ولايات لبنانية أم جمهورية


محمد علي مقلد
الحوار المتمدن - العدد: 6734 - 2020 / 11 / 16 - 11:10
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

ولايات لبنانية أم جمهورية؟
بحث في المصطلحات
محمد علي مقلد
الفرضية التي ينطلق منها هذا البحث ويحاول، في الوقت ذاته، إثباتها، هي من شقين، الأول هو أن التسمية "لبنان الكبير" أنجبت مجموعة من المصطلحات السياسية المغلوطة التي شوهت البحث النظري حول الوطن والدولة، وساهمت، بالتالي، في تشويش الحوار السياسي وفي إعاقة بناء الجمهورية اللبنانية.
الشق الثاني من الفرضية هو اقتراح معيار آخر تستقيم معه الأمور ويزيل الالتباسات التي رافقت تأسيس الوطن على امتداد مئة عام. المعيار المقترح هو الموقف من الدولة وليس الحجم ولا المساحة، وبناء عليه يكون الاحتفال الصحيح بالمئوية هو العام 1926 بدل العام 1920، أي تاريخ أعلان الدستور اللبناني.
سنقوم بتمرين نظري لنثبت صحة هذه الفرضية، فنقارن المقاربات المستندة إلى معيار الحجم والمساحة بتلك المستندة إلى معيار الدولة.
أولاً :لبنان تاريخ متعدد
التسمية "لبنان الكبير" تعني أن لبناناً آخر "صغيراً" كان موجوداً وجرى تكبير حجمه. المعيار السياسي في التسمية هو الحجم والمساحة، ومن هذا المعيار المغلوط تحدرت قراءات وسجالات مغلوطة حول كتابة تاريخ لبنان وسايكس بيكو والتنوع الطائفي والعروبة وسوء التفاهم بين القومي والوطني.
يرى ميشال شيحا أن لبنان "قديم جداً"، ويرى آخرون أن إسم لبنان ورد في الكتب الدينية، وأن هذا الكيان تأسس منذ ستة آلاف عام أو من أيام الفينيقيين أو من أيام الملك سليمان وخشب الأرز. في المقابل، لا وجود للبنان في خارطة السياسة القومية ولا في خارطة التاريخ الإسلامي. أما مهدي عامل فقد حدد "تاريخ ولادة لبنان بولادة البرجوازية الكولونيالية المرتبطة تبعياً بالإمبريالية". هذه التواريخ كلها غير محددة بدقة، من القديم جداً إلى ولادة البرجوازية الكولونيالية، ما عدا اثنين منها، سايكس بيكو (1916) ولبنان الكبير(1920)، الأول يجعله صناعة استعمارية والثاني يميز بين لبنان الجبل، أي لبنان "الأصلي"، ولبنان الأقضية التابعة، أي المضمومة، بسبب حاجة لبنان الأصلي الممتد على سلسلة الجبال من المكمل شمالاً حتى الريحان جنوباً، حاجة وجودية إلى ممر تجاري على موانئ الساحل وإلى مصدر غذائي من زراعة السهول.
التواريخ كلها صحيحة، يمثل كل منها تاريخ إقليم أو منطقة أو سنجق أو ولاية، لكن عدم دقة بعضها شكل ثغرة تسلل منها "الصراع على تاريخ لبنان"(عنوان بحث جامعي لأحمد بيضون، منشورات الجامعة اللبنانية)، وشكل التاريخان الدقيقان، سايكس بيكو ولبنان الكبير، أسباباً إضافية للصراع بين مكونات لبنان الجغرافية والبشرية.
لبنان الحديث الذي تأسس مع إعلان لبنان الكبير عام 1920 يتكون من مقاطعات أو ولايات لم تجتمع في إطار واحد ولا خضعت مجتمعة لسلطة واحدة تحمل إسم لبنان أو الجمهورية اللبنانية إلا بعد الحرب العالمية الأولى، أي في فترة الانتداب الفرنسي، ثم تكرست في الاستقلال السياسي عام 1943. هذا يعني أن تاريخ لبنان قبل "لبنان الكبير" ليس سوى تاريخ المقاطعات أو الولايات وليس تاريخ الجمهورية، باستثناء مرحلة حكم فخر الدين المعني الثاني الذي امتد نفوذه إلى شمال فلسطين وبعض مناطق سوريا. بهذا المعنى يمكن القول إن الصراعات في ظل الجمهورية التي اتخذت شكل الحروب الأهلية في 1958 و1975 وثمانينات القرن العشرين والعقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، هي صراعات بين منطق الولايات ومنطق الجمهورية، مع فارق جوهري يتمثل بأن سلطاناً واحداً كان يدير الصراعات والحروب في عهد الولايات من مقره في الآستانة، فيما تعددت التبعيات والولاءات والسلطنات في عهد الجمهورية، إذ صار لكل ولاية والٍ و"أم حنون"، وبدت حروب اللبنانيين الأهلية كأنها حروب الآخرين أو بين الطوائف، فيما هي في حقيقتها إما حروب ضد لبنان الكبير وضد الجمهورية، إما حروب بين مستبدين يتنافسون من مواقعهم المتقابلة ضد الديمقراطية.
ثانياً: هل اتفاقية سايكس بيكو استعمارية؟
يؤرخ إريك هوبزباوم في أربع مجلدات تاريخ الرأسمالية، فيقول إن الاستعمار، في الفترة بين عامي 1876 و1915 كان قد وزع أو أعاد توزيع ربع مساحة المعمورة كمستعمرات بين ست دول كبرى، بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبليجيكا وإيطاليا وإسبانيا(ص126-127 من المجلد الثالث) أما المؤرخ فرناند بروديل فيحدد، في كتابه الضخم، عن المتوسط ومحيطه، تاريخ النزوع الاستعماري للرأسمالية بسقوط غرناطة واكتشاف أميركا، أي في العام 1492.
طيلة الفترة الممتدة من التاريخ الأبعد، بداية القرن السادس عشر، حتى الأقرب، بداية القرن العشرين، لم يخضع المشرق العربي للسيطرة الاستعمارية، بل كان جزءاً من السلطنة العثمانية. ومن صدف التاريخ أن المرحلة الاستعمارية، وهي وليدة الحضارة الرأسمالية، تزامنت بولادتها وموتها مع حكم السطلنة العثمانية، فلم يترك التاريخ لبلدان المشرق العربي فسحة للوقوع تحت سيطرة الاستعمار، بل إن هذه المنطقة انتقلت من السيطرة العثمانية إلى الاستقلال مباشرة بمساعدة الانتداب الفرنسي الذي أسس الدولتين السورية واللبنانية، والأنكليزي الذي أشرف على تأسيس الكيان الصهيوني. ففي لبنان تم الإعلان عن لبنان الكبير عام 1920، وعن الدستور اللبناني عام 1926، وعن الاستقلال عام 1943.
الحرب العالمية الثانية أعلنت نهاية الصيغة القديمة من الاستعمار بالاحتلال المباشر، باستثناءات قليلة على الكرة الأرضية من بينها في العالم العربي تونس التي استقلت في الخمسينات والجزائر في الستينات من القرن العشرين. إذن ما هي العناصر التي استندت إليها بعض التحليلات لتتخذ موقفاً سلبياً من اتفاقية سايكس بيكو ثم من لبنان الكبير في ما بعد؟ لا شك في أن ذلك ناجم عن تفسير مغلوط للظاهرة الرأسمالية وعلاقتها بالاستعمار، وعن فهم مغلوط لما حصل من تطورات هامة وخطيرة في تطور الرأسمالية وفي التنافس التجاري والعسكري بين الدول الاستعمارية، الذي بلغ ذروته في الحربين العالميتين.
من بين الحجج التي استخدمها المعترضون على لبنان الكبير اعتقادهم أن لبنان هو صنيعة استعمارية. مئوية كاملة والمشرق العربي، ومنه لبنان، يعيش التباساً مزدوجاً، فهو، من جهة، يطالب بالتحرر من الاستعمار، مع أن نهاية الاستعمار في العالم تزامنت مع استقلال الدول العربية، ومن جهة أخرى، يظن أنه أنجز استقلاله بجلاء القوات الأجنبية الغربية، مع أن فترة الانتداب القصيرة ساعدت الولايات في المشرق العربي على التحرر من سيطرة السلطنة العثمانية، واستحدثت فيها ثلاثة أوطان وثلاث دول، لبنان وسوريا والعراق، على غرار ما حصل في أوروبا بعد الثورة الفرنسية.
هذه الحقائق عن تاريخ الاستعمار لا تلغيها جريمة الانتداب الإنكليزي الذي تولى حل المشكلة اليهودية في أوروبا على حساب الشعب الفلسطيني. ذلك أن بناء الأوطان الثلاثة في المشرق العربي، مضافاً إليها تمويل الاستيطان في فلسطين وتنظيمه وحمايته وإقامة دولة في شرق الأردن، كل ذلك هو صنيعة الانتداب. فما الذي صنعته اتفاقية سايكس بيكو، وهل هي مؤامرة على الأمة، وهل كان لبنان خطأ تاريخاً أو جغرافياً؟
صحيح أن الانتداب استحدث أوطاناً لم تكن موجودة من ذي قبل، ورسم لها حدوداً. لكن الجديد فيها لم يكن تعديلاً على حدود قديمة ولا كان تجزئة لكيانات كبرى موحدة، بل هو تعامل مع هذه المنطقة مثلما سبق للحضارة الرأسمالية أن تعاملت مع الكيانات والأوطان والحدود المستحدثة بين الدول في أوروبا غداة الثورة الفرنسية. فما الذي فعلته الرأسمالية في أوروبا ثم تعاملت معنا به بالسوية ذاتها؟
يقول هوبزباوم في ثلاثيته الضخمة عن تاريخ الرأسمالية(عصر الثورة، عصر رأس المال، عصر الأمبراطورية) إن الحروب داخل القارة، بعد الثورة الفرنسسية، أفضت إلى نتائج حاسمة، فأعيد رسم خارطة الكيانات القائمة، وانتقلت السيطرة على النرويج من الدانمراك إلى السويد، وتوحدت هولندا وبلجيكا، بعد أن كانت خاضعة لمملكة النمسا، ودخلت تحت السيطرة الروسية فنلندا وجزء كبير من بولندا وعدد من المقاطعات الإيطالية، ونالت اليونان استقلالها بدعم روسي بريطاني وتحولت إلى مملكة يحكمها أحد الأمراء الألمان(عصر الثورة). وتمكن نموذج الثورة الفرنسية من القضاء على الكثير من الكيانات التي كانت معروفة في ظل الحضارة الإقطاعية، وتوحدت المدن|الدول الإيطالية كما توحدت المقاطعات الجرمانية واستقلت المجر عن مملكة هابسبورغ وتشيكيا عن النمسا واستقلت اليونان وبلغاريا عن السلطنة العثمانية وتحولت بعض المقاطعات إلى دول، مثل رومانيا التي تشكلت من مقاطعتين كانتا تحت السيطرة العثمانية، أو بولندا التي كانت السيطرة عليها محل تنازع بين بروسيا وروسيا، أو سويسرا وبلجيكا اللتين تضم كل منهما أكثر من قومية. ويختم هوبزباوم عرضه بالقول، إن "الدول" الأوروبية كلها، ماعدا بريطانيا، تغيرت تغيراً جوهرياً وتغيرت رقعتها وأراضيها أحياناً بين عامي 1856 و1871 ( عصر الثورة، ص148)
صحيح أن اتفاقية سايكس بيكو رسمت حدوداً لدول وأوطان لم تكن موجودة من ذي قبل. لكنها نقلت التجربة الأوروبية فتعاملت مع هذه المساحة الجغرافية الممتدة بين المتوسط والخليج العربي بالطريقة ذاتها التي صورها هابزباوم. فقد كانت أوروبا كلها في عصر الأنوار تشبه، إلى حد ما، بلاد الشام التي تضم سوريا ولبنان بعضاً من فلسطين والعراق. كانت أوروبا ما قبل الثورة الفرنسية موزعة على إمارات ومحكومة من ثلاث ممالك كبرى، إسبانيا وهابسبرغ وفرنسا، فضلاً عن بريطانيا خارج القارة والقيصرية الروسية في الشرق. بتعبير آخر، كانت علاقة هذه الممالك بالإمارات أو المقاطعات تشبه علاقة السلطنة بالولايات الخاضعة لها في العالم العربي. وحين قررت أوروبا الانتقال من عصر الممالك والإمارات إلى عصر الدولة الحديثة، أعادت رسم الحدود لتبني كيانات جديدة حمل كل منها إسم الوطن، أخذاً بعين الاعتبار، إضافة إلى اللغة والعادات والتقاليد والبنية الاقتصادية، الإمكانات البشرية المتوفرة لإدارة شؤون هذه الأوطان، بما يخدم عملية الانتقال من حضارة الزراعة إلى الحضارة الرأسمالية، وبما يؤمّن استقرار التوازنات بين مراكز القوى في أوروبا. وقد أدى اختلالها إلى دخول تلك القوى في حربين عالميتين.
صحيح أيضاً أن بناء لبنان الكبير كان له مؤيدون ومعارضون. بعد مئوية التأسيس يحق طرح السؤال عن صوابية ما فعلته سايكس بيكو، ونقترح أن يكون السؤال من شقين على الشكل التالي. الأول أيهما كان أفضل للبنان الحالي، أن يكون جمهورية مستقلة تحمل إسم لبنان أو أن يكون محافظة من المحافظات التي تشكلت منها الجمهورية السورية؟ والثاني عن مضمون الاستقلال وظروفه.
عن الشق الأول، أثبتت أحداث القرن أن الأمر لا يتعلق بالحجم ولا بالمساحة الجغرافية ولا بالتاريخ، بل بطبيعة الإدارة السياسية للكيان المستحدث أياً تكن مساحته. كما أثبتت أن السلطات التي تولت إدارة الشأن السياسي في المرحلة الأولى من الاستقلال في كل من البلدين وفي معظم البلدان العربية، كانت أكثر دراية ومعرفة وحرصاً ممن توالوا على إدارته بعد ذلك. ففي لبنان نظمت الإدارة السياسية بعد الاستقلال، بيسارها ويمينها، حرباً أهلية مستدامة وأشرفت على تدمير مؤسسات الدولة، وها هي اليوم تدفع البلاد نحو الانهيار. أما في سوريا فقد تولت الإدارة فتح الحدود أمام كل القوى الأجنبية لتقضي على الاستقلال وتدمر البلاد بالبراميل المتفجرة وبحرب أهلية وعالمية على أرضها. بتعبير آخر، مصير وطن اسمه لبنان، كبيراً كان بمساحته أم صغيراً، مستقلاً أم محافظة من محافظات سوريا الكبرى، مرتبط بطبيعة السلطة السياسية والنظام الذي يحكمه، الأمر الذي يدفعنا إلى البحث عما هو مشترك بين أنظمة عربية بمساحات مختلفة رمت أوطانها في أتون حروب أهلية من العراق شرقاً حتى الجزائر غرباً ومن اليمن حتى لبنان وسوريا. كما يدفعنا إلى السؤال عما إذا كانت ثورة الربيع العربي ستتوقف عند حد معين أم أن قطارها متجه نحو محطة خالية من أنظمة الاستبداد؟ أما الشق الثاني من الجواب فهو يتعلق بمضمون الاستقلال.
يحتفل الشعب اللبناني، وكذلك الشعب السوري، بمناسبتين، الاستقلال والجلاء. وقد تركز في الوعي السياسي العام اعتقادان الأول صار من البديهيات، ومفاده أن الاستقلال يعني التحرر من الوجود الأجنبي، الفرنسي على جه التحديد، وأن الجلاء يعني جلاء القوات الفرنسية، وهو خاطئ لأنه يجافي وقائع التاريخ. فالولايات التي تشكل منها كل من لبنان وسوريا، كانت خاضعة منذ العام 1516، على أثر معركة مرج دابق، للسيطرة العثمانية، وأنها شهدت حالات تمرد فاشلة على تلك السيطرة، خصوصاً أيام فخر الدين المعني الذي توسعت حدود ولايته حتى تدمر شمالاً والجليل جنوباً، وكذلك أيام الشهابيين والحملة المصرية بقيادة ابراهيم باشا. خلال الحرب العالمية الأولى طلبت هذه الولايات التعاون مع الدول الأوروبية المشاركة في الحرب من أجل الاستقلال عن السلطنة، وهو ما فسرته السلطنة خيانة لها وتآمراً عليها فنصب جمال باش السفاح المشانق، في السادس من أيار عام 1916 وأعدم بضعة عشر مثقفاً من لبنان وسوريا، بتهمة التعامل مع الغرب ضد السلطنة. بعد عامين سقطت السلطنة وحلت القوات الفرنسية الإنكليزية محل الجيش الإنكشاري، وبعد ثلاثة أعوام أخرى تم الإعلان عن لبنان الكبير. فهل يعقل أن يكون المقصود بالاستقلال التحرر من ثلاث سنوات من الانتداب الفرنسي لا من أربعة قرون من حكم السلطنة العثمانية؟
الاعتقاد الأول خاطئ أما الثاني فهو تضليلي لأنه لا يحدد طبيعة الحالة التي يخرج منها الكيان السياسي، ولاية أو إمارة أو مملكة، ولا طبيعة الحالة التي يتجه إليها. الولايات الخاضعة للسيطرة العثمانية كانت تبحث عن حاكم جديد لا عن نظام جديد، فيما تشير الوقائع في تلك الفترة إلى أن العالم كان يمر بمنعطف تاريخي كبير يتجاوز حد تغيير الحاكم إلى تغيير النظام، وحد التحرر من سيطرة أو من احتلال إلى التحرر من منظومة حضارية كاملة. لقد ظل العالم العربي، المستعمر منه وغير المستعمر، خاضعاً لنمط الحضارة الزراعية، حضارة الأرض، بكل قيمها الاقتصادية والثقافية والسياسية، وشكلت السلطنة العثمانية حاجزاً أعاق انتقال الحضارة الرأسمالية إلى الولايات الخاضعة لسيطرته، باستثناء المناطق التي أتيح لها أن تحتك بالحضارة الرأسمالية، ولاسيما جبل لبنان ومصر محمد علي باشا، حيث بدأت منهما طلائع النهضة الثقافية(المدارس والإرساليات) والاقتصادية (الصناعات الزراعية، الحرير في لبنان والقطن في مصر) تطل على العالم العربي.
هذه الحقيقة تؤكد أن التحرر من الاستعمار أو من الاحتلال ينطوي على معنى التحرر من علاقات الإنتاج الاقتصادي والثقافي والسياسي السابقة، تمهيداً للانتقال من حالة الولايات الساعية إلى الانفكاك عن السلطنة أو عن الانتداب إلى حالة الدولة الحديثة بالصيغة التي بشرت بها الثورة الفرنسية. فهل ورد هذا المعنى في قاموس الشريف حسين المطالب بالاستقلال عن السلطنة العثمانية بحثاً عن ملك له ولذريته؟ وجائزة الترضية تؤكد ذلك. وهل تعتبر "ثورة" سوريا بقيادة سلطان باشا الأطرش ضد الفرنسيين عام 1924 امتداداً طبيعياً ل"ثورة" الشريف حسين ضد العثمانيين عام 1916؟ لقد اقتصرت مطالب الثورتين على استبدال الحاكم الأجنبي بحاكم عربي، والانتداب الذي تخيله الشريف حسين حليفاً له للاستقلال عن السلطنة صار عدواً في بيان سلطان باشا الأطرش الذي اتهم المستعمرين(وهو يقصد الفرنسيين) بأنهم "نهبوا أموالنا واستأثروا بمنافع بلادنا، وأقاموا الحواجز الضارّة بين وطننا الواحد ، وقسّمونا إلى شعوب وطوائف ودويلات، وحالوا بيننا وبين حرية الدين والفكر والضمير وحرية السفر حتى في بلادنا وأقاليمنا"، مع أن السنوات الثلاث لم تكن كافية لارتكاب كل هذه "الجرائم".


ثالثاً: صراع بين حضارتين
تعدد تفسير الصراعات في المنطقة بتعدد المصطلحات. فهي تارة صراع بين شرق وغرب، أو بين مسلمين ومسيحيين، أو هي تنافس أوروبي على وراثة تركة الرجل المريض، أو هي معارك خاضتها شعوب المشرق العربي ضد الاستعمار. لا شك في أن في كل تفسير منها إشارة صحيحة إلى جانب من الحقيقة. غير أن دراسة الجدوى لهذه المصطلحات والتفسيرات تبين أنها قصرت عن وضع تشخيص دقيق لمشكلات المشرق المزمنة وعن وصف لعلاج لأمراضه المستعصية.
هل حقاً هو صراع بين شرق وغرب؟ ربما يصح هذا التفسير في مرحلة ولا يصح في أخرى، وربما يصح على منطقة دون أخرى. فاليابان شرق وإيران الشاه شرق والمملكة العربية السعودية شرق؟ وماذا عن موقع مصر والشمال الإفريقي، وماذا عن كل أفريقيا وعن أميركا اللاتينية، وهي كلها دخلت في صراع مع ما اصطلح على تسميته بالغرب؟ وماذا عن الحروب بين أهل الغرب، حرب الثلاثين عاماً وحروب نابليون؟ وماذا عن كشمير وانشقاق باكستان عن الهند وبنغلادش عن باكستان، وماذا عن حروب الأفغانيين داخل أراضيهم ؟
أما عن الصراعات الدينية، فهي قد تكون صحيحة في مراحل التبشير، لكنها لا تقول الحقيقة حتى وهي تشرح تفاصيل الحملات الصليبية التي تعرضت للمسيحيين كما للمسلمين. وكيف نفسر حروب محمد علي باشا ضد الحركة الوهابية أو ضد السلطنة العثمانية وكلهم مسلمون، وكيف نفسر الحروب الدامية بين التيارات الإسلامية، ولاسيما تلك التي اندلعت بعد قيام الدولة الإسلامية في العراق والشام، أو حرب عبد الناصر في اليمن، أو حرب العراق وإيران أو الصراع بين فتح وحماس؟
التنافس على توزيع تركة الرجل المريض حقيقة واقعة. غير أنه لم يكن صراعاً على التركة ولا على طريقة توزيعها، بل هو صراع مع صاحب التركة كان قد بدأ قبل قرون ودارت رحى معاركه إما داخل أوروبا أو بين الأساطيل الأوروبية والأسطول العثماني في البحر الأبيض المتوسط؛ إنه صراع وحروب بين حضارتين. السلطنة كانت تتوسل الحروب للغزو وللحصول على الغنائم وفرض الأتاوات، أما الدول الأوروبية فقد كانت تسعى إلى السيطرة للحصول على المواد الخام لصناعاتها وعلى أسواق لتسويق منتجاتها. السلطنة كانت تمثل الحضارة الاقطاعية وأوروبا كانت تمثل الحضارة الرأسمالية.
يقول هوبزباوم إن نموذج الثورة الفرنسية "تمكن من القضاء على الكثير من الكيانات التي كانت معروفة في ظل الحضارة الإقطاعية، واختفت الدول- المدن، وتقلص عدد الأقاليم التابعة للأمبراطورية الرومانية المقدسة، وباتت فرنسا تحكم القسم الأكبر من ألمانيا، إضافة إلى بلجيكا وهولندا ومعظم إيطاليا وإسبانيا، وجزءاً كبيراً من بولونيا... لقد شهد القرن التاسع عشر إعادة رسم الخارطة الأوروبية وزوال دول وولادة أخرى" (المجلد الثاني، عصر الثورة، ص. 149).
الثورة الفرنسية عممت تجربتها داخل أوروبا عن طريق القوة، في البداية، أي باجتاح نابليون كل القارة، قبل أن يتراجع عن أبواب موسكو. وعندما انهزم في واترلو قررت أوروبا أن تتبنى مشروعه طواعية. بعد تعميمه على القارة بادرت أوروبا إلى تعميمه كمشروع حضاري جديد فأزاحت من وقف في طريقها مستخدمة كل وسائل العنف، ولاسيما أنها كانت قد اكتشفت السلاح الناري. ذلك المشروع الحضاري لم يكن شيئاً غير الرأسمالية التي أطاحت بنمط الإنتاج السابق، أي الإقطاعي أو الخراجي بحسب تعبير سمير أمين، الذي كان سائداً في كل من أوروبا وآسيا، وبأنماط الإنتاج الأخرى في المجتمعات البدائية، ولاسيما تلك التي لم يكن لها تاريخ مكتوب، أي في أفريقيا وأميركا اللاتينية.
توسلت الرأسمالية العنف في مرحلة توسعها الأفقي، فلجأت إلى احتلال البلدان للسيطرة المباشرة على المواد الأولية فيها وعلى أسواقها، وقد بلغ العنف ذروته في حروب الإبادة ولا سيما في حروب استئصال السكان الأصليين، على غرار ما حصل في أميركا، أو في استعباد البشر والمتاجرة بهم كما في أفريقيا. تكاد اليابان أن تكون البلد الوحيد الذي وافق طوعاً على الدخول في الحضارة الجديدة فنجا من الاحتلال ومن عنف الحضارة الرأسمالية (آلان بيرفيت، المعجزة في الاقتصاد، دار النهار، بيروت). أما العالم العربي فقد شهدت علاقته بالحضارة الجديدة ثلاث حالات. فقد خضعت للسيطرة الاستعمارية المباشرة كل من مصر وتونس والجزائر، فيما اكتفت بلدان أوروبا الرأسمالية بنقاط ارتكاز لها على طول الساحل من قناة السويس حتى الخليج العربي لتأمين الطرق البحرية لقوافلها التجارية والعسكرية نحو الشرق الأقصى في الهند الصينية، ولم تحسب في عداد البلدان التي خضعت للاحتلال لا بلدان المشرق العربي ولا ليبيا والمغرب العربي لأن تاريخ الوجود الاستعماري فيها لا يعود إلى أبعد من العقد الأول من القرن العشرين، أي قبيل الحرب العالمية الأولى بقليل.
حتى هذا التاريخ، لم يكن العالم العربي كله، بما في ذلك البلدان الثلاثة المستعمرة، في مواجهة مع الاستعمار بل مع التخلف. لم يكن سؤال التحرر من الاستعمار مطروحاً على جدول عمل تاريخه في تلك الفترة، بل كان عليه أن يجيب على تساؤل شكيب إرسلان، لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون. ذلك أن السلطنة العثمانية تولت مهمة المواجهة مع الغرب الاستعماري وشكلت سداً منع الاحتلال عن بلدان المشرق العربي، لكنه منع عنها أيضاً التفاعل مع النمط الحضاري الجديد الذي تمكن من التسلل عبر بوابتي لبنان الصغير ومصر محمد علي باشا.
"لهذا يصبح أكثر جدوى وأكثر عقلانية النظر إلى العنف المرافق لقيام الرأسمالية بوصفه ثمناً فرض على البشرية أن تدفعه لكي تنتقل من الحضارة السابقة على الرأسمالية إلى الحضارة الرأسمالية، والنظر إليه بالتالي، لا بعين "التحرر الوطني" من الاستعمار، بل بعين التحرر من التخلف" (محمد علي مقلد، أحزاب الله، دار غوايات، بيروت، 2020). وإذا كان العنف ضريبة إلزامية للدخول في الحضارة الجديدة فقد دفعها لبنان الصغير في حروب سابقة حين كان لا يزال تحت السيطرة العثمانية، أي في عامي 1840 و1860، وكان من الممكن أن يفتدي بهما "لبنان الكبير"، إلا أن الفكر القومي العربي فسر الأحداث خارج سياقها ولم يميز بين الانتماء إلى العروبة كمشاعر تستحضر العصر الذهبي في العصرين الأموي والعباسي، وبين الحركات القومية المعاصرة التي جسدت مصالح الشعوب في بناء الأوطان، كما لم يميز بين الأمة بمعناها اللغوي القرآني والأمة بمعناها السياسي الحديث المرتبط بقيام الدولة الحديثة، الدولة- الأمة.
انطلاقاً من هذا التفسير المغلوط وجدت الحركة القومية الناشئة أن الفرصة سانحة لبعث الأمجاد العربية القديمة، فاعترضت على استحداث الكيانات والأوطان ورأت فيها خطة لتجزئة الأمة والقضاء على وحدتها التاريخية. شجعها على مثل هذا التفسير موقف الاتحاد السوفياتي من الرأسمالية ومن البلدان الرأسمالية من جهة, ومن جهة أخرى، غلبة الوجه الاستعماري لهذه البلدان على كونها حاملة مشروع حضاري. ثم أضيف إلى خطأ التفسير خطأ الموقف، إذ إن الفكر القومي العربي رأى أن الأولوية للسلطة على حساب الدولة وللأمة على حساب الدولة. لذلك كانت أعمار الدولة الحديثة قصيرة، وشهدت نهاياتها مع الانقلابات في كل من سوريا والعراق ثم في مصر والسودان وليبيا واليمن، وليس من قبيل الصدف أن تكون عاصفة الربيع العربي قد هبت على هذه البلدان قبل سواها.
الجانب المأسوي في موقف الحركة القومية تمثل في مواجهتها الاستعمار بنسخته القديمة. الاستعمار المباشر بالاحتلال شكل حاجة للرأسمالية في تطورها الأفقي. في الحرب العالمية الثانية تبدلت المواقع واحتلت الولايات المتحدة الأميركية دوراً قيادياً بين البلدان الرأسمالية، لذلك وضعت الحركة القومية العربية نفسها في مواجهة لايبررها إلا الانخراط في الثنائية القطبية إلى جانب الاتحاد السوفياتي ضد الولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً أن الاستعمار في المشرق العربي غير موجود أصلاً، وإن وجد فالولايات المتحدة لم تكن حاضرة لا في اتفاقية سايكس بيكو ولا في لبنان الكبير ولا حتى باغتصاب فلسطين. لقد قررت الحركة القومية مواجهة نسخة من الاستعمار تخلى عنها أصحابها وأسسوا على أنقاضها، وبناء على نتائج الحرب العالمية الثانية، نسخة جديدة قوامها السيطرة بالاقتصاد لا بالاحتلال، فبدت الحركة القومية كأنها تقاتل طواحين الهواء، ولم يكن "لبنان الكبير" الوحيد الذي دفع ثمن هذا الفهم المغلوط لأحداث التاريخ.
بدأت أوروبا الرأسمالية تاريخها الدموي فانخرطت في ثلاثة أنواع من الحروب، النوع الأول صراعات على السيطرة بين القوميات الأوروبية، والثاني تنافس على الاستثمار الرأسمالي خارج القارة، والثالث استباق الثورات وحركات التمرد الداخلية بحرب خارج الحدود القومية للدول، ولم توقف مسارها الدموي هذا إلا بعد حربين عالميتين، من أهم نتائجهما إعلان نهاية الاستعمار المباشر للعالم عن طريق الاحتلال، وتدشين مرحلة جديدة من التنافس على السيطرة الاقتصادية.
كل هذه الحروب الدموية كانت بمثابة "عدوان" شعاراته الأولى هي تلك التي رفعتها الثورة الفرنسية وسعت إلى تعميمها بالعنف على كل أوروبا. تلك كانت الحروب الأولى للرأسمالية، خاضتها فرنسا وحيدة ضد بلدان القارة في البداية، ثم خاضتها القارة كلها خارج حدودها في مرحلة التوسع الأفقي للرأسمالية. من هنا يمكن القول إن الرأسمالية لم تخض حروبها، في المرحلة الأولى، لا ضد الشرق ولا ضد العروبة ولا ضد الإسلام، بل ضد الحضارات السابقة عليها، والدليل على ذلك أن الحروب الأولى انحصرت بين أبناء الديانة المسيحية، وأن الحربين العالميتين هما من فعل أمبراطوريات القارة ودولها القومية. الحضور الأوروبي إلى المشرق العربي في مرحلة الانتداب، إن عُدّ اجتياحاً واحتلالاً، فهو جزء من التوسع الأفقي للرأسمالية الذي لا يمكن أن يتحقق من دون إدارة محلية حديثة لكيانات سياسية مستحدثة تحمل إسم الأوطان وتديرها الدولة.
رابعاً : الدولة، المصطلح الأكثر التباساً
الحروب في مرحلة الحضارة الإقطاعية اتخذت شكل الغزو، لكنه غزو مقيم، خلافاً للغزو القديم الذي كان يغير وينهب وينسحب. الحضارات تتمدد وتتسع ضمن مدى محدود في الزمان والمكان. تلك كانت حالة الحضارات القديمة الرومانية واليونانية والفارسية والعربية وسواها. أما الحضارة الرأسمالية فقد تميزت عن سابقاتها بكونها حضارة كونية، من أهم إنجازاتها وصل أجزاء العالم كله بعضها بالبعض الآخرعبر شبكة من وسائل الاتصال والتواصل البري والبحري والرقمي، لكي يتيسر لرؤوس الأموال الاستثمار في كل قطاعات الانتاج المادي والثقافي والفني، في الصناعة والتجارة والزراعة. لذلك بدا الانتقال من نمط إنتاج إقطاعي إلى نمط إنتاج رأسمالي متلازماً مع حاجة الرأسمالية إلى أطر سياسية جديدة، الوطن والدولة الحديثة بدل الولاية أو المقاطعة والمملكة أو السلطنة.
الوطن والدولة مصطلحان جديدان على اللغة العربية وعلى القاموس السياسي. مع انهيار السلطنة العثمانية قفز العقل السياسي العربي فوق الأسئلة الحقيقية، بل إنه قمعها حين عاقب علي عبد الرازق ومنع كتابه الإسلام وأصول الحكم وكتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي، ووجه اهتمامه بالبحث عن خليفة وعن مقر للخلافة، الشريف حسين وأولاده من جهة والخديوي من جهة أخرى، كما كان هاجس الحركة القومية البحث عن سلطة لا عن دولة. أما الأمة في الرأسمالية فهي غيرها في اللغة القرآنية، وهو ما ضاعف من حجم الالتباسات في التعامل مع مصطلحي الوطن والدولة، إلى الحد الذي صارا معها يمثلان عدواناً على الأمة، لأن الأوطان في نظر العقل السياسي العربي رمز للتجزئة والدولة الحديثة تقليد للغرب على حساب التقاليد السياسية السلطانية.
هذا الانزياح عن سكة التفسير الصحيح لتحولات مطلع القرن العشرين في المشرق العربي، أخفى المضمون الحقيقي لمشروع الحضارة الرأسمالية، وأبرز الوجه البشع منها وهو وجه السيطرة والعنف واستغلال الإنسان للإنسان إلى حد استعباده، وهذا كله صحيح. غير أن ملامح البشاعة والوحشية هذه ليست حكراً على حضارة بعينها، فالرأسمالية ورثتها كلها من الحضارات السابقة عليها وألبستها حلة مختلفة من حيث المظهر فحسب.
أحد وجوه الرأسمالية هو الاستعمار. هذا صحيح، غير أن لكل حضارة حلوها ومرها. الحضارات السابقة لجأت إلى الغزو وشنت الحروب من أجل الغنائم، وفرض الحكام الأتاوات ليشيدوا قصوراً ضخمة تتسع لجواريهم وللخدم و معابد تليق بالمؤمنين والأتباع. قصر الحمراء في الأندلس وكنيسة- مسجد أياصوفيا في اسطنبول- القسطنطينية وهولاكو وإحراق مكتبات بغداد والأثار الرومانية الضخمة في لبنان والأردن والأهرامات وقناة السويس التي كلفت مصر عشرات آلاف الضحايا، وسواها من الآثار، من أجلها بذل البشر العرق والدم وقدموا القرابين على مذابح الحكام ونزواتهم لتدخل أسماؤهم في سجلات الخلود.
الذين قرروا، في المشرق العربي، المواجهة مع الاستعمار، حاربوا، في العلن، الوجه السياسي للرأسمالية فيما راحوا يغازلون وجهها الاقتصادي سرّاً، ليستفيدوا من إنجازات أخفوها عن أعين جمهورهم بغشاوة من الكره والحقد ضد الغرب والرأسمالية وضد إنجازاتها السياسية متمثلة بالوطن والدولة وسيادة القانون والديمقراطية، وخصوصاً ضد الصيغة التي اقترحتها لحل مشكلة التنوع والتعدد في المجتع.
من نافل القول إن الرأسمالية حضارة. غير أن الماركسيين لم يقرأوا قول ماركس وإنغلز في البيان الشيوعي، حيث أشارا بوضوح إلى أن "البرجوازية قادرة على جر الجميع، حتى الأمم الأكثر بربرية، إلى حلبة الحضارة" وإلى أنها ثورة تقدمية قضت على نمط الإنتاج القديم ودفعت البشرية إلى عصر الوفرة والبحبوحة والاكتشافات العلمية، وما كان لها أن تحقق ذلك لولا نزوع إلى التوسع لا يحسب من الأعراض الجانبية بل هو من صميم آليات عملها.
القوى السياسية المحلية واجهت المثالب وشوهت الإنجازات، ولا سيما منها ما يتعلق بالديمقراطية وإدارة التنوع . فبالرغم من أن الدستور اللبناني لا ينص على دين الدولة، مثلما هي حال الدساتير في بلدان العالم العربي، إلا أنه يتضمن أشارات إلى بقايا النزاعات التي شهدتها الولايات اللبنانية قبل قيام الجمهورية، ومن تلك البقايا تسللت المفردات المتحدرة من نظام الملل العثماني. لقد اقترحت الحضارة الرأسمالية حلا يقضي بتنظيم التنوع واحتوائه من جانب الدولة تحت سقف الدستور الذي ينص على أن المواطنين متساوون أمام القانون على اختلاف انتماءاتهم الدينية والفكرية والعرقية وغيرها، غير أن القوى السياسية المحلية آثرت العمل بمنطق المصالح الشخصية لا بمنطق الدولة والدستور والقانون، فاستعارت من تجربة نظام الملل إحدى مفردات نظام المحاصصة الاقتصادي( مزارعة ومقاسمة ومساقاة ومرابعة ومخامسة) وحقنتها بدلالة سياسية، فجعلت للطوائف في الجمهورية اللبنانية حصصاً تشبه تلك التي كانت للملل أيام السلطنة، وما لبث ممثلو الطوائف في السلطة السياسية أن صادروها وجعلوها بمثابة حق شخصي لكل ممثل باسم طائفته، فشاع في اللغة السياسية مصطلح دخيل وغريب على لغة الدستور، اختبأ خلفه المحاصصون ليعملوا على تفجير التنوع بدل أن يعملوا على تنظيمه تحت سقف الدستور.(راجع الفصل الطويل حول الموضوع في كتابنا، أحزاب الله).
الخلاصة: هل نحل المشكلة النظرية إن اعتمدنا الشق الثاني من فرضيتنا، أي معيار الدولة؟ نزعم أن من شأن ذلك أن يشكل ضمانة لوضع التحليل على سكته الصحيحة. أما ضمانة التطبيق فأمر مرهون بعوامل أخرى.
معيار الدولة يحل مشكلة التاريخ الموحد. تاريخ لبنان يبدأ إذن مع إعلان الدستور عام 1926 ويقاس سلوك القوى السياسية بمقدار مساهمتها في تطبيق الدستور واحترام القوانين. ما قبل الدستور ليس تاريخ الجمهورية بل تاريخ الولايات. نقرأ تاريخ الجمهورية بعين المفاهيم الدستورية المتعلقة بالوطن والدولة والسيادة، أما تاريخ الولايات فمتروك للمفاهيم والمصطلحات التي كان سائدة في ظل الدولة السلطانية أو الدولة الاستبدادية، أي قبل نشوء الأوطان والدولة العصرية، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص، دولة الفصل بين السلطات والديمقراطية وتداول السلطة، الدولة التي تمارس سيادة القانون على حدودها وداخل حدودها من غير أن ينازعها أحد.
عن هذه الدولة لا عن سواها يقول عبد الإله بلقزيز: ربما كانت الدولة أعظم اختراع انساني في التاريخ، إذ لولا الدولة لكانت الحياة الاجتماعية جحيماً لا يطاق... وقد لا يعرف قيمة الدولة إلا من عاش تجربة غيابها في المجتمعات المنغمسة في حروب أهلية... على الدولة أن تحتكر العنف وألا يشاركها في ممارسته أحد، وإلا انتقل العنف من حيز الدولة إلى حيز المجتمع واتخذ شكل عنف أهلي أو حرب أهلية."(الدولة والمجتمع، جدليات التوحد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر، والكاتب يستعرض هذه الحالات من حيث المبدأ، لكنه يقصد الوضع اللبناني بالتحديد والتسمية. راجع الفصل المتعلق بمصطلح الدولة في كتابنا، أحزاب الله).
معيار الدولة يستبعد نوعين من الكتابات عن تاريخ لبنان، النوع الأول أسير المفاهيم عن دولة الاستبداد السلطانية والثاني أسير المفاهيم الميليشيوية والعدوان على سيادة الدولة. ليس هناك ما يمنع صانعي الحروب الأهلية والمشاركين فيها من كتابة تاريخهم، فهم لا يكتبون سوى عدوانهم على الدولة، ولا ما يمنع المتحدرين من عقل الولاية، فهم لا يكتبون سوى قصورهم عن فهم معنى الدولة.
تاريخ المئوية هو تاريخ الدولة والجمهورية اللبنانية. كل ما عداه هو إما سابق على الجمهورية أو عدوان على الدولة وعلى الجمهورية.