عيد ميلاد -دولة الأوبرا- المصرية


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6722 - 2020 / 11 / 3 - 13:38
المحور: الادب والفن     

بمجرد أن أهبط من سيارتي أمام بوابة المسرح الكبير، تبدأ الكماناتُ في التسلّل إلى عقلي بهدوء مثل قطعة من الفراء الناعم تداعب وجهي. أخطو نحو الباب العالي، فتتأهّبُ أوتارُ الڤيولين في أيدي العازفين، وتعلو النغماتُ شيئًا فشيئًا، مع ارتفاع عصا بيتهوفن، فأشاهدُ، بعيون خيالي، طاقمَ الكورال في خلفية الأوركسترا، ينهضون عن مقاعدهم، وفي يد كل منهم دفتر أشعار "فريدريك تشيللر"، مفتوحًا على قصيدة "أنشودة الفرح"، ثم يبدأ الصوليست بصوته الجهوري الباص يُنشد:
"أيها الأصدقاءْ/ اتركوا هذا النشاذَ الصاخبْ/ وبدلًا منه/ تعالوا نُشعلُ الكونَ بلحنِ البهجةِ والفرح/ الفرح/ الفرح/ أيتها الفرحةُ/ أنتِ شرارةُ السماءِ الجميلة/ أنت طفلةُ الجنّة/ ندخلُ بكِ الفردوسَ نشتعلُ حماسةً/ نغدو كائناتٍ سماويةً/ نرنو إليكِ لأنكِ ملاذُنا القُدسيّ الأخير/ سحرُكِ الخاصُّ يلملمُ ما تشظّى فينا بقسوة/ بمعاول التقاليد والأعراف/ كلُّ البشر سيغدون أخوةً/ حينما يحوّم فوقنا جناحاكِ الرقيقان/ المحظوظُ الذي وجدَ صديقًا/ والسعيدُ الذي وجد زوجة حبيبة/ فلينضمُّوا إلينا في أنشودة الثناء/ نعم/ بينما مَن يظن أن الأرض كلَّها لا تسعُ إلا روحه/ مَن لا يقدرُ على الحبَّ/ فليتسللْ بعيدًا عنّا/ وليغرقْ في دموعه/ كلُّ المخلوقاتِ تشربُ الفرحَ من ثدي الطبيعة/ الطيبون والأشرارُ على السواء/ يتبعون دربَ الزهور الذي تغزله لنا الطبيعةُ/ تمنحنا القبلاتِ والنبيذَ/ وتمنحُنا الصديق الوفيَّ/ حتى في لحظةِ الموت/ حتى الدودة الضئيلةُ منحتها الطبيعةُ أمنيةً/ فيقفُ ملاكٌ صغيرٌ يتضرّع أمام الله/ بحبورٍ وبهجة/ مثلما تتسارعُ شموسُ الله في أرجاءِ الأفق الهائل/ كذلك أنتم/ أيها الأخوة/ يجب أن تؤدوا أنشودتَكم/ بفرح/ مثل بطلٍ منتصر/ تعانقوا أيها الملايين/ قُبلةٌ سماويةُ لكلِّ العالم/ لأن فوق مِظلّة النجوم تلك/ لابد يسكنُ أبٌ محبٌّ/ هلا انحنيتم أمامَه أيها الملايين البشرية؟/ هل تشعرون بخالقكم/ يا أبناء هذا العالم؟/ ابحثوا عنه فوق مظلّة النجوم/ فلا شك أنه يسكنُ خلف النجوم.”
الآن وصلتُ إلى مقعدي بالمسرح الكبير وسط الجمهور الحاشد مع آخر كلمة من القصيدة، وآخر نغمة من الحركة الرابعة من أعظم سيمفونيات التاريخ. يُنزلُ بيتهوفن عصاه، فيهدرُ شلالُ التصفيق مثل طوفان، حتى يهدأ، فأعتدلُ في مقعدي وأغلق بابَ خيالي، وأبدأ في فتح مسام عقلي وخلايا جسدي لأستعد لشلال النور القادم من خشبة المسرح.
هذا بالضبط ما يحدث لي مع كل زيارة لحبيبتي "دولة الأوبرا"، التي تطلقون عليها "دار الأوبرا المصرية". إذْ أراها "دولةً" مكتملة الأركان.
لماذا بالتحديد "أنشودة الفرح" والحركة الرابعة من السيمفونية التاسعة؟ لستُ أدري! ربما لأنني في الأوبرا أغتسلُ بالفرح من أوجاع الزمان. ربما لأنني أرى أن البشر أحيانًا يجتهدون في قتل الفرح لسبب مجهول! ربما لإيماني أن على الإنسان أن يؤدي جميع واجبات يومه بفرح حتى نستحق أن نكون عبادًا لهذا الإله العظيم الذي منحنا الحياة والفرح. نعبد اللهَ بفرح. نؤدي أعمالنا بفرح. نحبُّ الوطن بفرح. نحافظ على مصر بفرح. ندلّل أولادنا بفرح. نربّيهم ونعلمهم بفرح. نحبُّ جيراننا بفرح. نساعدُ الفقير والمريض والموجوع بفرح. نكتبُ بفرح. نقرأ بفرح. نصّرُ على منح الفرح ولو لشخص واحد كل يوم. نحبُّ بفرح ونلفظ أية لمحة من دنس أو كراهية تسللت إلى قلوبنا ذات غفلة.
يوم 10 أكتوبر، أتمَّت "دولة الأوبرا" الجميلة عامها الثاني والثلاثين. فشكرًا لكل من وضع طوبة في هذا الحصن التنويري الهائل، حصن الفرح البهيّ، لأنه يمنحني الفرحَ كلما اخترقت قلبي الهمومُ والكدَر. اليوم حقٌّ عليّ أن أقول:
كل سنة وأنت طيب أيها الخديوي إسماعيل، لأنك مَن شيّد لنا أول دار أوبرا مصرية عام 1869.
كل سنة وأنت طيب يا إمبراطور اليابان الذي أهدانا دار الأوبرا الجديدة، بعد احتراق الأولى عام 1971.
كل سنة وأنت طيب أيها الرئيس محمد أنور السادات لأن قرار إنشاء دار الأوبرا الجديدة كان في عهدك حتى وإن لم تحضر افتتاحها عام 1988.
كل سنة وأنت طيب يا كل شخص يعمل في دولة الأوبرا الجميلة، لأنكم تمنحوننا الفرح.
كل سنة وكل خشبات مسارح الأوبرا طيبة، وكل مقعد وكل مصباح وكل آلة موسيقية، وكل ستارة وكل بساط وكل طوبة شرفة وكل قطعة ديكور بخير وفرح.
وفي الأخير، كل سنة وأنتما طيبان يا د. إيناس عبد الدايم، ويا د. مجدي صابر، لأنكما تجهدان لتقديم الخوالد التي تملأنا بالفرح في دولة الأوبرا المصرية، حتى في أحلك اللحظات العسرة التي تمرّ بها مصر. وكل سنة ومصرُ جميلةُ، ودار الأوبرا مصابيحُها تنثرُ الفرح. "الدينُ لله، والوطنُ لمن يُنير مشاعل الوطن”.

***