ثقافة القطيع


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 6658 - 2020 / 8 / 26 - 01:12
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

ما أن يقرأ المرء هذا المقال ويفهمه، يجد نفسه في وضعين اثنين، الأول هو أن يقتنع بكل أو ببعض ما جاء فيه، وقد يسكت أو يضيف إليه معومة جديدة ومفيدة أو يمتدح كاتبه، والثاني هو ألَّا يقتنع بما جاء فيه فيسكت أيضًا أو يسعى للتعليق عليه، بطرح رأيه إمَّا بأدب وعقلانية وموضوعية مجردة قدر الإمكان، وإمَّا بما تمليه عليه ثقافة القطيع، فيسب ويشتم، فيكون هذا السلوك منه هو نفسه سلوك القطيع الذي ينتمي له!
العربان المتأسلمون قوم يدركون بحسرة شديدة مدى تخلفهم وضعفهم وعدم نضجهم، فتظهر عليهم جميعا النزعات العاطفية الجارفة .. وذلك بسبب ثقافة القطيع التي يُصِرُّون عليها وينادون بها ويفتخرون بانتمائهم لها، ولكن من النادر أن يتحدثوا بعقلانية عن عواقبها البائسة ومشاكلها الدينية والدنيوية المدمِّرة!
تخبرنا العلوم والمعارف الإنسانية بأن حل المشاكل البشرية سواء كانت دينية أو دنيوية يتطلب قدرا كبيرا من التجريد والتفكيك، فلكي نصل لرأي قريب من الصواب في مسعانا لحل مشكلة ما، علينا أن نتجرد أولًا من إنتماءاتنا، وأن نفكك أواصر صلتنا بكل محبوب أو مكروه أو كل مقدَّس أو مدنس حتى نستطيع التحليل السوي الذي يقربنا من الحل. أما إذا قضينا وقتنا في سماع وقراءة وتكرار ما يعزز اعتقادنا ويؤكد انتماءنا، نكون بمثابة ثور الطاحونة الذي يدور في حلقة مفرغة لتشغيل الحجر وهو مغمض العينين.
الثقافة نمط بشري يتشكل عامة من الفكر والسلوك، ويتغير هذا النمط الثقافي بمرور الوقت وتبدل الأحوال التي يمر بها البشر، وتراكم الخبرات والمعارف لديهم. ولكن عندما يصبح فكر القطيع من الثوابت في حياة الإنسان، فإنه يُشير إلى ظاهرة نفسية يسعى خلالها للحصول على القبول والتوافق والانسجام داخل مجتمعه عن طريق تبني آرائه الجمعية، بعيدًا عن أفكار الشخصية وقناعات وهويته الخاصة. أمَّا الشخص الذي يعارض قرارات الجماعة أو يخرج على آرائها يفضل الصمت، حفاظًا على سلامته وعدم التورط في عرقلة أو تخريب وحدة القطيع، أو إنهم ينخرط في فكر الجماعة عندما يخشى من أن اعتراضاته قد تنال من انسجامها أو عندما تساوره الشكوك في أن أفكاره قد تتسبب في رفض ونبذ الأعضاء الآخرين له . وبسبب هذا الإلحاح على التوافق والتماسك والانسجام تعمل الجماعات على منع الأفرادَ من رفع أصواتهم بوجهات نظرهم التقويمية الناقدة التي لا تحظى بالقبول أو التي تخرج عن المألوف. ونتيجةً لذلك يتدهور لدى المرء كفاءته العقلية، واختباره للحقائق، وحكمه الأخلاقي في التعامل مع الآخرين في الشؤون الحياتية من حوله.
هناك قصة تقول إن مُحتالين دخلا على أحد الملوك المولعين بالثياب الفاخرة، وقالا له: سمعنا يا مولاي عن عظيم تقديركم للمواهب الرفيعة والصنائع البديعة، ويشرفنا أن نضع تحت تصرفكم خبرتنا العظيمة في نسج حرير الأذكياء السحري... إنه يا مولاي نسيجٌ رائع، لن تبالي في أي وقت ترتديه. يدفئك في الشتاء ويريحك في الصيف، فكأنك تحملُ نسيمَ الربيع معك أينما ذهبت! إضافةِ إلى ذلك فإنَّ هذا القماش السحري يكشفُ لك الأغبياء من حاشيتك! نعم يا مولاي! إن ألوانه البديعة وجواهره النفيسة لا تظهرُ إلاَّ للأذكياء وحدهم!: انظر يا مولاي كيف أن وزيرنا الحكيم معجبٌ به! والتفتا إلى الوزير وسألاه: ألا يعجبك هذا القماش يا مولانا الوزير! سنهديك ثوباً منه بعد أن نفرغَ من ثوب جلالة الملك!
عقدت الدهشةُ لسان الوزير وآثر السكوتَ، فكيف سيبادر بتكذيبهما قبلَ الملك نفسه؟ وقال في نفسه يبدو أن الملك قد أعجبه القماشُ حقاً وقد يستاءُ إن أظهرتُ فطنتي قبله وانتبهتُ إلى ما لم ينتبه إليه هو . . . فلأسكت إذَنْ، ولأكن مغفلاً حياً خيرٌ من أن أكونَ حكيماً مقتولاً أو مسجوناً! هكذا قال الوزير لنفسه وابتسمَ موافقاً . . . مضت عمليةُ النسيج والخياطة ببطءٍ شديد وبتكلفةٍ باهظة تليقُ بثياب الملوك، وفي يومِ الاحتفال تلقى الملك تهنئة الحاشيةِ كلِّها على ثوبه الجديد، وانتشرت الأخبار بين العامة: أن الملك سيخاطبكم الآن وهو يرتدي حرير الأذكياء السحري فاستعدوا وإياكم والشغب.
بعدَ طول انتظار أطلَّ الملك من شرفة قصره العالي! وشهقت الجموع شهقةً عظيمةً واحدة: يا إلهي! ما هذا!؟. . . ما أروع هذا النسيج وما أفخم هذا الثوب! وكان بين قامات الكبار طفلٌ صغيرٌ يحاول أن يصرخ، ليعلن على الجميع حقيقة ما يراه، ولكن لم يسمعه كثير من الناس... فقد بادرت أمه إلى تكميم فمه.
الواقفون قربه سمعوه يقول: أمي أمي! الملك عارٍ، الملك عارٍ تمامًا!... وسمعوا أمه تقول له اخرس ولا تفضحنا بغبائك الآن! نظرَ بعضهم إلى بعض مبتسمين و قالوا: مسكينٌ هذا الصغير أيُّ مستقبلٍ ينتظره!
هذا هو حال بلاد العربان المتأسلمين منذ عهد نبيهم (الكريم) وخلفائه (الراشدين) من بعده مرورًا بعهود القذافي وصدام حسين والبكباشي عبد الناصر حتى ابن سلمان والجنرال عبد الفتاح السيسي وغيرهم، ممَّن يعملون بحماس منقطع النظير على سيادة القطيع، وتعزيز التفكير الجماعي وقيم الانسجام والتماسك وفصل أفراد القطيع عن التحليل الدقيق والتفكير النقدي لكل منهم على حدّة، وخلق مجتمعات يميل أفرادها إلى تبني أفكار وسلوكيات بعضهم البعض، ولا يستطيعون فيها التعبير عن أفكارهم واهتماماتهم ومعتقداتهم الخاصة، مفضلِّين اتباع الرأي السائد توخيًّا للسلامة والسلام وعدم التعرض للرفض والهجوم والتهم المعلَّبة كالخيانة والتكفير والقتل أو السجن. هذه المجتمعات التي يزدهر فيها تفكير القطيع ترفع دائمًا من قيمة التوافق والانسجام وتجنب الصراع، بحيث لا تتوفر لأحد إمكانية التقييم النقدي للأفكار والحلول ودراسة الآراء المختلفة دون الإلتزام بتلك السائدة داخل القطيع.
إنهم الأسياد الذين لا يعترفون بقيمة تعددية الآراء، ولا يعرفون أنَّ قمعها وتجاهل الفكر الإبداعي بداخلها يؤدِّي إلى ضعف عملية صنع القرار، وعدم القدرة على إيجاد حلول فعّالة لمشكلات مجتمعاته، ولذلك لا يحظون سوى بالقرارات السيئة في غياب المعارضة والافتقار إلى الإبداع وتجاهل الحلول المُثلى للمشاكل، كذلك لا يعرفون أن الأمة التي تفكر على نمط واحد هي أمة ميتة، لأنها في الحقيقة لا تفكر، فالتفكير على نمط واحد بمثابة عدم التفكير، وأن الأشخاص الذين استطاعوا إحداث تغييرات جوهريّة عبر التاريخ الإنساني، هم أولئك الذين تمردوا على القطيع، واحتفظوا بهويتهم الفردية، وبقدرتهم على التفكير المنطقي والعقلاني، فصاروا بذلك قادرين على توجيه مجتمعاتهم وإدارتها، وقيادتها نحو تحقيق أهدافهم، وأحداث تغييرات جوهرية في سلوك أفرادها سواء كان ذلك سلبًا أو إيجابًا.
عالم النفس الأمريكيّ إيرفينغ ليستر جانيس (1990 - 1918م)، ساهم في العديد من الدراسات المهمة حول ديناميات الجماعة، واشتهر بنظريته عن التفكير الجمعيّ ”Groupthink“، التي تصف الأخطاء المنهجية التي ترتكبها الجماعات في حالة اتخاذ قراراتها بشكل جماعي، نتيجة لميلها إلى محاولة التقليل من الصراع بداخلها والتوصّل إلى توافق في الآراء دون درس الأفكار المختلفة وتحليلها وتقييمها جيدًا، وتفترض النظرية أن جهود الانصياع الطوعي لمعايير المجتمع يقيّد تفكير المجموعة، ويوجّه تحليلها إلى اتجاه تعزيز التفكير الساذج النمطيّ، ويكبت تفكير الفردي الإبداعيّ المستقلّ. وخلال حياته المهنية بحث جانيس في موضوع صنع القرار في مجالات مختلفة، وكيفية استجابة الناس للتهديدات، وكذا الظروف التي تؤدي بهم إلى التهاون غير العقلانيّ واللامبالاة أو اليأس والقسوة والفزع. ووفقًا لأبحاثه، هناك علامات مميَّزة لتأثير التفكير الجماعي، منها:
أن أعضاء الجماعة يشتركون في وهم الشعور بصحة قراراتهم؛ مما يجعلهم يُفرطون في التفاؤل، ممَّا يُشجعهم على تحمل مخاطر غير طبيعية.
وأنهم يتجاهلون التحذيرات والتعليقات السلبية التي قد تتسبب في قيام أفرادها بإعادة النظر في افتراضاتهم السابقة والقرارات التي توصلّوا إليها.
وأنهم يتجاهلون أيضًا العواقب الأخلاقية لقراراتهم ويؤمنون بلا جدال بأخلاق جماعتهم، وهو ما يُسبب الكثير من السلبيات بدءًا من الشعور بالاستعلاء وصولًا إلى رفض ومُعاداة كل مُختلف عنهم.
كما أن القوالب النمطية التي أنشأها أعضاء الجماعة تؤدي إلى تجاهل أو حتى تشويه صورة أعضاء المجموعات الأخرى الذين قد يعارضون أفكارهم أو يتحدونها، وهو ما يؤدي بهم إلى تكوين آراء إما سلبية أو نمطية، أو كليهما، عن الآخرين، الذين يُصبحون بشكل ما «أعداءهم».
يُمارس أعضاء الجماعة ضغطًا مباشرًا على أي فرد يُعبّر ولو مؤقتًا عن قلقه أو شكّه بشأن وجهات نظرها، فيُصبح الأعضاء القلقين غير قادرين على التعبير عن حججهم الفردية ضدها، وهو ما يدفع هؤلاء إلى إخفاء مخاوفهم. ففي داخل الجماعة تجد أشخاصًا يُمارسون باستمرار ضغطًا مُباشرًا على الأعضاء الذين يطرحون أسئلة، لحملهم على الامتثال رأي الجماعة، وغالبًا ما يُنظر إلى أولئك الذين يشككون فيها على أنهم خونة أو منشقون. لذلك وبشكل عام يتجنب أفراد الجماعة الانحراف الإجماع بداخلها، فلا يتم التعبير عن الشكوك والمخاوف بشأن آرائها.
https://courses.lumenlearning.com/waymaker-psychology/chapter/group-behavior/

تفكير القطيع ينبثق من عقلية غوغائية ويفضي لا محالة إلى سلوك القطيع (herd behavior)، وهو سلوك الشخص داخل الجماعة حيث يتصرف بسلوك الجماعة التي ينتمي لها دون تفكير أو تخطيط منفرد. والمصطلح كما هو واضح يُطلَق في الأساس على تصرف الحيوانات في القطيع أو السرب من الطيور خصوصاً عندما تستشعر الخطر. وهو سلوك غريزي لا يعتمد إلى ثقافة أو تعليم، ويظهر عادة بين البشر عند مواجهة الخطر أثناء الحروب وفي الكوارث الطبيعية أو غير الطبيعية كأعمال التدمير والجرائم الكبرى.
وفي المظاهرات العنيفة. أول من أطلق هذا المسمى على هذا السلوك وصاغه كنظرية فلسفية علمية هو عالم الأحياء الإنجليزي ويليام دونالد هاملتون (1936 - 2000م) وذكر فيها إن أي عضو في مجموعة ما يخدم نفسه في المقام الأولى، حيث يقلل الخطر عن نفسه بالدخول مع الجماعة والسلوك بسلوكهم، فيظهر القطيع بمظهر الوحدة الواحدة. إنه التكيُّف مع القطيع من أجل النجاة.
وفي بحث نشر عام 1970 بعنوان ”السلوك الأنانيّ والحقود في النموذج التطوريّ“، ناقش هاملتون ما يتعلَّق بالإيذاء الواقع على المرء كونه مُنتج للتكيُّف من أجل النجاة. وقال إن المرء يؤذي الآخرين عمدًا دون فائدة شخصية محتملة، ويسمي هذا الفعل سلوكًا حقودًا، يمكن تفسيره بفرصة المرء لتمرير جيناته الشريرة بإيذاء الذين لا يرتبطون معه بعلاقة جماعية وثيقة.
ولكن من الصعب نسبه السلوك الحقود إلى أي شكل مُعقَّد من أشكال التكيُّف الاجتماعي العام لارتباطه الوثيق بثقافة الجماعة التي ينتمي لها المرء ويمارسه بناء على منهجها. إن التزام المر بمنهج الجماعة الحاقدة يحقق له الحصول على التأييد لقراراته وأفعاله، ويحقق في نفس الوقت مصالحه الشخصية معتمدًا على الآخرين، فيتخذ قراراته اليومية بناء على رغباتهم واتجاهاتهم. وفي المقابل يتحتم عليه أن يهمل تفكيره وقراراته الشخصية وذوبانه بالكامل في الآخرين. وبذلك لا تكون المشكلة الأساسية داخل الجماعة في التغلب على صعوبة اتخاذ القرارات ذاتها، وإنما حول القدرة على قولبة أفراد الجماعة والعمل على اتفاقهم وانسجامهم بشكل مطلق داخل الجماعة، وإلغاء التنوع داخلها، وعدم إفلات الشخصية الفردية من يديها. بالاستيلاء على الهوية الفردية لكل عضو فيها. ومع تآكل الهوية الشخصية، تتصاعد المشاعر ويصبح العقل أكثر تقبلاً لأفكار القطيع واتباع سلوكه. ولذلك يكون إجماع القرارات زائفة وضارة بالجماعة نفسها، إذ لا تعكس البنية الاجتماعية الموجودة بالفعل، ولا تعمل على حل مشاكلها.
لقد أدرك العربان المتأسلمون أهمية قولبة الجماعة بهدف السيطرة عليها وتجنب الشذوذ الفردي، فنبي الأسلمة بصفته القائد الإيعازي (-dir-ective) الوحيد، ألزم أتباعه بالحضور إلى المسجد والصلاة جماعة خمس مرات في اليوم كي يكونوا جميعًا تحت نظره ورهن إشارته، فأصبح لزوم الجماعة وتآلف المسلمين فيما بينهم إحدى قواعد التأسلم. يذكر أبو هريرة عن النبي قوله: « إن الله يرضى لكم ثلاثاً، أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من وَلَّاهُ الله أمركم». يقول النووي في شرح هذا الحديث: « وأما الاعتصام بحبل الله فهو التمسك بعهده، وهو اتباع كتابه العزيز، وحدوده والتأدب بأدبه...أما قوله: ”ولا تفرقوا“ فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين، وتآلف بعضهم ببعض وهذه إحدى قواعد الإسلام».
كما نقرأ عن ابن عمر أن رسول الله قال: «إن الله لا يجمع أمتي - أو قال: أُمَّة محمد - على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومَن شذَّ شذَّ في النار»؛ رواه الترمذي (2166)، وعن ابن عباس قال: قال رسول الله: « يد الله مع الجماعة»؛ رواه الترمذي (2167)، وبيَّن صلعم أن حِرْصهم على الجماعة يُورِثهم القوة ويحفظهم من عُدوان الأعداء؛ فقال: « فعليكم بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئبُ القاصيةَ»؛ رواه أحمد (5: 196 و6: 446)، والنَّسائي (2: 106)، وأبو داود برقم (547)، والحديث صورة مُنتزَعة من حياة العرب في البادية، فالذئب يَسهُل عليه أكل الشاة القاصية البعيدة عن القطيع، فهناك راعٍ يحمي القطيع.
وعن عمر بن الخطاب قال: قال صلعم: « عليكم بالجماعة، وإياكم والفُرْقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، مَن أراد بحبوحة الجنة، فليَلزم الجماعةَ، مَن سرَّته حسنتُه وساءته سيئته فذلكم المؤمن»؛ رواه الترمذي (2165). فأصبحت كلمة الجماعة من حيث الشرع الإسلاموي تشير إلى جماعة المتأسلمين عامة، وتعني إجماع المتأسلمين على أمر خالفهم فيه غيرهم، ولكنها تشير أيضًا إلى جماعة الأئمة والأمراء التي يحرم الشرع مفارقتها أو الخروج عليها، أي طاعتها طاعة عمياء.
ومع ظهور وباء كورونا في العالم، نجد ما تسمَّى بالفتاوى في الخطاب السياسي للجماعات الإسلاموية، فقد طعنت في القرارات الرسمية المتبعة للوقاية من الإصابة بالوباء، بهدف الاستمرار في التلاعب الفكري بعقول القطيع المتأسلم، فالسلفي المصري “ياسر برهامي” مثلًا ادّعى بأن النبي (صلعم)، لم يعفِ من يخشى الإصابة بالمرض من أداء صلاة الجمعة، وأنه لا توجد فتوى بإغلاق المساجد خلال الفترات السابقة رغم انتشار الأوبئة على مر التاريخ. كما تضمنت خطبة الجمعة في الولايات التي تقع تحت سيطرة حركة الشباب المجاهدين في الصومال، عدم  جواز إغلاق المساجد، وجاءت نصًّا: “من يقول بإغلاق المساجد ليسوا من صنعة الطب في شيء ولا هم من أهل العدل والدّين الموثوقين فكيف يؤخذ قولهم؟ فكيف تُترك الجمعة والجماعة التي هي من أوكد العبادات وأجل الطّاعات؛ بل ومن أعظم شعائر الإسلام وخصائص الدّين التي ينبغي المحافظة عليها، فهذا وقت الاعتكاف في المساجد والالتجاء إلى اللَّه..”.
إن من طبائع البشر أنهم غالبًا ما يبحثون عن الآخرين لينضموا إليهم، دون البحث عن أدلة حول أسباب انضمامهم، فعند الاختيار مثلًا بين مكانين متشابهين كالمطاعم أو المحلات التجارية وغيرها، يختار الأشخاص دائمًا المكان الذي به أشخاص آخرون كثيرون، مما يمثل الرغبة في الانتقال مع "القطيع"، والانصهار فيه، لأن هذا الانصهار ضمن الجماعة يعني أن هذه الجماعة تمنحه إحساساً بالقوة والمنعة، مما يجعله يتحوَّل عن صفاته الفردية إلى صفات أخرى تتماهى تماماً مع صفات الجماعة، الأمر الذي يؤدي إلى إيجاد قوالب فردية متشابهة تمكن الفرد بين القطيع من القيام بأي فعل كان، حتى لو وصل به الأمر إلى قتل المختلفين معه أو المخالفين له، فيتحول بذلك إلى كائن لاإنساني، مغيب العقل والمنطق، ومنعدم الضمير لأجل إرضاء قطيعه.
إن السلوك الديني الذي تدعمه ديناميكية المجتمعات المتأسلمة يتسم بأقوى المشاعر العاطفية، ويؤدي إلى تقوية عزيمة المشارك، وتجعله يشعر بالقرب من إلهه وقد يحمل اللاأدري على الإيمان بعقيدة ما. هذه المشاعر لا تحدث لشخص بمفرده أو تكون من الصعب جدًا تنميتها بمفردها، لذلك غالبًا ما تستخدم المؤسسات المتاجرة بالدين قوة الفوران الجماعي لبناء الروابط بين أعضائها ولاجتذاب أعضاء جدد. ولكن هذه المواقف الجماعية، تجعل أفراد القطيع يتخذون قرارت ويكوّنوا آراءً أكثر تطرفًا منها في المواقف الفردية، كنتيجة لاستمرار عملية استقطاب القطيع، مما يجعل الأفراد يدافعون في المناقشات الجماعية عن المواقف الأكثر تطرفًا والقرارات الأكثر خطورة.
يتسم سلوك المتأسلمين عامة بشدة التماسك والتقارب أو التوحُّد في ثقافة جمعية. وإنعزالهم عن الآراء والأجواء المخالفة أو المناقضة لهم. ومازال قائدهم الإيعازي مسيطرا عليهم بنشر اتجاهاته الفكرية ومواقفه المفضلة برعاية رجال الدين وسدنته.
ومازالت تقتصرُ نقاشاتهم على مساحاتٍ محددةٍ من البدائل دونَ مبررٍ واضحٍ ومفهوم، مع حضور الانتقائية في اختيار وتفضيل المعلومات المتاحة لديهم.
تملأهم الثقة المطلقة بحسن أفكارهم ونمط سلوكهم، ويمارسون ضغوطاً مباشرةً على من يستعرض شكوكه حول أيٍ من وجهات النظر السائدة أو من يشكك في سلامة البراهين التي تؤيدها الأغلبية.
يتجنَّب الأعضاء الذين لديهم شكوك أو يحملون وجهات نظر مختلفة الخروجَ عمَّا يبدو توافقاً جماعياً.
ثقافة القطيع السائدة في بلاد العربان والمتأسلمين تخيم على الحياة موالاة وهمية، حيث يكون السكوت هو علامة الرضا.