عن الكرامة والذل، وكرامة المذلولين


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 6720 - 2020 / 10 / 31 - 23:45
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

هل يمكن الكلام بكرامة على نزع الكرامة؟ هل يمكن أن نتكلم بكرامة على عار الخسارة الكاملة، إذلال واسع وعميق ومستمر ومتعدد الأوجه تعرضنا له؟ أعني دون انفعال هائج، دون تفجع وانتحاب، دون سينيكية، دون مزايدة على النفس أو الغير، ودون إنكار بالطبع. ربما ليس دون غضب، ولكن بغضب مُتحكّم فيه، ربما ليس دون حزن، لكن مع تمالك للنفس، ربما ليس دون ألم، لكن دون رثاء للذات، وبالتأكيد دون مشهدية واستعراض.
يعنيني السؤال ككاتب، وكسوري، وقبلهما معا لكوني أحد من خبروا تجربة الخسارة الكاملة، التي تتجاوز الهزيمة أمام عدو إلى خسارة المعنى، وهذا فوق جروح مستمرة بالغة الإيلام: فقد أحبة، لجوء خارج البلد، خسارة مجتمع، تحطم بيئة حياة، أي انهيار عالم كامل، واضطرار إلى البدء من ما يقرب الصفر. ما يتشكل للمرء بمشقة من ذاتية يتحلل بفعل مزيج الهزيمة والخسارة الذي جرى الكلام عليه من قبل، وما يواكبهما من إذلال وعجز. فهل يمكن بعد هذا كله أن نتكلم بكرامة على فقد الكرامة إلى هذا الحد؟
هذا ممكن لأنه واجب: لا شيء يعلو صون كرامة الخاسرين قيمة.
أكثر من أن الكرامة ممكنة في مواجهة نزع الكرامة، وأكثر حتى من أنها واجبة، هي لا تكون مثالاً إلا إزاء تجربة نزع الكرامة. في أوضاع لا تهيننا أو تجرحنا، أو تتحدى قدرتنا على التصرف الصحيح، ليس ثمة معنى كبير للكلام على حس بالكرامة، أو على أن مسالكنا كريمة. حين يكون احتمال ارتكابنا الأخطاء محدوداً، وحين تكون الأخطاء المرتكبة متواضعة العواقب، وحين لا تتحدى خياراتنا المتاحة في التصرف مصيرنا تحدياً بالغ القسوة، فإن كرامتنا لا تمتحن. وهي لا تمتحن إلا حين نكون في امتحان عسير فرص نجاحنا فيه محدودة، وربما تقارب العدم، أي إلا في أوضاع مأساوية، يتلاطم فيها بعنف وجها المصير: الظروف والاستعدادات، "القدر" والشخصية. أميل إلى تعريف المأساة على ضوء التجربة السورية العامة والتجربة الشخصية بأنها امتحان لا بد من خوضه مع فرص نجاح بالغة الضآلة، إن لم يكن مع فشل مضمون. نخسر كرامتنا إن لم نخض الامتحان الذي نخسر الكثير، الكرامة ذاتها، أو الحرية، أو حتى الحياة، إن خضناه. في مثل هذه الأوضاع بالتحديد يثار سؤال الكرامة، وفي مثلها تمتحن.
من شأن إجابة بالإيجاب على السؤال: هل يمكن أن نتكلم بكرامة على ما نالنا من إذلال ونزع كرامة، أن تحيل إلى السؤال عن الكيفية: كيف نقوم بذلك على نحو يحوز دلالة عامة؟ أي يعني إمكانياً ملايين المعنيين مباشرة، ويفترض أن يعني الإنسان بما هو كذلك، ليس بالضرورة لأنه يمكن لأي بشري أن يجد نفسه في أوضاع مماثلة، ولكن لأن تجاربنا القصوى هي ما تُعرِّفنا، وليس العادة المستقرة.
بقدر ما إننا حيال وضع جذري وأقصى، ليس من مألوفاتنا، فإنه لا يبدو أن هناك طريقة مجربة لصمود كريم في وجه نزع الكرامة ونازعيها. لكن لعل أول ما يلزم هو الاستمرار، ألا نترك الشرط النازع للكرامة يحطمنا. استمرار مغاير، يستوعب التجارب المذلة ولا يتجاهلها، لكنه يداوم على الصراع بصبر. ليس هذا تطلباً بطولياً، أو جزية لإيديولوجية الصمود الفوقية، ولا يتحتم أن يتعارض مع التعبير عن الألم واللوعة. بل لعل الكرامة لا تصان دون تعبير، دون الإقرار بالخسارة وفداحتها وألمها، ودون التحرر من ضرب بطريركي من الكرامة، هو "الشرف"، يقرنها بالاستتار أو بالتقليل من شأن ما جرى لنا واللامبالاة به. الخسارة الكاملة لا تسمح على كل حال بمثل هذا الادعاء، الذي يهدر فوق ذلك تعميم التجربة وروايتها كقصة عن المصير الإنساني. نحتاج لأن نروي لا أن نصمت أو نكبت، وإن كنا نحتاج لأن نروي بكرامة.
وبقدر ما إنه يجري الكلام على كلام، فيتعين أن يحوز فضائل نوعه، وأولها المعنى، ثم إثارة الاهتمام. تجربتنا السورية تظهر أن المعنى عملية صراع، ليس حصراً ضد من يدرجون نزع كرامتنا في نزع معنانا، في إنكار أن لنا معنى، أو في الفصل بين المعاناة والمعنى على نحو يحرم مجتمع المعاناة من ملكية قصته، بل كذلك مع أساليب وطرق تعبير وتمثيل غير حساسة، تخمد الخبرات الجديدة القصوى بدل الاستناد إليها لتطوير أدواتنا وأفكارنا. أن نقول بعد "الخسارة الكاملة" ما كنا نقوله قبلها هو طريق مضمون لخسارة الاهتمام والانتباه في عالم اليوم الذي لا يستطيع التركيز والفاقد للصبر.
المعنى هو كرامة الكلام، وكلام يعني هو وحده ما ينازع نزع الكرامة في تجاربنا الرهيبة.
ومرة أخرى، قد لا يكون ثمة طريقة هي الأمثل لأن نتكلم بكرامة على نزع الكرامة، لكن لعل الكرامة لا تصان دون تقبل شجاع للعيش في صراع قد لا يقبل الحسم أبداً. أعني تقبل المأساوي، الامتحان الذي لا بد من خوضه دون أدنى ضمان للفوز فيه.
ولدينا مثال أمثولي رفيع يسوغ إجابة بالإيجاب على السؤال عن إمكانية الكلام بكرامة على نزع الكرامة، يتمثل في كل من مريم خليف من حماه وفوزية حسين الخلف من الحولة، كما ظهرتا في فيلم الصرخة المكتومة لمانون لوازو. السيدتان ظهرتا باسميهما الصريحين وبوجوه مكشوفة لتتكلما على اغتصابهما من قبل الأسديين. لم يكن هذا فعلاً شجاعاً وكريماً فقط، ولكنه يؤسس مثالاً للكرامة لا يتحدى نازعي الكرامة الأسديين وحدهم، وإنما كذلك البطريركية المحافظة السائدة في بيئات سورية واسعة، وهي تحول فقدها هي للكرامة إلى نبذ لمن تعرضن للاغتصاب من النساء، أو حتى قتلهن على ما جرى لألوى، وهي معتقلة شابة، نعرف في الفيلم نفسه أنها تعرضت للاغتصاب من قبل الأسديين، ثم للقتل من قبل أبيها. يظهر الشرف هنا كشيء أسوأ من شكل بطريركي للكرامة، يظهر كانعدام للكرامة والعدالة والحس الإنساني. نزع الكرامة هنا هو المفعول المتآزر للاغتصاب والنبذ، ولذلك شجاعة وكرامة المرأتين أكبر، فهي تتحدى سلطتين اغتصابيتين علانية.
هذا مثال نادر، يفوق في شجاعته وأمثوليته أي قصص صمود لرجال في سنوات المحنة السورية الطويلة. وهو بعد ذلك مثال يظهر أن الكرامة هي كرامة المذلولات والمذلولين، من خبرن وخبروا تجربة الإذلال.
يمكن طرح سؤال مماثل بخصوص الأمل: هل يمكن الاحتفاظ بالأمل في شروط منتجة لليأس بوفرة، ولا تلوح منها مخارج في الأفق؟ هنا أيضاً يمكن القول إن الأمل لا يحتفظ بقيمته إلا في أوضاع مثل هذه. حين يكون الأفق مفتوحاً، حين تصير الحياة رخية، حين لا ينيخ اليأس بثقله على قلوبنا، لا يكون الأمل عزيزاً. نحتاج إلى الأمل بالضبط حين يكون اليأس قوياً جباراً.
ربما يحيط مفهوم الاستماتة بوضعنا المستعصي الحالي. المستميت يخوض الصراع بكلية كيانه، واضعاً حياته في الميزان وموته في الحسبان، أو مفتدياً حياته بتقبل الموت كاحتمال قريب. المستميت حي لا يزال، لكنه "أثبت في مستنقع الموت رجله"، على قول دريد بن الصمة. بعبارة أخرى، الاستماتة هي الشرط النفسي الوجودي الذي يتجه فيه الفارق بين الحياة والموت لأن يتلاشى.
وقد يمكن كذلك تضمين كلمة استماتة العربية دلالة أقرب كلمة إليها بالانكليزية desperate، وهي يمكن أن تفيد شعورك بفقد الأمل مع الاستعداد لفعل أي شيء لتغيير وضعك السيء. ما يتجه إلى التلاشي هنا هو الفارق بين اليأس والأمل. وبناء على هذا التضمين يكون المستميت هو من يخوض صراعاً جذريا ويائساً ضد اليأس. كأنما اليأس هو شرط للصراع ضد اليأس، أي للأمل. أو كأن الأمل هو القوة الأشد يأساً من كل يأس، القوة التي تحمل اليأس في قلبها. عدو الأمل ليس اليأس، بل الأمل السيء والسطحي، التفاؤل في كل حال، دوغما الأمل.
الكرامة والأمل ليسا حالين في تقابل مع الإذلال واليأس، بل هما عمليتان، تبطن الأولى منهما تجربة الإذلال ويبطن الثانية اليأس. وهو ما يضفي على هاتين العمليتين طابع الأزمة المستمرة، الصراع القلق وغير المضمون ضد الذل وضد اليأس. فمثلما الأمل فعل مقاومة لليأس فإن الكرامة فعل مقاومة للذل ونزع المعنى. وهما في كل حال إنتاجٌ لما لم يكن هناك من قبل، خلق أو إبداع. ليس هناك كرامة تصان بفعل الشيء نفسه في كل حال، ولا ينتج عن ذلك غير الاختناق والتبلد، والموت. وليس هناك وصفة معلومة سلفاً للحفاظ على الأمل، الأمل لا يُخزّن، ولا يحافظ عليه إلا بأن ينتج أولاً بأول في مواجهة القنوط والكلل.
نُعنى بالكرامة والأمل من أجل حياة أغنى وأكثر تفتحاً، لا من أجل أن نشابه أنفسنا إلى ما لا نهاية. إن كانت مشابهة النفس هي ما يراد، فالموت هو أضمن السبل لها. الحياة هي الحياة الحرة، الكريمة، المتجددة، وثالثُ الكرامة والأمل هو هذه الحياة الحرة.