كلمات من دفتر الأحوال... (19)


كاظم الموسوي
الحوار المتمدن - العدد: 6687 - 2020 / 9 / 25 - 18:56
المحور: سيرة ذاتية     

زارتنا الرفيقة أم أيمان، ثمينة ناجي يوسف، وجلسنا أياما وليالي نتذكر ونسجل عن حياة الرفيق الشهيد أبو علي، أبو إيمان، حسين الرضي، سلام عادل، (عمار) الأمين العام للحزب الشيوعي الذي أعدم وعذب بوحشية كشفت طبيعة جلاديه القتلة أثر اعتقاله يوم 02/19 بعد أحد عشر يوما من انقلاب 8 شباط/ فبراير عام 1963 والذي أعلن عن تصفيته في 6 آذار/ مارس من العام نفسه. أي بعد أسبوعين من التعذيب وتقطيع جسده. ونقل عن عضو لجنة منطقة بغداد للحزب الشيوعي، القاضي، الذي ضعف عند التعذيب واعترف عن رفاقه ومعرفته بالشهيد، جيء به أمامه، ليؤكّد شخصيته ولإرعابه أيضاً، قال أنه شاهده مهشم الأضلاع واليدين ومع ذلك لم يستطع مواجهته وكانت عيناه مدميتين، ونظراته حادة. كما روي غيره أنه قطّع أجزاء وفُقأت عيناه ولم يُسلم جسده لأحد. وكان الرفيق حسين سلطان، أبو علي، معنا يشاركنا في تجميع الذكريات ورواية ما عنده منها أو يضيف لها أو يدقق فيها.
كانت الفكرة أن نتعاون معا، بتكليف حزبي، في كتابة كتاب عن حياة الرفيق الشهيد، فهي تحتفظ بارشيف مهم، وكانت لدي حصيلة جيدة من المعلومات والشهادات، وكنت قد طبعت كراسا، عنونته، رجل المهمات الصعبة، ضاع في حرائق كردستان. والقيت عددا من المحاضرات عنه. وكانت لدي فكرة إعادة طبع الكتب والكراريس التي كانت قد صدرت في زمن قيادته للحزب، والتي كانت بقلمه أو بإرشاده وأفكاره وكتابة رفاق أو رفيق لها.( وأشرت لذلك في الصفحة الأخيرة من كتابي: الحركة العمالية في العراق، الذي صدر ببيروت عام 1996) وقد افلحنا قبل جريمة بشت آشان من إعادة طبع كراس، "ردّ على مفاهيم برجوازية قومية وتصفوية" الذي صدر عام 1957 بقرار وإلحاح من الرفيقين باقر إبراهيم وعبد الرزاق الصافي، عضوي المكتب السياسي وقتها، ولم نستطع إكمال ما كنت افكر به أو وضعته في خطّة العمل اللاحقة. من مثل "انتفاضة 1956 ومهامنا في الظرف الراهن" صدر عام (1957)، "الإصلاح الزراعي" نشر في عام (1961)، "وجهة نضالنا في الريف" في عام (1962)، وغيرها... ومازال بعضها لدي في طبعاته الأولى، شبه السرية، والتي تحتاج إلى جهد طباعي والتزام جديد بها.
سجلت الكثير من الحوارات والأحاديث، معها ومع الرفيق أبي علي، على أشرطة كاسيت، وحفظتها ليوم قريب. ولكن الأيام كالسفن والرياح، لم تجر كما يشتهي السفّان. فقد وصلتها أخبار عن اختلافي مع الحزب ووضعي على لائحة الخارجين عنه، المشاغبين المطرودين، وهي حزبية حتّى النخاع، لا تتحمل مثل هذه الأخبار، وكنا نتحدث هاتفياً كلّ أسبوع، وفي آخر مرة وصلتني دموعها عبر سماعة الهاتف ونحيبها وهي تردد لي أنّها كانت تريدني في موقع القيادة دائما وليس خارجها، فكيف وقد أبلغها مسؤول التنظيم في الخارج بذلك، وبالمناسبة لم أبلغ أنا حتّى بعد ذاك الاتّصال بفترة أشهر بأي قرار حزبي، ولا أوقفت عن مهامي الحزبية التنظيمية في الأكاديمية. وهذا الوضع يعكس النوايا والخطط المبيتة لمصير الحزب وآفاق عمله وتطوره. ماذا يمكنك أن تتصور حين تسمع مثل هذه الأخبار؟ مسؤول تنظيم الخارج كان عضو مكتب سياسي (وبروفيسور اقتصاد) يبلغ الرفيقة ثمينة عن فصلي من الحزب، قبل أن أبلغ بهذا القرار، واستمرّ بعملي ووجودي لفترة غير قليلة بعده، هل هذا حزب فهد وسلام عادل؟.
ومن طريف الأخبار والأحداث، إنَّ المسؤول الآخر، عضو لجنة مركزية مخضرم، كلف بالذهاب إلى صوفيا، لتصفية الحسابات، بديلا مناقضاً عن الرفيق أبي علي، اتّصل بي هاتفياً وطالبني بكتابة تقرير عن رفاق قياديين وبالأسماء، هم: باقر إبراهيم وعامر عبد الله وحسين سلطان وماجد عبد الرضا، واتّهامهم بتكتل حزبي والعمل على شقّ الحزب، وضحكت منه وقلت له هل هذا تبليغ حزبي، فأنا ما زلت في التنظيم ولم أبلغ بمثل هكذا تصريح خطير... لكنه أصرّ على الكتابة والإسراع فيها قبل أن يشملني معهم وأغلق الهاتف. حاولت الاتّصال به مرة واحدة ولم يرد وأهملته لما أعرفه عنه من تفاصيل كوميدية.
كانت منظمة الحزب تملك شقة في وسط مدينة صوفيا، لا أعرف مصدرها، ولكني أعرف أنّها للضيوف الزائرين والاجتماعات الحزبية والإسكان المؤقت لظروف خاصة، وقد استولى عليها المسؤول الجديد مباشرة ودون سؤال أو جواب. كما كان السفير اليمني الديمقراطي الرفيق محمّد حيدره، مسدوس، قد أفرغ سيارة فولغا برقمها الدبلوماسي لتنقلات الرفيق أبي علي، وكان يقودها حين الحاجة الرفيق ضياء وأخذت أنا بعض الوقت استخدامها معه. وألح عليها المسؤول الجديد، وحاول بشتى السبل الاستحواذ عليها، إلا أنه زاد غيظا حين علم بإعادتها إلى السفارة بسرعة وتقديم الشكر للإخوة فيها، وقد حلّ سفير جديد، لم يختلف عن سابقه في علاقاته معنا، أشخاصا وحزبا. كما يبدو بتوصية من الرفاق في قيادة الحزب الاشتراكي والدولة في عدن، حينها. وفر لنا الكثير من المساعدات المهمة وسد حاجات ضرورية من بينها إصدار جوازات سفر لبعض ممن تسدّ الآفاق أمامهم من الرفاق الذي حاربهم ذاك المسؤول أو ذاك المكلّف بها. وكانت الرسائل التي يحملها الرفيق ليث الذي كان يعمل في السفارة كملحق إعلامي ومترجم، بتكليف من السفير تعبر عن مكنون المودة والحميمية التي كانت تربطنا، رفاقاً وحزباً وأفراداً، خلاف ما حصل مع من جاء بعدنا. ولا يمكن أن أنسى الحفل التكريمي، الذي أقامته السفارة اليمنية ومنظمة الحزب الاشتراكي، لتخرجي وتوديعي داخل الأكاديمية وكنت ممنوعا من الدخول إليها بقرار من أصحاب ذاك المسؤول الحزبي.
من المضحك أن حفلا أداره ذاك المسؤول وألقى فيه كلمة أكّد فيها على مناشدة قيادات الأحزاب السياسية، بما فيها الحزب الحاكم، حزب البعث العربي الاشتراكي، إلى التعاون والعمل المشترك، وكنت حاضرا وجالسا بين رفيقين ممثلين أو مسؤولين لمنظمتي حزبيهما، السوفييتي والفلسطيني، في بلغاريا، والتفتا إليّ مندهشين مما يتشدق به هذا المسؤول الشيوعي ويحارب أعضاء حزبه ويحرض عليهم بشتى السبل المسيئة لكلّ إنسان، دع عنك من يرغب أن يسمي نفسه مناضلا حزبيا.
قبل سفره من صوفيا إلى دمشق بقرار حزبي من سكرتير اللجنة المركزية للحزب عزيز محمد ودون أسباب مبررة وحتّى دون تبليغه بمؤتمر الحزب ولا بقراراته، أراد الرفيق أبو علي، وهو عضو اللجنة المركزية للحزب، توديع الرفاق في اللجنة المركزية للحزب المضيف، واتّصلنا بالرفيق المكلّف بالعلاقات، وكان قد درس اللغة العربية ببغداد، رحب بحرارة وسجل موعداً وذهبت مع الرفيق أبو علي وكانت جلسة رفاقية ولقاءً ودياً طابعها حزين، لا لتوديع الرفيق وحسب وإنَّما أيضاً لما حلّ بالحزب من تدهور عام وخشية الرفاق من نكسة أخرى تدفعه إلى خلف الأحداث المتصاعدة في الداخل العراقي. حضر رفيقان من اللجنة المركزية وثلاثة رفاق من لجنة العلاقات واستمرّ اللقاء التوديعي أكثر من ساعتين، سألوا كثيراً عن وضع الحزب بعد مؤتمره، وآفاق عمله، وأشاروا إلى أنّهم استمعوا قبل فترة لرفيق من المكتب السياسي قد زارهم وأطلعهم على آخر التطوّرات ولكنهم قلقون ومازالوا يتمنون للحزب أفضل مما هو عليه الآن.
كان هذا الرفيق هو عبد الرزاق الصافي، أبو مخلص، حيث أخبرني أحد الرفاق البلغار من لجنة العلاقات الحزبية بحضوره ورقم غرفته في فندق اللجنة المركزية وسط العاصمة، ذاكرا لي بأنَّه صديقي ويمكنني زيارته. فكرت بالأمر وفسرته إيجابيا، واتّصلت به ورحب باللقاء وذهبت على الموعد حاملا معي كتابا صدر حديثا عن دار التقدّم، بعنوان: مذكرات سفير في بلاد عربية، وأهديته له، وجرى حديثنا عن ذكريات العمل في الاعلام، في الجريدة وكردستان وتطورات الوضع السياسي في الوطن، ولما رأيت اللقاء اعتياديا، دعوته لغداء أو عشاء حسب وقته، فاعتذر مني قائلا إنّه لا يستطيع الخروج معي وأنا خارج الحزب، وكررت معه السؤال ذاته، لماذا لم تبلغوني بذلك إلى الآن، وتنشرون الخبر عند الآخرين، سواء من الأصدقاء أو الأشقاء. هل هذا عمل حزبي سليم؟.
ابتسم وقال لي أنت تنشر بيانا ضدّ الحزب وتروّج لبديل عن قيادة الحزب وترى هذا عملا حزبيا سليما، كيف يتم هذا العمل، وماذا تريد من الحزب بعد؟ وعرفت الرسالة والعنوان والقصة لم تنته بعد، ودعته بمودة وتركت أسئلة دون انتظار جواب منه، لماذا وصلنا الى هنا، ومن المسؤول؟ ..
وجدت صاحبي يضحك ويترنم بما قاله الإمام الشافعي:
دع الأيام تفعل ما تشاء ** وطب نفساً إذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي ** فما لحوادث الدنيا بقاء
(***)
ولا حزن يدوم ولا سرور ** ولا بؤس عليك ولا رخاء
إذا ما كنت ذا قلب قنوع ** فأنت ومالك الدنيا سواء
ومن نزلت بساحته المنايا ** فلا أرض تقيه ولا سماء
وأرض الله واسعة ولكن ** إذا نزل القضا ضاق الفضاء
دع الأيام تغدر كلّ حين ** فما يغني عن الموت الدواء