انتفاضة تشرين في مواجهة مساعي الاحتواء والانهاء


رشيد غويلب
الحوار المتمدن - العدد: 6723 - 2020 / 11 / 4 - 00:16
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية     

الأحداث الميدانية والتناول السياسي والإعلامي الذي رافق تجدد انتفاضة تشرين 2019 المجيدة، والاحتفاء بالذكرى السنوية الأولى لاندلاعها، أعادت الى الواجهة من جديد ضرورة تجذير مشروع الانتفاضة، وبلورة هيكلية وقيادة ميدانية وسياسية لها لمواجهة الجهود المبذولة لاحتوائها، أو انهائها. وتحويلها من مشروع للتغيير، يقود في النهاية الى اسقاط مشروع الدولة الفاشلة، وقوى المحاصصة الطائفية – الاثنية، ومنظومة الفساد التي اقامته، الى مجرد منصة تقود الى تحولات شكلية تؤدي الى نسخة محسنة من ذات المشروع. وبالمقابل أكد ما يدور، مرة أخرى ضرورة عدم التنازل عن الانتصارات والحقائق التي كتبها شهيدات وشهداء الانتفاضة بالدم والتضحيات الجسام.

ما لا يمكن التفريط به
لا بد هنا من التذكير والتأكيد على جملة من المعطيات التي أدت الى اندلاع الانتفاضة، أو تلك التي نتجت عنها. ولعل أبرزها أن الانتفاضة عبرت عن غضب متراكم وانفجار رفض نظام المحاصصة الطائفية - الاثنية والفساد، والسلاح غير الشرعي. وأنها تجاوزت قدرات جميع القوى السياسية والاجتماعية المنظمة التي ساهمت فيها أو دعمتها. وأن استمرار الانتفاضة من عدمه مرتبط، بإزالة الأسباب التي أدت الى اندلاعها. وأن استمرار وجود هذه الأسباب واتساعها وتعمقها، يعني موضوعيا استمرار الفعل المقاوم، وتجدد الانتفاضة وصولا الى تحقيق مبتغاها في تحقيق تغيير يلبي مصالح الأكثرية المغيبة والمستغلة.

وأن عمليات الاغتيال والاختطاف والتعذيب والتغييب أكسبت المنتفضين، رغم فداحة الخسائر صلابة وشجاعة نادرة، وإصرارا على الاستمرار. وأن محاولات التسويف والمماطلة واللعب على عامل الوقت القديمة والجديدة منها مصيرها الفشل.

وإن الحفاظ على سلمية الانتفاضة ضروري ومطلوب، والسلمية لا تعني كما يريد الساعون لاحتواء الانتفاضة ترك الساحات والتخلي عن سلاح الاحتجاج، بحجة تفويت الفرصة على القتلة ورموز العنف، لأن من يريد الخير للمنتفضين لا يسعى الى انهائها بوسائل ناعمة، بل عليه كشف قتلة المتظاهرين وتقديمهم للقضاء، وحماية ساحات الاحتجاج من العصابات والبلطجية ومرتزقة المحاصصة والفساد.

إن النجاحات التي تحققت كثيرة ومن الصعب على الخصوم التقليل من شأنها، ناهيك عن ازالتها، والعودة بالمجتمع الى ما قبل الأول من تشرين الأول 2019. وهي مجموعة من القيم التي ظلت طيلة عقود الدكتاتورية المنهارة والسنوات التي تلتها مغيبة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

إعادة الثقة بالنفس للأكثرية المغيبة، وأنها قادرة على التعبئة والنزول الى الشارع لتحقيق الخلاص من سلطة المتنفذين المقيتة، وبالتالي كسرت حاجز الخوف، وجدران التعصب والتخلف، التي عمل المتنفذون على تأبيدها والاحتماء بها. واسقطت الانتفاضة الهيبة المفتعلة لنظام المحاصصة والفساد وجعلت التغيير فكرة ملموسة، يمكن النضال والعمل من اجلها، وكسرت حاجز التردد ومهدت الطريق لجولات وانفجارات مقبلة. وجعلت مفهوم المواطنة ومشروع الدولة الوطنية ملفا رئيسا في ساحات الصراع وطاولات الحوار، وبالتالي أعطته زخما مستقبليا كان بالنسبة لفئات شعبية واسعة غير منظور. وأعادت الى الشخصية العراقية ألقها الوطني بعد ان حاولت قوى الرجعية والتخلف في المحيط الإقليمي وصفها بالمترددة وغير الفاعلة وذلك بالضد من حقيقة ومسار تجربتها التاريخية وعمقها المقاوم.

ونجحت الانتفاضة في إعادة الفئات والشرائح الاجتماعية كالنساء والطلبة الى مركز الصراع، وبعثت من جديد دور هذه الفئات المعروف في تاريخ العراق السياسي الحديث. وفتحت نافذة ليس من السهل غلقها لاستعادة الثقافة والابداع العراقي على اختلاف ألوانه، لدوره الريادي المعروف في الصراع الاجتماعي، والذي حاولت قوى الظلام والتخلف حجبه وتأبيد تراجعه.

وأعادت الانتفاضة الروح الى قيم وأشكال التضامن وبالتالي القضاء على جزء من الخراب الاجتماعي الذي لحق بمجتمعنا العراقي الحي خلال أكثر من 50 سنة من القمع والحروب والحصار والتشظي الطائفي والإثني. وبرز خلال يوميات الانتفاضة التأييد الشعبي الواسع لها من مختلف طبقات ومكونات الشعب العراقي. وتجسد هذا التعاطف والتأييد بأشكال متعددة. وعليه فإن ما تمت الإشارة اليه لا يمكن تجاوزه بالقمع وبالالتفاف والتكتيكات الناعمة المكشوفة.

بين الاحتواء والإنهاء
يمكن للمتابع الحريص على الانتفاضة وانتصار مشروعها ان يرصد معسكرين يسعيان الى تقويض الانتفاضة: الأول تمثله قوى بذلت جهودا كبيرة من اجل احتواء الانتفاضة، وجعها عامل ضغط، ووسيلة لابتزاز المنافسين داخل السلطة وخارجها، ولقد أكد مسار الأحداث فشل هذه الجهود في النيل من جوهر مشروع الانتفاضة وأهدافها النبيلة، رغم الأذى والتشويش والاعاقة التي الحقها ويلحقها هؤلاء بالانتفاضة وابطالها. ولا يغير من الأمر شيئا اختيار السيد الكاظمي رئيسا للوزراء وانضمامه الى هذا المعسكر، وسعيه الى تنصيب نفسه ممثلا للمنتفضين، وان حكومته جاءت نتاجا لتضحياتهم، ومن هنا جاءت تصريحاته التي تثني على وطنية التنسيقيات التي فككت خيمها في ساحة التحرير. يضاف الى ذلك كتل سياسية مشاركة في السلطة عملت وتعمل على تمييز نفسها عن الصقور، وهي تسعى للحفاظ على مواقعها وتعزيزها في نسخة محسنة من النظام السياسي. وقد تناقلت وسائل اعلام توجهات لعقد تحالفات بين بعض أطراف معسكر الاحتواء للهيمنة على أكبر عدد ممكن من مقاعد البرلمان الجديد!

المعسكر الثاني الذي يناصب الانتفاضة العداء فهو معسكر معروف، يعطي لنفسه شرعية ممارسة الاستحواذ والاستبداد، ويرتعب من ثقافة الاحتجاج وطرح البدائل، وقد وقف بدون تحفظ عمليا وراء السياسات المعروفة التي مارستها حكومة عادل عبد المهدي في قمع الانتفاضة. ويرى هذا المعسكر ان المطالبة بالتغيير وإقامة دولة مؤسسات وطنية ديمقراطية تمثل خطرا على مشاريعه، ومن ذلك قوى تحسب نفسها على أحزاب الطائفية السياسية.

قوى معسكر التغيير
يضم معسكر التغيير الى جانب الانتفاضة طيفا واسعا من القوى السياسية والاجتماعية والمنظمات المهنية، التي تتباين في عمق التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي المرجو. ويمكن لعدد من هذه القوى السياسية، التي يمثل بعضها مشاريع شخصية، ان تلتحق بمشروع النسخة المحسنة من النظام السياسي القائم، في حين شاركت قوى أخرى بقوة في الانتفاضة، وقدمت الشهداء، وشمل الاختطاف والتغييب والتعذيب الكثير من ناشطيها. وتمثل هذه القوى الى جانب النقابات والمنظمات المهنية الحليف الأساس للمنتفضين ولجموع النساء والطلبة التي ساهمت في الانتفاضة. ان هذه القوى مدعوة الى تعزيز علاقتها بالمنتفضين الحقيقيين، وتقديم كل الدعم الممكن لهم لتجاوز عدم الوضوح وضعف تنظيم صفوفهم.

وعلى صعيد الأداء السياسي والإعلامي، فان هذه القوى مدعوة لدراسة لوحة الصراع بموضوعية ورؤية نقدية تبنى على الابتعاد عن وهم اصلاح نظام الدولة الفاشلة، والعمل على مراكمة الجهد والتجارب النضالية، وصولا الى تغيير توازن القوى السياسي والمجتمعي الذي يشكل الأرضية الصلبة للتغيير. وهذا يتطلب الوضوح التام تجاه جميع الكتل المتنفذة، التي وان تباينت في التفاصيل مع منافسيها، فان التجربة العملية، لحد الآن تقول إن هذه القوى، قبل وبعد تكليف الكاظمي غير معنية بالتغيير، لسبب بسيط هو أن التغيير ينسف الكثير من الامتيازات والمواقع السياسية والاقتصادية التي راكمتها خلال الـ 17 عاما الماضية.

وهذا لا يعني الدعوة للتطرف تجاه هذه القوى أو العمل على استعدائها، ولا اهمال حق القوى السياسية في ممارسة التكتيكات التي تراها مناسبة. لكن طبيعة الصراع والتجربة العملية تؤكد أن الصراع في العراق هو صراع مشاريع. والمشاريع التي قام عليها النظام السياسي الحالي لا تصلح ان تكون أرضية ومنطلقا للتغيير. وعليه فإن المراهنة على الاشكال النمطية والتجارب الفاشلة، بالنسبة لقوى التغيير هي هزيمة، حتى قبل ان تبدأ المواجهة.

إن أحد أهم ما أكدته الانتفاضة، وتتجاوب معه الأوساط الشعبية صاحبة المصلحة في التغيير هو الموقف غير القابل للتأويل والخطاب السياسي شديد الوضوح.