أستعير المفهوم من ورقة لماريا روكا ليزارازو:Postmigrant renegotiations of Identity and Belonging in Contemporary Germany)، والميل إلى الاستجابة لضغوط اليمين الشعبوي في تعريف الاندماج، وليس للانفتاح على هذا التعدد الجديد، وإعادة تعريف النفس والعالم بدلالته. تظهر الجينوقراطية هنا ليس كحركات يمينية شعبوية فقط، وإنما كمكون لسياسة الدولة القومية التي تعرف نفسها بهوية مكنونة في اسمها: ألمانيا، فرنسا، تركيا إلخ.
نهاية التاريخ بالديمقراطية الليبرالية ولدت من داخلها بالذات الجينوقراطيات الشعبية التي لا تبدو حدثاً عارضاً، رغم سقوط ترمب في الانتخابات الأميركية. ما يمكن أن يكون إنقاذاً للديمقراطية هو الاضطلاع بتحدي ظهور مجتمع عالمي والعمل على إعادة بناء النظام الدولي حول ذلك، أي التحول إلى ما بعد الدولة الأمة والسيادة. والأرجح أن دون ذلك عواصف وأهوالاً.