النمط الياباني من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (1)


عبدالله تركماني
الحوار المتمدن - العدد: 6724 - 2020 / 11 / 5 - 21:25
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

النمط الياباني من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث
شهد التاريخ الياباني عدة محاولات توحيد المقاطعات اليابانية منذ أواخر القرن السادس عشر، وكان من أبرزها ما قام به الشوغون أُبو نوبوناغا Obu Nobunaga (1532-1582) (1)، الذي تولى الحكم عام 1568، بعد أن دخل كيوتو Kyoto عاصمة الأباطرة اليابانيين، معلناً عزمه على توحيد جميع المقاطعات اليابانية في دولة مركزية واحدة. وقد شهدت سنوات حكمه (1568-1582) أول محاولة لضرب التشتت الإداري القديم وضم المقاطعات اليابانية بواسطة القوة العسكرية، ونجح في إخضاع 32 مقاطعة من أصل 68 كانت موزّعة في كامل اليابان. إلا أنّ ما يؤخذ عليه: " غياب أي مشروع سياسي مرافق لعملية التوحيد، بل استخدام القوة للضم وإلحاق الدايميو الضعفاء بالشوغون القوي "(2).
وتابع خلفه الشوغون هيديو شي Hideyoshi خطواته الوحدوية، ومنذ العام 1587 تسارعت خطى توحيد المقاطعات اليابانية، حيث خضع للسلطة المركزية بعض الدايميو الأقوياء في غربي اليابان. وعندما توفي في عام 1598، ترك مجلس قيادة من خمسة أشخاص، وكان أشدهم قوة إياسو توكوغاوا Tokugawaالذي تفرّد بالحكم، وتوارثت أسرته الحكم من بعده الى سنة 1867، وفي ظل القادة الأقوياء من هذه الأسرة خضع الدايميوDaymios (3) إلى شوغون واحد، وبلغ عددهم في أواخر عهد أسرة توكوغاوا 265 دايميو. وبذلك، تعزّز دور السلطة المركزية، وضعفت قوى التجزئة المحلية من حكام المقاطعات. وهكذا، فإنّ اليابان كانت في أواخر القرن الثامن عشر قد خطت خطوات واسعة نحو ترسيخ وحدتها القومية وسلطتها المركزية، وقد لعبت طبقة الساموراي دوراً أساسياً في تحقيق تلك الخطوات.
وفي الحقيقة، لم يكن للأباطرة اليابانيين دور مهم في الحياة السياسية، طوال الفترة (1611-1868)، فسلطتهم كانت شكلية، بينما لعبت طبقة الساموراي (4)، وخاصة فئتها العليا الشوغون، الدور الأساسي في عملية التوحيد القومي لليابان، إلى أن استعاد الإمبراطور موتسو هيتو Mutsu-Hito (1867-1912) المعروف بالمايجي Meiji (5) زمام المبادرة، فأنهى نظام الشوغون والصراع بين فئات الساموراي، وقام بإصلاحاته المعروفة منذ سنة 1868. حيث عرفت اليابان نهضة شاملة قامت على التقدم والحداثة، على غرار ما حصل في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية. إذ خرجت اليابان من عزلتها، التي فرضتها على نفسها منذ القرن السابع عشر، لتنفتح على العالم الغربي وتكسب أسباب قوته ومناعته، بهدف مواجهة تحدياته وحماية سيادتها واستقلالها. لقد كان مشروع التحديث الياباني مشروعا تنمويا: " قوامه الحداثة ومواكبة العصر، وغايته بناء دولة منيعة قادرة على حماية استقلالها وسيادتها مـن الأطماع الأجنبية "(6). لذلك تم إرساء جهاز دولة جديد يشمل عناصر مخلصة لمشروع الحداثة والتغيير، كما توفرت للمشروع قاعدة اجتماعية قادرة على دعمه وحمايته، ترتكز على كل العناصر التي ساهمت في قلب نظام الشوغون، أي البورجوازية التجارية وشقٌّ من النبلاء الرأسماليين وعدد كبير من فئة الساموراي وصغار الفلاحين الذين وقع تحريرهم من ربقة أسيادهم إثر ثورة 1868.
وليس من شك في أنّ تشكّل الدولة اليابانية الحديثة يعود إلى حقبة توكوغاوا، حين بدأت ملامح الشخصية اليابانية تتبلور بوضوح في المجالين الإقليمي والدولي. فقد أرسى قادة هذه الأسرة الأقوياء من الشوغون تقاليد حكم مركزي، بعد أن أجبروا جميع حكام المقاطعات على إعلان الولاء لسلطة الدولة المركزية.
كما أنّ عدداً من مقولات الكونفوشيوسية، إلى جانب مبادئ الديانة البوذية، بالدعوة إلى الطاعة واحترام النظام، بشكل صارم، لعبت دوراً أساسياً في ترسيخ ركائز الدولة اليابانية العصرية. فكلها كانت تدعو إلى طاعة الأوامر الصادرة من الأعلى، ودفع الضرائب بانتظام، مقابل أن يتحلّى الحاكم بروح المسؤولية، ومعاملة المواطنين كأبناء له متساويين في الحقوق والواجبات. وأن تحترم الدولة الحريات الشخصية والأملاك الخاصة من تعدّيات القوى الطبقية المسيطرة، وبشكل خاص من تعدّيات الساموراي والدايميو أو القادة العسكريين.
وإذا كان القرنان السابع عشر والثامن عشر قد تميّزا بالقليل من الاستقرار السياسي والإداري، فإنّ النصف الأول من القرن التاسع عشر شهد استقراراً داخليا شبه كامل، باستثناء الفترة الممتدة من 1853 الى1867، والتي شهدت توقيع الشوغون لاتفاقيات مجحفة مع الأجانب على حساب سيادة اليابان الوطنية (7).
وكانت أول خطوة اتخذتها ثورة الإصلاح في مرحلة ما يجي هي إعلان مبادئ الإصلاح الخمسة بتاريخ14 مارس/آذار1868، والتي نصّت على مايلي (8):
(أ)- كل القرارات أو التدابير يجب أن تُتخذ بعد نقاش جماعي للدفاع عن المصلحة العامة.
(ب)- من حيث المبدأ، لا فرق بين أعلى وأدنى في اليابان، بل الجميع واحد مع الحفاظ بدقة على التراتبية الاجتماعية.
(ج)- من الضروري أن تتوحد السلطتان العسكرية والمدنية في يد واحدة، بهدف حماية حقوق كل الطبقات والمصلحة القومية العليا معاً.
(د)- يجب التخلّي عن التقاليد الشكلية القديمة، والعمل على أن تظهر مساواة طبيعية بين الجميع دون تمييز.
(هـ)- البحث لاكتساب الثقافة والتعليم العصري في أي مكان في العالم، واستخدامهما في بناء ركائز الإمبراطورية اليابانية.
ومنذ سنة 1871 تم إقرار المساواة أمام القانون، وذلك بإلغاء النظام الإقطاعي وتحرير الأقنان، كما تم إقرار الحريات الفردية (حرية التنقل، حرية العقيدة، حرية الرأي والتعبير والتجمع). وبذلك برزت في اليابان، شيئاً فشيئاً، صحافة حرة وأحزاب معارضة، تأسس أولها سنة 1874 " من أجل الحرية وحقوق الشعب "، ووجد مساندة لدى قسم من الساموراي وتجار المدن والمزارعين الميسورين والمثقفين، وكان الحزب يطالب بنظام تمثيلي شبيه بالنظم الغربية. وفي سنة 1879، وقع تنظيم الانتخابات، لأول مرة في اليابان، على مستوى المجالس الجهوية، ثم في السنة الموالية على مستوى المجالس البلدية، وذلك قصد تعويد اليابانيين على الديمقراطية.
وفي وقت لاحق، بتاريخ 11فبراير/شباط1889، صدر الدستور الياباني، الذي أقر فصل السلطات وانتخاب برلمان ينظر في الميزانية والقوانين، ولكنه فضّل السلطـة التنفيذية على السلطة التشريعية، إذ أبقى على صلاحيات الإمبراطور، واعتبره مقدّسـاً ومنيعاً ومصدراً لكل سلطة. وقد عكس الدستور تقاليد المجتمع الياباني وموازين القوى فيه ومستوى تطوره في ثمانينات القرن التاسع عشر من ناحية، وطموحه إلى التغيير والتفتح على الأنظمة السياسية الغربية من ناحية أخرى (9).
لقد مهّدت النخبة الفكرية اليابانية للنهضة الحديثة في عهد المايجي، حين استطاعت أن تحل معادلة الانبهار بإنجازات البلدان الغربية والعداء لها في آن واحد، بحيث لم تتبنَّ مواجهة الغرب، في ظل اختلال موازين القوى لفائدته، بل ارتأت - إجمالاً - التفتح على نهضته الحديثة، فأصبح شعارها " لنفتح اليابان "، وذلك لكسب أسباب قوة البلدان الغربية قصد مواجهة تحدياتها وضمان استقلال البلاد وسيادتها. مما استوجب الانكباب على النهضة الغربية الحديثة، لإدراك أسبابها وركائزها، واستخلاص العبر منها، لإنجاز نهضة على منوالها، مع المحافظة على ذاتية اليابان وأصالتها. وكان من أبرز روّاد النهضة اليابانية الحديثة (10):
(أ)- يشيدا شوين Yoshida Shoin (1830-1859)، ولد في أسرة من الساموراي من مرتبة متواضعة، ناهض النظام الإقطاعي واعتبره عقبة أمام النهوض باليابان، كان وطنياً يدعو إلى الإخلاص للإمبراطور والوطن، وقد ناهض المعاهدات اللامتكافئة التي فرضتها القوى الغربية على اليابان في خمسينيات القرن التاسع عشر، وندّد بحكومة الشوغون لضعفها وعجزها عن الدفاع على الوطن، مما أدى إلى إيقافه بتهمة التآمر على الدولة ثم إلى إعدامه وهو في التاسعة والعشرين من عمره.
وكانت أفكار شوين ترتكز على مساوئ انعزال اليابان عن العالم، وبالتالي على ضرورة تفتّحها على الحضارات الأخرى، وخصوصاً على الحضارة الغربية الحديثة للأخذ من علومها وتقنياتها. إذ كان يعتقد: " أنّ كل أمة، في هذا العالم المتميّز بالصراع، تحيط بها قوى عدوانية، وتبقى منزوية على نفسها وساكنة، مآلها الانحطاط ". كما كانت أفكاره تعبيراً عن روح عصره، إذ كان يعتقد أنّ تحقيق نهضة يابانية حديثة يستوجب إلغاء النظام الإقطاعي وإرساء نظام جديد، يقوم على إحلال الكفاءة دون اعتبار المرتبة الاجتماعية، وبالتالي على بعث دعائم جديدة ونَفَس جديد في اليابان.
(ب)- ناكاي شومين Nakae Chomin (1847-1901)، ينتمي أيضاً إلى فئة الساموراي، ويدعو مثل يشيدا إلى تفتّح اليابان على الحضارة الغربية الحديثة، ليس في مجال التقنيات والمناهج الاقتصادية فحسب، بل الاقتداء بالنظم السياسية الغربية، التي تقوم على المساواة أمام القانون والحرية، وذلك قصد إرساء نظام دستوري يحدّد واجبات الحاكم والمحكوم، ويضمن حقوق الشعب الياباني وحرياته.
لقد كان شومين، في عهد المايجي، منظّر حركة المطالبة بحرية الشعب وحقوقـــه، وكانت غايته العمل على بعث الوعي في الشعب الياباني حتى يضغط على الحكومة لإرساء " دولة المؤسسات والقانون ". وبالفعل، فقد كان لأفكار شومين الليبرالية الأثر الكبير في تطور النظام السياسي باليابان.
وهكذا، لعب هذا المفكر المصلح دوراً هاماً في النهضة اليابانية الحديثة، مركّزاً جهوده على الجانب السياسي لاعتقاده أنّ الحرية والمساواة واحترام حقوق الانسان هي بمثابة ركائز النهضة والتقدم.
الهوامش
1 - الشوغون Shogunate، أي قيادة الحكم المركزي، بمثابة الوزير الأول، وهو كبير زعماء الساموراي.
2 - د. ضاهر، مسعود: النهضة العربية والنهضة اليابانية/ تشابه المقدمات واختلاف النتائج، الطبعة الأولى - الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – سلسلة " عالم المعرفة " -العدد (252) - ديسمبر/كانون الأول 1999، ص 35.
3- حكام المقاطعات اليابانية.
4- تتكوّن من ثلاث فئات كبرى: فئة الشوغون التي تنتسب إلى أسرة توكوغاوا الحاكمة، وفئة الفوداي Fudai التي اكتسبت لقب الساموراي من خلال الوراثة، وفئة التوزاما Tozama التي تتشكل من حكام المقاطعات الأقوياء في شمال وغرب اليابان.
5- المصلح أو صاحب السلطة العادل.
6 - د. المحجوبي، علي: النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر/لماذا فشلت بمصر وتونس ونجحت باليابان؟ الطبعة الأولى - تونس، سراس للنشر -1999، ص 170.
7- بعد أن أكملت بريطانيا وفرنسا تمركزهما في غالبية دول جنوب وشرق آسيا في النصف الأول من القرن التاسع عشر وجد الأمريكيون أنّ رقعة المساحة الدولية أمام تجارتهم تضيق باستمرار، فوجّه الرئيس الأمريكي فيللمور Fillmore إنذارا إلى الحكومة اليابانية بتاريخ 8 يوليو/تموز1853، ألحَّ فيه على ضرورة فتح أبواب اليابان أمام التجارة الدولية. ولم تكن اليابان في وضع يتيح لها رفض الإنذار، فتم توقيع اتفاقية بين الطرفين الأمريكي والياباني بتاريخ 28مارس/آذار1854، من أهم بنودها اعتراف للأمريكيين بصفة الأمة المميّزة في اليابان. كما وُقّعت اتفاقية أخرى بين الطرفين بتاريخ 29 يوليو/تموز1858، من أهم بنودها: أن تلعب الولايات المتحدة الأميركية دور الوسيط بين اليابان وأوروبا. وعلى الفور، سارعت الدول الكبرى إلى انتزاع اتفاقيات مشابهة مع اليابان، كانت على التوالي: الاتفاقية مع هولندا فــي 18أغسطس/آب1858، ومع روسيا في 19أغسطس/آب1858، ومع بريطانيا في 26أغسطس/آب1858، ومع فرنسا في 9أكتوبر/تشرين الأول1858، ومع البرتغال في 3أغسطس/آب1860، ومع بروسيا في 24 يناير/كانون الثاني1861، ومع سويسرا في 6 فبراير/شباط1864. وكانت أخطر نقاط تلك الاتفاقيات البند الذي ينص على رفض الأجانب للمثول أمام المحاكم اليابانية وإصرارهم على أن تتم محاكمتهم أمام قناصل دولهم، وبالاستناد فقط إلى قوانين الدول التي ينتمون إليها.
- د. ضاهر، مسعود: النهضة العربية...، المرجع السابق، ص 172-173وص 160-161
8- د. ضاهر، مسعود: النهضة العربية...، المرجع السابق، ص 242.
9 - د. المحجوبي، علي: النهضة الحديثة...، المرجع السابق، ص 176-177.
10- د. المحجوبي، علي: النهضة الحديثة...، المرجع السابق، ص ص 187-197.