القصور الفكري مرض عضال في الحركة الشيوعية


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 6733 - 2020 / 11 / 15 - 02:48
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

كيف لا يُسستهجن مثل هذا العنوان الإدعاء !!؟ يدعي العنوان أن الحركة الشيوعية التي تأسست على الماركسية وهي أهم اكتشاف علمي في تاريخ البشرية حيث اكتشفت القانون العام للحركة في الطبيعة "المادية الديالكتيكية" ، هذه الحركة تعاني من مرض عضال وهو القصور الفكري !! من المعروف تماماً أن الحركة الشيوعية بدأت بإعلان كارل ماركس وفردريك إنجلز البيان الشيوعي (Communist Manifesto) في يناير 1848 . عصف البيان الشيوعي وما رافقه من نقد ماركس للإقتصاد السياسي في ثورة فكرية عبقرية استولت على عقول كبار الكتاب والمفكرين إن تأييداً أو معارضة . مقابل مثل هذه العبقرية الفكرية التي أسست للحركة الشيوعية لا بدّ أن يبرز نقيضها وهو القصور الفكري بذات القوة والإتجاه المعاكس في الحركة الشيوعية نفسها بحكم قوانين الديالكتيك . فبمقدار ما تنعكس عبقرية النظرية الماركسية في حيوية الحركة الشيوعية وقوة اندفاعها على مسار التقدم بمقدار ما ينعكس القصور الفكري في استيعاب الماركسية بضعف الحركة الشيوعية وتهالكها حتى الحدود التي تسمح لأعداء الشيوعية بالإدعاء بموت الشيوعية والزعم بأن الثورة الإشتراكية البلشفية وقعت في غير مكانها وغير زمانها وكثيرون من الشيوعيين سابقاً يتبنون مثل هذه المزاعم .

ما ينبغي التسليم به مقدماً هو أن الحركة الشيوعية لم تصل إلى ما وصلت إليه اليوم من تفكك وتهالك إلا بسبب قصور قكري عانت منه عبر تاريخها الطويل الممتد لأكثر من 170 عاماً .
قبل الشروع في تقصّي القصور الفكري التاريخي في الحركة الشيوعية يلزم التوقف في محطة ذات اعتبار خاص حيث هناك النظرية الماركسية، نظرية الحياة وهي التجلي الأرقى لحركة الطبيعة وبمقدار ما هي الحياة البشرية بشكل خاص معقدة فالماركسية لا تتكامل إلا معقدة بالمثل . ولذلك يصعب على العمال وقادتهم، والماركسية بطبيعتها تخصهم دون غيرهم، كما يصعب على غير المتخصص الإحاطة بالماركسية بالإضافة إلى تكريس كل مواهبه ومقدراته في الحرب على أعداء البروليتاريا ودولتها الدكتاتورية .

حال التفكك والتراجع السائدان في الحركة الشوعية العالمية اليوم يستدعيان تقصي تاريخهما المتمثل بالقصور الفكري في الإحاطة بالماركسية قبل كل شيء آخر .
تبدّى القصور الفكري في الحركة الشيوعية لأول مرة في هزيمة كومونة باريس 1871 وهو ما انعكس إحباطا على ماركس وجعله يقرر حل الأممية الأولى (1864 – 1876) ليتخلص من الفوضويين بقيادة ميخائيل باكونين وقد أساءوا والبلانكيون المواجهة في الدفاع عن الكومونة . القصور الفكري بين صفوف الطبقة العاملة جعل ماركس يعتزل العمل السياسي بعدئذٍ حتى وفاته في مارس 1883 .
فردريك إنجلز الشريك المؤسس للحركة الشيوعية لم يقم بأي عمل سياسي خلال السنوات الست التالية لرحيل ماركس وكان ذلك بالطبع بسبب القصور الفكري لدى جماهير العمال في أوروبا . في العام 1889 فقط لاحظ إنجلز أن عددا من الأحزاب الوازنة التي ترفع شعار الاشتراكية تشكلت في عدد من الدول الأوروبية فدعا إلى تشكيل الأممية الثانية لتكون المسؤولة عن قيادة الحركة الشيوعية . الموت لم يمهل إنجلز طويلاً كي يترك أثرا في الأممية الثانية فرحل في العام 1894 ليخلفه في قيادة الأممية كارل كاوتسكي قائد ومؤسس الحزب الإشتراكي الديموقراطي في ألمانيا . قراءتي التاريخية لهذا الحزب تقول أن الحزب الإشتراكي الديموقراطي بقيادة كاوتسكي لم يتشكل أصلاً ليقيم الاشتراكية في ألمانيا بل ليحول دون ذلك ؛ كان هذا الحزب طيلة تاريخه الطويل موئل الخيانة للطبقة العاملة . شارك في تحطيم الحمهورية السوفياتية في بافاريا 1919 ودفع من الخلف لاغتيال قائدي البروليتاريا الشهيرين روزا لكسمبورغ وكارل لبكنخت في يناير 1919، وقاد السلطة في تجطيم انتفاضة الشيوعيين في العام 1923، وقاد جمهورية فيمار معاديا للشيوعيين توطئة لتسليم السلطة لأدولف هتلر .
في نهاية القرن التاسع عشر برز الوارث الحقيق لماركس وإنجلز وهو فلاديمير إيليتش لينين وكان أن انجذب إليه معظم أعضاء الحزب، حزب العمال الإشتراكي الديموقراطي في روسيا ووصفوا بـ "البلاشفة" .
لئن تمثلت فرادة ماركس في اكتشاف القانون العام للحركة في الطبيعة (المادية الديالكتيكية) والذي يقضي بنهاية المجتمعات الطبقية في حياة البشرية جمعاء والوصول إلى المجتمع اللاطبقي "الشيوعي" حيث يتلاشى الصراع الطبقي وينتهي التاريخ، فإن فرادة لينين بالمقابل تمثلت بكونه الوحيد الذي قرأ الماركسية قراءة صحيحة ونقل البشرية فعلا إلى مسار الشيوعية حيث تركن البشرية الآن بالرغم من كل ظواهر القصور السائدة اليوم وأولها ظاهرة القصور الفكري .
بدأ لينين نشاطه الفكري في مقاومة العناصر القاصرة فكريا في حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي في روسيا (الشيوعي فيما بعد) المتمثلة بالمناشفلة في المؤتمر الثاني للحزب في لندن في العام 1903 . حياة لينين الفكرية خلال السنوات العشرين التالية قبل نهاية عمره القصير في يناير 1924 لم تنفك عن نبض قلبه ولو لساعة واحدة، ولا تدانيها أية حياة فكرية لأي مفكر آخر، تمثلت في مقاومة الأفكار المجانبة للماركسية من قبل المناشفة بقيادة مارتوف وبليخانوف أو زعماء الأممية الثانية وعلى رأسهم كارل كاوتسكي مما اضطره إلى الخروج من الأممية الثانية بعد أن قررت في اجتماعها العام في بازل 1912 التخلي عن قرارها الذي كان لينين قد اقترحه في مؤتمرها في شتوتغارت 1907 والقاضي باستيلاء الأحزاب الاشتراكية على السلطة في حالة انفجار حرب استعمارية بين الدول الرأسمالية في أوروبا من أجل استعادة السلم لشعوب البلدان المتحاربة . في مؤتمر بازل سمحت الأممية الثانية للأحزاب الإشتراكية الإشتراك في الحرب دفاعاً عن الوطن (!!) ؛ انسحب البلاشفة من الأممية وتركوا خلفهم المناشفة . في السنوات الخمس التالية اشتغل لينين بمقاومة زعماء الأممية الثانية ومنهم "التصفويون" بقيادة تروتسكي .
من تجليات القصور الفكري حتى بين صفوف البلاشفة هو أن كامل أعضاء اللجنة المركزية للحزب عارضوا موضوعات نيسان حيث دعا لينين البلاشفة للإستيلاء على السلطة ودحر طبقة البورجوازية "الهشة" غير القادرة على تحقيق أول أهداف ثورتها في فبراير 1917 وهو الإنسحاب من الحرب وقد باتت روسيا القيصرية في خطر التفكك والإنحلال تحت أقدام المحتلين، غارضوا لينين بالرغم من أن الأممية الثانية كانت في مؤتمرها العام في بازل 1912 قد دعت الاشتراكيين الروس للقيام بالثورة البورجوازية نيابة عن البورجوازية الروسية هشة البنية .
في 16 أكتوبر 1917 اجتمعت اللجنة المركزية بقيادة لينين وقررت التحصير للقيام بانتفاضة من أجل الإستيلاء على السلطة والخروج من الحرب التي أخذت تهدد وجود روسيا وعينت لجنة خماسية لقيادة الإنتفاضة كان منهم سفردلوف وستالين ودجرجانسكي وكان أن أفشى سر القرار إلى البوليس عضوا اللجنة المركزية كامينيف وزينوفييف المعترضان على القرار مما اقتضى اختفاء لينين حتى عشية الانتفاضة في 25 أكتوبر .
في مارس 1918 عاد وزير الخارجية تروتسكي من برست لوتوفسك رافضاً توقيع معاهدة السلام مع ألمانيا ويشن حملة شعواء على لينين واتهامه بالعمالة لإمبراطور ألمانيا مستهدفاً إسقاطه ليحل محله – ذلك ما انتهى إلى قيام تآلف يضم مختلف القوى الرجعية في روسيا ويبدأ حرب إبادة على البلاشفة لنفس الحجة التي كان تروتسكي أول من طرحها.

(يتبع)