رأس المال: الفصل العشرون (75) الفوارق الوطنية في الأجور


كارل ماركس
الحوار المتمدن - العدد: 6731 - 2020 / 11 / 13 - 09:41
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


کرّسنا الفصل الخامس عشر لدراسة التراكيب المتعددة التي يمكن لها أن تحدث تغيراً في مقدار القيمة المطلقة أو النسبية (بالمقارنة مع فائض القيمة) لقوة العمل ووجدنا أن كمية وسائل العيش التي يتحقق فيها سعر قوة العمل يمكن أن تتعرض لتقلبات مستقلة، أو مختلفة، عن تغيرات هذا السعر (1). وكما أشرنا آنفا، فإن الترجمة البسيطة، لقيمة قوة العمل، أو سعر قوة العمل في الشكل الظاهر للأجور، يجعل جميع هذه القوانين المشار إليها في الفصل المذكور، قوانين لتقلبات الأجور. وما يتبدى في حدود تقلبات الأجور هذه داخل بلد واحد بوصفه سلسلة تراكيب متغيرة، قد يتبدى في بلدان شتی بوصفه فارقاً متزامناً في الأجور الوطنية. وعليه فإن المقارنة بين أجور مختلف البلدان، تقتضي أن نأخذ في الحسبان جميع العوامل التي تقرر التغيرات في مقدار قيمة قوة العمل، كسعر وحجم وسائل العيش الأساسية، كما تطورت طبيعية وتاريخية، وكلفة تدريب العمال، والدور الذي يلعبه عمل النساء والأطفال، وإنتاجية العمل، ومقدار شدته ومدته. بل إن أشد المقارنات سطحية تقتضي، بادئ ذي بدء، اختزال متوسط الأجور اليومية لنفس المهن، في مختلف البلدان، إلى يوم عمل ذي طول واحد. بعد هذا الاختزال لتوحيد الجميع بمعيار واحد هو الأجور اليومية، تنبغي ترجمة الأجور بالوقت إلى الأجور بالقطعة، لأن هذه الأخيرة هي المعيار الوحيد لقياس درجة إنتاجية العمل ومقدار شدته.

ثمة شدة وسطية معينة من العمل في كل بلد من البلدان، فإن كانت أدنى من ذلك لزم العمل في إنتاج سلعة ما، مدة أطول من الوقت الضروري اجتماعياً في هذا البلد، ولذلك لا يعتبر هذا العمل ذا نوعية عادية. إن درجة الشدة التي تفوق المتوسط الوطني هي وحدها التي تغير، في بلد معين، قياس القيمة بأمد وقت العمل حصراً. لكن الحال خلاف ذلك في السوق العالمية التي تتشكل أجزاؤها من بلدان منفردة. فشدة العمل الوسطية تتباين من بلد لآخر؛ فهي هنا أكبر، وهناك أقل. وإن هذه المعدلات الوسطية الوطنية تشكل سلماً متدرجاً، وإن وحدة القياس هي الوحدة الوسطية للعمل الشامل. وعليه كلما تنامت شدة العمل الوطني أكبر، بالمقارنة مع عمل وطني أقل شدة، أنتج خلال نفس المدة، قيمة أكبر تعبر عن نفسها في كمية أكبر من النقد.

وعند تطبيق قانون القيمة على النطاق العالمي فإنه يتعرض إلى مزيد من التحوير، وذلك لأن العمل الوطني الأكثر إنتاجية يحسب، في السوق العالمية، باعتباره عملا أكثر شدة، طالما لم يكن البلد الأكثر إنتاجية مرغماً، بفعل المنافسة، على خفض سعر بيع سلعه إلى مستوى قيمتها.

وبمقدار ما يتطور الإنتاج الرأسمالي قدما في بلد من البلدان، فإن شدة العمل الوطني وإنتاجيته تتجاوزان المستوى العالمي بالقدر نفسه (2). ولذا فإن كميات مختلفة لسلع من ذات الصنف يجري إنتاجها خلال وقت عمل واحد في بلدان مختلفة تكون ذات قیم عالمية غير متساوية، تعبر عن نفسها في أسعار مختلفة، أي في مبالغ من النقد تتباین بتباين القيم العالمية. وهكذا فإن القيمة النسبية للنقد، في البلد الذي يكون فيه نمط الإنتاج الرأسمالي أكثر تطوراً، ستكون أوطأ من قيمته النسبية في البلد الأقل تطوراً. يترتب على ذلك أن الأجور الإسمية، المعادلة لقوة العمل معبراً عنها بالنقود، ستكون في البلد الأول أعلى مما في البلد الثاني؛ إلا أن ذلك لا يعني بأي حال أن ذلك ينطبق على الأجور الفعلية، ونعني بذلك وسائل العيش المتاحة للعامل.

ولكننا كثيرا ما نجد، حتى بمعزل عن هذه الفوارق النسبية في قيمة النقد بين مختلف البلدان، أن الأجور اليومية أو الأسبوعية، إلخ، في البلد الأول أعلى مما في الثاني، في حين أن السعر النسبي للعمل، أي سعر العمل مقارنة بكل من فائض القيمة وقيمة المنتوج، يكون في البلد الثاني أعلى مما في البلد الأول (3).

لقد توصل ج. و. کاویل، عضو لجنة التحقيق في أوضاع المصانع لعام 1833، بعد تحريات دقيقة لصناعة الغزل، إلى الاستنتاج التالي

“إن الأجور في إنكلترا بالمقارنة مع القارة الأوروبية أوطأ عملياً بالنسبة إلى أصحاب المصانع، رغم أنها قد تكون أعلى بالنسبة إلى العمال”. (أور، فلسفة المانيفاکتورات، ص314).
ويبرهن مفتش المصانع الإنكليزي، الكسندر ريدغريف، في تقريره المؤرخ 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1866، مستنداً إلى مقارنات احصائية بين إنكلترا ودول القارة، على أن العمل في القارة بالرغم من أجوره الأوطأ ووقت عمله الأطول جدا هو، من ناحية نسبته إلى المنتوج، أغلى سعراً من العمل الإنكليزي. ويعلن أحد المدراء الإنكليز (manager) المصنع للقطن في أولدنبورغ، أن وقت العمل يدوم هناك يومياً من 05:30 صباحا إلى 08:00 مساء، بما في ذلك أيام السبت، وأن العمال هناك، حين يعملون تحت اشراف مراقبي العمل الإنكليز، لا ينتجون خلال هذه المدة مقدار ما يقدمه العمال الإنكليز في 10 ساعات، أما إذا كان مراقبو العمل ألماناً، فالمنتوج أقل بكثير. وإن الأجور هناك أدنى بكثير مما في إنكلترا، بنسبة 50% في كثير من الأحوال، إلا أن عدد العمال كبير بالنسبة إلى عدد الآلات، وفي بعض الأقسام يبلغ التناسب 03:5 ويقدم السيد ريدغريف تفاصيل (details) دقيقة حول مصانع القطن الروسية، وقد زوده بالمعطيات مدير (manager) إنكليزي كان يعمل هناك حتى فترة قريبة. إن الفظائع القديمة التي لازمت الأيام الخوالي للمصانع (factories) الإنكليزية لا تزال في ذراها على الأرض الروسية الزاهرة بكل أنواع الشرور البغيضة. فمدراء المصانع هم، بالطبع، إنكليز، نظرا لأن الرأسمالي الروسي المحلي لا يصلح لشؤون الإدارة الصناعية. ورغم العمل المفرط المتواصل ليل نهار، وبشاعة ضالة أجور العمال، فإن الصناعة الروسية لا تبقى على قيد الحياة إلا بفضل حظر المنافسة الأجنبية، وأقدم، في الختام، جدول مقارنات أعده السيد ريدغريف عن العدد الوسطي للمنازل بالنسبة لكل مصنع وكل غازل في مختلف بلدان أوروبا. ويشير السيد ريدغريف، نفسه، بأنه قد جمع هذه الأرقام قبل بضع سنوات، وأن حجم المصانع وعدد المغازل بالنسبة للعامل قد اتسعا في إنكلترا منذ ذلك الحين. لكن ريدغريف يفترض، أنه قد حصل تقدم مماثل في بلدان القارة المذكورة، بحيث أن الأرقام الواردة ما تزال تحتفظ بقيمتها لأغراض المقارنة.

متوسط عدد المنازل في المصنع الواحد

انكلترا 12,600
سويسرا 8000
النمسا 7000
سكسونيا 4500
بلجيكا 4000
فرنسا 1500
بروسيا 1500


متوسط عدد المنازل بالنسبة للعامل الواحد


فرنسا 14
روسيا 28
بروسيا 37
بافاريا 46
النمسا 49
بلجيكا 50
سكسونيا 50
الدويلات الألمانية الصغيرة 55
سويسرا 55
بريطانيا العظمى 74




ويقول السيد ريدغريف “إن هذه المقارنة أكثر سلبية لبريطانيا العظمی بصرف النظر عن الملابسات الأخرى، نظرا لوجود عدد كبير جدا من المصانع التي تستخدم الآلات لنسج الأقمشة إلى جانب غزل الخيوط، في حين أن الجدول لا يحذف إطلاقا عدد الناجين. أما المصانع الأجنبية فإن أغلبيتها، بالعكس، مصانع غزول بالدرجة الرئيسية. ولو كان بوسعي مقارنة الشيء بشبيهه التام، لذكرت العديد من مصانع غزل القطن في منطقتي، حيث يقوم رجل واحد (مشغل minder) بتشغيل آلة تحتوي على 2200 مغزل، تساعده في ذلك عاملتان فقط، وينتج يوميا 220 باونا من خيوط الغزل يصل طولها إلى 400 میل” (إنكليزي). (تقاریر مفتشي المصانع، 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1866، ص 31-37 وما يليها).
ومن المعروف أن الشركات الإنكليزية تضطلع ببناء خطوط سكك حديد في أوروبا الشرقية وآسيا، وتستخدم، في بنائها، عدداً معينة من العمال الإنكليز إلى جانب العمال المحليين. لذلك اضطرت، تحت وقع الضرورات العملية، إلى أن تأخذ في الحسبان الفوارق الوطنية في شدة العمل، إلا أن ذلك لم يلحق بها أيما خسارة. وتبين تجربة هذه الشركات أنه حتى لو كان مستوى الأجور يطابق، بهذا القدر أو ذاك، متوسط شدة العمل، فإن السعر النسبي للعمل (أي سعر العمل نسبة إلى المنتوج يتباین، عموما، تبايناً عكسياً تماما.

ويحاول هـ. کیري، في مؤلفه «بحث في معدل الأجور»(4)، وهو واحد من مؤلفاته الاقتصادية المبكرة، أن يبرهن أن الأجور في مختلف البلدان تتناسب طرديا مع درجة إنتاجية يوم العمل الوطني، وذلك بغية أن يستخلص من هذا التناسب العالمي، استنتاجا يفيد أن الأجور ترتفع وتهبط، عموما، بارتفاع وهبوط إنتاجية العمل. إن مجمل تحليلنا لإنتاج فائض القيمة يبين أن هذا الاستنتاج فارغ حتى لو تسنّى لكيري إثبات فرضيته، عوض أن يقلب يمنة ويسرة ركام خليط من مواد احصائية، بأسلوبه السطحي المألوف، الخالي من مَلَكة النقد. ولعل خير ما عنده أنه لا يصر على أن الأشياء القائمة فعلا هي كما ينبغي أن تكون عليه حسب نظريته. فإن تدخل الدولة يشوه هذه العلاقات الاقتصادية الطبيعية. لذا فإن الأجور الوطنية ينبغي أن تحسب كما لو أن ذلك الجزء منها الذي يذهب للدولة بشكل ضرائب، إنما يذهب إلى العامل نفسه. أليس حرياً بالسيد كيري أن يفكر فيما إذا كانت نفقات الدولة، هي “الثمرة الطبيعية” للتطور الرأسمالي أم لا؟ إن القول المذكور أعلاه لجدیر تماماً بشخص أعلن، في البدء، إن علاقات الإنتاج الرأسمالية هي قوانین سرمدية للطبيعة والعقل، وإن تدخل الدولة يعكر فقط فعلها المنسجم الحر، ليكتشف بعد ذلك أن التأثير الجهنمي الذي تمارسه إنكلترا على السوق العالمية – إن هذا التأثير، الذي لا ينجم، على ما يبدو، من القوانين الطبيعية للإنتاج الرأسمالي – يحتم ضرورة تدخل الدولة أي حماية الدولة القوانين الطبيعة والعقل، هذه، [أو] alias يحتم نظام الحماية. ثم اكتشف بعد ذلك أن نظریات ریکاردو وغيره، التي صاغت التضادات والتناقضات الاجتماعية القائمة، ليست النتاج الفكري لحركة العلاقات الاقتصادية الواقعية، بل، على العكس من ذلك، إن التناقضات الفعلية التي يحفل بها الإنتاج الرأسمالي في إنكلترا وغيرها هي نتيجة لنظرية ريكاردو والآخرين! واكتشف أخيراً أن التجارة، هي ما يدمر، في آخر المطاف، الانسجام والجمال الفطريين الماثلين في نمط الإنتاج الرأسمالي. ولم يبق إلا خطوة واحدة في هذا الاتجاه لاكتشاف أن الشر الوحيد في الإنتاج الرأسمالي هو رأس المال نفسه. إن رجلا يمثل هذا الافتقار المريع لأية ملكة نقدية، وبمثل هذه المعرفة الموسوعية ذات المحتوى الزائف (faux aloi)، هو وحده من يستحق أن يغدو، رغم هرطقته بصدد الحماية الجمركية، المنبع السري للحكمة المنسجمة عند رجل من أمثال باستيا، وجميع المتفائلين الآخرين – أنصار التجارة الحرة الحاليين.

____________

(1) “ليس من الدقة بشيء القول إن الأجور (يقصد المؤلف، هنا، التعبير النقدي عن الأجور) تزداد لأنها تشتري كمية أكبر من مادة أرخص”. (ديفيد بوکانن David Buchanan في طبعته لمؤلف آدم سميث: ثروة الأمم، 1814، المجلد الأول، ص 417، الحاشية).
(2) سنبحث في موضع آخر الظروف التي يمكن لها أن تحور تأثير هذا القانون على إنتاجية العمل في فروع صناعية معينة.
(3) يقول جيمس أندرسون في سجاله مع آدم سميث: “ومما يستحق الإشارة، بالمثل، أنه على الرغم من أن السعر الظاهري للعمل هو، عادة، أدنى في البلدان الفقيرة، حيث تكون غلة الأرض، والقمح بوجه عام، رخيصة الثمن، مع ذلك فإن هذا السعر الفعلي للعمل هناك هو أعلى مما في بلدان أخرى، في الغالب. وذلك لأن ما يؤلف السعر الفعلي للعمل ليس الأجور اليومية المدفوعة للعامل، رغم أن هذه الأجور في السعر الظاهري. ذلك أن السعر الفعلي هو الكلفة التي يتحملها رب العمل في الواقع لقاء كمية معينة من المنتوج الجاهز، وإذا نظرنا إلى العمل في هذا الضوء فإن العمل في البلدان الغنية أرخص مما في البلدان الفقيرة، في كل الأحوال تقريبا، رغم أن سعر القمح وغيره من المواد الغذائية، في البلدان الفقيرة أقل مما في الغنية عادة… إن العمل مقدراً بأجوره اليومية، أدنى بكثير في اسكتلندا منه في إنكلترا … أما العمل بالقطعة فإنه في إنكلترا أرخص، بوجه عام. (جیمس أندرسون، ملاحظات حول وسائل إثارة روح الصناعة الوطنية، إلخ. إدنبره، 1777، ص 350-351).
وعلى العكس، فإن قلة الأجور تجعل، بدورها، العمل غالياً. إن كون العمل أغلى في إيرلندا، مما في إنكلترا … يرجع إلى أن الأجور فيها أدنى بكثير.. اللجنة الملكية حول سكك الحديد، 1867، محضر رقم 2074).
(Royal Commission on Railways, Minutes, 1867, No. 2074).
(4) [ه. كيري]، بحث في معدل الأجور: مع دراسة أسباب الاختلافات بين أوضاع السكان العاملين في ارجاء العالم، فیلادلفیا، 1835.