روزنامة الأسبوع: المهندس جا ورسم البنا!


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 6651 - 2020 / 8 / 19 - 03:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الإثنين
جيلي عبد الرحمن، أحد أهمِّ شعراء القرن العشرين السَّودانيِّين والعرب، ولد عام 1931م بجزيرة صاي النِّيليَّة، أحد مَواطن المحس السَّكُّوت النُّوبيِّين بشمال السُّودان، وتوفي بمعهد ناصر بالقاهرة في 24 أغسطس 1990م. علاقته بمصر بدأت عندما التحق مع والدته، وهو ابن عامين، بوالده الذي كان هاجر إليها عام 1920م، ليعمل بوَّاباً بأحد القصور الملكيَّة في مقاطعة الشَّرقيَّة. حفظ القرآن في السَّابعة، فحصل على الجَّائزة الملكيَّة. في الأربعينات أكمل ثَّانويَّة الأزهر، حيث تشكَّل عقله ووجدانه على كراهة الظلم الاجتماعي لسببين، أوَّلهما حادث مؤلم تعرَّض له في يفاعته، بحي عابدين، حيث حصبه أطفال بحجر أضرَّ بعينه ضرراً بليغاً لم يزُل عنها حتَّى وفاته، مثلما «حصبوه» معنويَّاً، حين طاردوه، من شارع لشارع، ببذاءة عنصريَّة مقيتة. أمَّا السَّبب الثَّاني فهو أن معظم زملاء الأزهر كانوا من رقيقي الحال الوافدين من بلدان أفريقيَّة فقيرة، يعيشون حياة الضَّنك، في ظروف تفتقر لأبسط المقوِّمات الإنسانيَّة، مِمَّا أسلم الكثيرين منهم لأمراض أودت بحياتهم. ومنذ ذلك الحين خبر جيلي المشاركة في المظاهرات الاحتجاجيَّة مِمَّا أفضى لاعتقاله في تلك السِّن الباكرة.
إلتحق جيلي بدار العلوم، وعمل بجريدة «المساء»، ونشر أولى قصائده بجريدة «المصري» في 1953م، في العام التَّالي لتولي عبد النَّاصر السُّلطة عام 1952م، ثمَّ ما لبث أن عمل بجريدة «الجُّمهوريَّة»، قبل أن ينتقل للعمل بجريدة «الفن» عام 1955م. وخلال تلك السَّنوات، تبنَّى الماركسيَّة، فانتمى إلى «الحركتين الدِّيموقراطيَّة والسُّودانيَّة للتَّحرُّر الوطني ـ حدتُّو/ حستُّو»، ثمَّ واصل نشاطه في الحزب الشِّيوعي السُّوداني منذ ذلك الحين وحتَّى وفاته. شكَّلت أعماله الإبداعيَّة على جبهة الشِّعر الحديث، في الخمسينات، مع أعمال زملائه الشُّعراء تاج السِّر الحسن، ومحي الدِّين فارس، ومحمَّد الفيتوري، وآخرين، مِمَّن أُطلق عليهم لقب «الأولاد النُّوبيِّين»، آنذاك، إسهاماً نوعيَّاً ضخماً في تطوير قصيدة التَّفعيلة في مصر، باعتراف كبار الشُّعراء والنُّقاد المصريِّين أنفسـهم!
عام 1964 حصل جيلي مع تاج السِّر الحسن على منحة من اتِّحاد الكتَّاب الأفروآسيويِّين، لإكمال دراسته الجَّامعيَّة بمعهد غوركي للآداب بموسكو، حيث نال الماجستير عام 1969م. بعدها عمل بجريدة «أنباء موسكو»، ثمَّ محاضراً بمعهد موسكو للدِّراسات الشَّرقيَّة التَّابع لأكاديميَّة العلوم السُّوفييتيَّة، حيث نال الدُّكتوراة في الأدب المقارن مطالع السَّبعينات، وبنى، لاحقاً، بطالبته السُّوفييتيَّة مالخات سلمانوفا «ميلا» التي كان يشرف على رسالتها لنيل الماجستير، والتي توفيت، بعد سنوات من ذلك، بسويسرا، بعد أن رزق منها بابنتيه رينا وريم. وخلال فترة موسكو نُشر الكثير من شعره مترجماً إلى الرُّوسيَّة والإنجليزيَّة والفرنسيَّة.
وفي 1977م التحق محاضراً في «علم الجَّمال» بجامعة عدن التي قضى فيها سبع سنوات، وحصل على الأستاذيَّة. لكنه ظلَّ يعاني من أمراض السُّكر، وضغط الدَّم، والنُّقرُس. وحين علم أن الأخير يُسمَّى «داء الملوك»، سخر، قائلاً، بخفَّة ظلِّه المعروفة: «ها هم الملوك، إذن، يقتصُّون منَّا طبقيَّاً»! وفي 1983م انتقل، بناءً على نصيحة الأطباء، للتَّدريس في معهد اللغات والفنون بجامعة الجَّزائر. غير أنه أصيب، في فبراير 1989م، بفشل كلوي، ضمن مضاعفات النُّقرُس، فخضع للغسـيل بمعهـد ناصـر بالقاهرة.
من أعماله المنشورة: «قصائد من السُّودان»، مع تاج السِّر الحسن، القاهرة 1956م؛ و«الجَّواد والسَّيف المكسور»، القاهرة 1968م، وأعيد نشره عام 1985م؛ و«أغاني الزَّاحفين»، مع نجيب سرور، ومجاهد عبد المنعم، وكمال عمَّار؛ و«بوَّابات المدن الصَّفراء» الذي نشرته، بعد وفاته، «المؤسَّسة العامَّة المصريَّة للكتاب»؛ وتَرجم من الرُّوسية لشعراء سوفييت مختلفين، كرسول حمزاتوف، وجنكيز أيتماتموف، وأيان كانيباق وغيرهم؛ كما نشر عام 1958م، مع تاج السِّر الحسن الذي كان ما يزال، وقتها، ماركسيَّاً، كتاباً في الدِّراسات السِّياسيَّة قدَّم له عبد الخالق محجوب، بعنوان «المعونات الأجنبيَّة وأثرها على استقلال السُّودان»؛ بالإضافة إلى مئات الدِّراسات والمقالات المتفرِّقة. وما تزال تنتظر النَّشر مجموعتاه الشِّعريَّتان «الطير المغبون»، و«الحريق وأحلام البلابل».
بدأت معرفتي الشَّخصيَّة بجيلي عام 1968م، عندما جاء إلى السُّودان، في إجازة سنويَّة، بعد غياب طويل، وكان ديوانه «الجَّواد والسَّيف المكسور» قد صدر، وقتها، للتَّو. ولدى انتقالي، أواخر نفس العام، للدِّراسة بالاتِّحاد السُّوفييتي، توطَّدت، أكثر، علاقتي معه، ومع عبد الرَّحيم أبو ذكرى، فما لبثنا أن صرنا، ثلاثتنا، أخدان روح واحد، لسنوات تقضَّين سراعاً، وكان جيلي، خلالهنَّ، بمثابة الأب الرُّوحي لنا.
بعد تخرُّجنا، فرَّقت الأيَّام بيننا، حيث عدنا، عبد الرَّحيم وشخصي، إلى الوطن، تباعاً، ثمَّ غادر عبد الرحيم، ثانية، إلى موسكو للتَّحضير للدُّكتوراة، المغادرة التي لم يعد منها، أبداً، إذ انتحر أواخر العام 1989م! وقبلها كان جيلي قد انتقل إلى عدن، ثمَّ الجَّزائر، لتنتهي رحلة حياته في القاهرة التي كانت، للعجب، قد بدأت بها قبل زهاء السِّتين عاماً من ذلك التَّاريخ! وكنت، قبيل الانقلاب الإسلاموي، قد اعتزمت، كصديق، وتلميذ، وأمين عام لاتِّحاد الكُّتَّاب، زيارته بمعهد ناصر، في طريق عودتي من دمشق التي كنت سافرت إليها للمشاركة في مؤتمر المحامين العرب، في يونيو عام 1989م. فبعثت إليه برسالة أخطره فيها بذلك، دون آن اعلم ما كانت تخبِّيء لنا الايَّام! وكان، حتَّى ذلك الحين، قد رفض كلَّ العروض التي قدِّمت له من حكومات القاهرة، وعدن، والجَّزائر، للمساعدة في علاجه، منتظراً، بإصرار، مساعدة بلاده وحدها! وبعد انقلاب الإسلامويِّين، في الثَّلاثين من ذلك الشَّهر، اضطررت للعودة من دمشق، مباشرة، إلى الخرطوم، حيث اعتقلت، فصارت تلك الرِّسالة ضمن مقتنيات أسرته، بعد وفاته، وقد حملتها، مؤخَّراً، إليَّ، مشكورة، إبنة أخته الصَّديقة النَّاشطة ماجدة صالح، بعد أن ظلت تحتفظ بها لأكثر من ثلاثين سنة، فقدَّرتُ أن تلك الرِّسالة، لما تعكس من مناخات تلك الأيَّام، واهتمام الحكومة الدِّيموقراطيَّة بالمبدعين، فلربَّما كانت ثمَّة جدوى من نشرها، بعد استساخ صور منها لدار الوثائق المركزيَّة، وإرشيف اتِّحاد الكتَّاب، وإرشيفي الشَّخصي، وهأنذا أفعل:
[الخرطوم في 12 يونيو 1989م. أخي الحبيب وأستاذي الكبير جيلي، لك الأشواق والأماني الحلوة الطِّيِّبة. أكتب إليك وأنا في حالة من اللهاث والاستعجال بسبب ظروف سفري، خلال السَّاعات القادمة، إلى دمشق، للمشاركة في مؤتمر المحامين العرب. وسأبذل قصارى جهدي للمجيء إلى القاهرة، خصِّيصاً، لأسعد برؤياك، وأنسك الحلو، وللاطمئنان على أنك عوفيت، فعوفي المجد، أيُّها الشَّاعر المجيد، والمناضل الصَّلد.
جرينا في الخرطوم شمالها وجنوبها، شرقها وغربها، طرقنا أبواب الجَّحيم ذاتها، وخاطبنا طوب الأرض، وساعدنا في كلِّ ذلك حبُّ النَّاس لك، هل علمت أبداً أنك محبوب إلى هذه الدَّرجة؟ إنعم يا صديقي وأوعدنا يا رب! أخيراً توصَّلنا إلى الآتي:
1 ـ أصدرت الأمانة العامَّة لمجلس الوزراء قراراً رسميَّاً بتحمُّل الحكومة لنفقات علاجك بالقاهرة، بحيث يُسدَّد لك فوراً، ومقدَّماً، مبلغ 5000 جنيه مصري، ويخصَّص لك ابتداءً من هذا الشَّهر مرتَّباً شهريَّاً قدره 3000 جنيه مصري إلى أن ينتهي علاجك.
2 ـ وعدَنا رئيس الوزراء في صلب القرار بالنَّظر في أمر تخصيص المعاش الاستثنائي حالَ الفراغ من مسألة العلاج.
3 ـ جمع الاتِّحاد مبلغاً متواضعاً في حدود 30000 جنيه سوداني، واستصدرنا قراراً من بنك السُّودان بالموافقة على تحويله إليك بالدولار الحسابي. وهذه دفعة أولى يا سيِّدي.
4 ـ جميع هذه القرارات والإجراءات قيد التَّنفيذ حالياً، وقد فرغنا من معظمها. الياس شخصيَّاً يقف متفرِّغاً لهذا الأمر.
5 ـ بعثنا إليك بالأخ الأستاذ عبد الهادي صديق، النَّاقد المعروف، والأمين المساعد للشُّؤون الخارجيَّة بالإتِّحاد.
تقبَّل تحيَّات الجَّميع، وأرجو من كلِّ قلبي أن أنجح في مشروع «التَّعريج» على القاهرة لاحتضانك وتقبيلك. ودمت لأخيك كمال الجزولي].

الثُّلاثاء
تناقلت الأخبار، بلا تفاصيل، أن نيابة مكافحة الفساد شرعت، بالأربعاء 24 يوليو 2020م، في استجواب بكري حسن صالح، النَّائب الأوَّل لرئيس الجُّمهوريَّة في عهد الرَّئيس المخلوع، وذلك ضمن إجراءات التحري في البلاغ رقم/228، تحت المواد/89 ـ 90 ـ 91 ـ 110 من القانون الجَّنائي لسنة 1991م، وأن هذا البلاغ سبق أن شاهد محاكمة وإدانة المدعو فهد عبد الواحد في قضيَّة مخدِّرات، والحكم عليه بالسِّجن المؤبَّد، حيث أودع السِّجن، بالفعل، لكن .. للغرابة .. تمَّ الإفراج عنه لاحقاً! أمَّا بكري فقد طلب تأجيل استجوابه كي يتمَّ في حضور محاميه الأستاذ/ عبد الباسط سبدرات! وأن نفس النِّيابة كانت قد استجوبت، في وقت سابق مدير الشُّرطة الأسبق هاشم عثمان الحسين، ضمن نفس البلاغ، وتمَّ القبض عليه، والإفراج عنه بالضمانة!
ثمَّة ستَّة أسئلة لا بُدَّ أن تثور هنا على الفور: كيف أفرج عن فهد عبد الواحد المحكوم عليه بالسِّجن المؤبَّد؟! وما علاقة بكري بقضيَّة مخدِّرات؟! ولماذا تأخَّرت الإجراءات معه إلى ما بعد محاكمة فهد، علماً بأن المتَّهمين في بلاغ واحد يخضعون، كقاعدة، لمحاكمة مشتركة؟! وما هي تفاصيل البلاغ ضدَّ مدير الشُّرطة الأسبق هاشم عثمان؟! ولماذا تأخَّرت محاكمته، أيضاً؟! وكيف وافقت النِّيابة على طلب بكري تأجيل استجوابه ليتمَّ في حضور محاميه، علماً بأن هذا الإجراء غير متَّبع في السُّودان، ومعتاد، فقط، في .. السينما المصريَّة!

الأربعاء
ما يزال التَّعذيب، للأسف، مزروعاً في معظم الثَّقافات، ويمارس في أكثر من مئة بلد حول العالم، رغم حزمة الصُّكوك الدَّوليَّة التي تحظره، ابتداءً من «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948م»، مروراً بـ «العهد الدَّولي للحقوق المدنيَّة والسِّياسيَّة 1966م»، والذي دخل حيِّز النَّفاذ في 1976م، وليس انتهاءً بـ «الاتفاقيَّة الدَّوليَّة لمناهضة التَّعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانيَّة أو المهينة لسنة 1984م»، والتي دخلت حيِّز النَّفاذ في السَّادس والعشرين من يونيو 1987م، وهو التَّاريخ الذي اعتمدته الجَّمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة، في ديسمبر 1997م، يوماً عالميَّاً لمناهضة التَّعذيب. وغالباً ما تقع هذه الممارسة البغيضة، حين لا يلمس المحقِّق رادعاً من رقابة دستوريَّة تكفُّ يده الغليظة، ونفسه المعتمة، عن العبث بحياة وكرامة الآدميِّين، فلا يتوقَّع مساءلة قضائيَّة، أو حتَّى إداريَّة، تلزمه جادَّة المناهج الحديثة التي راكمتها قرون التَّطور المعرفي، والدُّستوري، والأخلاقي، في حقل العلوم القانونيَّة، وسيَّجتها بالمعايير الدَّوليَّة لضمانات حقوق الإنسان، وشروط المحاكمة العادلة، فما ينفكُّ يعود، كلما سنحت الفرصة، إلى مناهج التَّحقيق البدائيَّة المتخلفة!
ولكون «التَّعذيب لا دين ولا مذهب ولا مبدأ له، فإن كلَّ من يُلبسه ثوب عقيدة أو أيديولوجيا إنما يفعل ذلك لإشباع روح العدوانيَّة عنده، ولإلغاء مفهوم الكرامة عند من يخالفه الرَّأى أو المعتقد» (هيثم منَّاع؛ الضَّحيَّة والجَّلاد، مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، 1995م، ص 33). مع ذلك فثمَّة نَّزعة إنسانيَّة ما تنفكُّ تسود، شيئاً فشيئاً، نحو اعتبار «الاعتراف»، بمجرَّده، دليلاً مشوباً بالشُّبهات، والاتِّجاه، من ثمَّ، نحو توطين استبشاعه في ثقافة حقوق الإنسان، ومحوه، نهائيَّاً، من القانون والممارسة. هذه النَّزعة تبلورت عبر مسيرة طويلة ومعقَّدة قطعتها مختلف المجتمعات لاستكمال أشراط إنسانيَّتها، مدفوعة بواعز القيم المعتقديَّة، والثَّقافة المستندة، أصلاً، إلى الفطرة السَّليمة، وكأثر من مشاعر الحرج التَّشريعي جرَّاء كلِّ ذلك التَّاريخ المُثقل بالأوزار.
لقد كان من العار على بلادنا أن تبقى، طيلة الفترة الماضية، خارج مضمار هذا السِّباق التَّشريعي، والسِّياسي، والأخلاقي، إذ كان لا بُدَّ لها من الإسراع بالانضمام إلى الصُّكوك الدَّوليَّة التي تحظر هذه الممارسة البشعة المتخلفة، وعلى رأسها اتفاقيَّة «مناهضة التَّعذيب لسنة 1984م» واتِّفاقيَّة «حماية جميع الأشخاص من الاحتجاز والاختفاء القسري"، والتي دخلت حيِّز التَّنفيذ في 2010م.، وهما الاتِّفاقيتان اللتان اعتمدتهما الجَّمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة في21 ديسمبر 2010م. لكنَّ نظام الإسلامويِّين البائد هو الذي يتحمَّل وزر ذلك العار، حيث ظلَّ معادياً، بطبيعته، لهاتين الاتفاقيَّتين!
مؤخَّراً، أعلن السُّودان، بحمد الله، عزمه المصادقة على الاتِّفاقيَّتين. وجاء هذا القرار الثَّوري في أعقاب اجتماع لقطاع الحكم والإدارة بمجلس الوزراء، بالإثنين 20 يوليو 2020م، والذي أصدر التَّوصية بالانضمام إليهما. ووفقاً لبيان المجلس فإن هذه التَّوصية تأسَّست على أهمية ما تتضمَّنه كلتا الاتِّفاقيَّتين من مبادئ «الحريَّة والسِّلام والعدالة»، بالتَّطابق مع مبادئ ثورة ديسمبر المجيدة.

الخميس
من كان لا يزال يثق في روشتَّات البنك والصُّندوق الدَّوليَّين، ولم يقنتع، بعد، بخطل السَّير، عموماً، بالطريق الرأسمالي، فلينظر إلى مآل بلد كروسيا، وما تسبَّب فيه تحوُّلها إلى السَّير بهذا الطريق من تدمير بنية بأكملها، خلال أقلِّ من عقد واحد، بينما كان تأسيسها قد استغرق أكثر من سبعة عقود! الشَّاهد أنه، ما كاد الاِّتحاد السُّوفيتي يتفكَّك، أواخر 1991م، حتَّى تمَّ، في ما هو معروف، إنفاذ سياسات النَّمط الرَّأسمالي التي أسميت «إصلاحات!»، وكانت أخطرها سياسات الخصخصة، وتحرير السُّوق، وإلغاء ملكيَّة الدَّولة، والتَّخطيط الاشتراكي المركزي. بالنَّتيجة، أفضت إدارة الظهر للإنجازات والمكتسبات الإشتراكيَّة، وإعادة بناء الاقتصاد بأسلوب رأسماليَّة السُّوق، إلى تفجير أزمة اقتصاديَّة اتَّسمت، خلال أربع سنوات فقط، بين 1991م ـ1995م، بانهيار النَّاتج المحلي الإجمالي، والانتاج الصِّناعي، بنسبة 50%! وتسبَّب نقل شركات القطاع العام من يد الدَّولة إلى أيدي الأفراد إلى أن تسود حالة من الكساد نتج عنها انهيار الخدمات الاجتماعيَّة، وانخفاض معدَّل المواليد، وارتفاع معدَّل الوفيَّات.
هكذا هوى ملايين النَّاس في براثن الفقر، حيث ارتفعت نسبته، خلال سنتين فقط، من 1.5%، خلال الحقبة الاشتراكيَّة السُّوفييتيَّة السَّابقة، إلى المراوحة ما بين 39 ـ 49% بحلول منتصف عام 1993م!
فضلاً عن ذلك كله شهد عقد التِّسعينات حالة مريعة من الفساد، والفوضى، والنِّزاعات الأهليَّة المسلحة، وانتشار عصابات «المافيا»، وازدياد معدلات الجَّريمة. وبنهاية ذلك العقد بلغ الرُّوبل «عملة البلاد» حالة مزرية من الضَّعف، كما ترتَّبت على تفاقم عجز الميزانيَّة، عام 1998م، أزمة ماليَّة طاحنة.

الجُّمعة
وصلني، قبل أيَّام، الإيميل التَّالي من الأخ د. محمود بشرى، يقول فيه: [الاخ كمال الجزولي، المقدمة التَّالية نسبت اليك في مقال يُقال إنك كتبته، وجدتها في أحد قروبات الأطباء وأصر الشَّخص النَّاقل على أنها من مقال لك، وذلك كالآتي: «في أعقاب ثورة أبريل ١٩٨٥ بعد فترة انتقالية، عام واحد، واستعجال الانتخابات، اجهضت الإضرابات وصحف الكيزان الثورة والديمقراطية، والآن بعد ثورة ديسمبر سيجهضها: ١ــ احزاب الامة والشيوعي والحركات المسلحة. ٢ــ الكيزان و صحفهم ووسائل الاتِّصال الاجتماعي. ٣ــ الاعتصامات والمسيرات». إنتهت المقدمة المنسوبة لك. الكلام لا يشبهك، وأستغرب أن يُنسب إليك. إذا تكرمت هل يمكن ان تؤكد او تنفي ذلك؟ عشان انقل كلامك للقروبات، فالمقال سينتتشر بسرعة. ولك شكري وتقديري. د. محمود بشرى].
رددت على إيميل د. محمود بما يلي: [عزيزي محمود، تحية واحتراماً، أولاً أشكرك على حدبك، واهتمامـك، وثقتـك في ما أكـتب. ثانياًً أعجــب كيـف تصـل القذارة ببعـض النَّاس إلى هـذا المستوى المنحط، حيث لا يتورَّعـون عن فبركـة الأقـوال ليُنسـبوها إلى الآخـرين. أؤكـد لك أن ما أرسلته إليَّ مشكوراً لم ولن يصــدر عـني، بل هـي فكـرة تافهـة، ومصــاغة، فـوق ذلك، بقدر لا يُحتمل من السَّذاجة والرَّكاكـة. أرجـوك أنشـر هذا الكلام عنِّي، مع جزيل شكري، وعظيم تقديري. المخلص كمال الجزولي].
بعدها بعث إليَّ د. محمود بما يلي: [الأخ كمال، إليك النفي الذي نشرته في القروبات: «وصلني هذا الرد من الاخ كمال الجزولي علي الموضوع الذي نُسب إليه قبل أيام، ينفي فيه نفيًا باتاً أية صلة له بالموضوع لا من قبل ولا من بعد. والكلام أصلاً لا يشبه كمال الجزولي، ولا يمكن ان يصدر عنه. الجداد الاليكتروني غلبو البسويهو، وهذه طريقة رخيصة لإثارة البلبلة وتثبيط الهمم .. أصحي يا ترس»]!
و.. إمعاناً في الخِّسَّة، والنَّذالة، والجُّبن، لم يعقِّب «الشَّخص النَّاقل» على نفينا، بل ولم ينبس، حتَّى كتابة هذه السُّطور، ببنت شفة!

السَّبت
بدعوة من الرَّئيس الجَّنوبأفريقي سيريل رامافوزا، رئيس الدَّورة الحاليَّة للاتِّحاد الأفريقي، وبمشاركة رئيس الوزراء السُّوداني عبد الله حمدوك، ونظيره الإثيوبي آبي أحمد، والرَّئيس المصري عبد الفتَّاح السِّيسي، ورئيس مفوضية الاتِّحاد الأفريقي موسى فكي، إضافة إلى قادة دول أفريقيَّة أخرى، إنعقدت بالثُّلاثاء 21 يوليو 2020م، عبر تقنية الفيديو، قمَّة أفريقيَّة مصغَّرة، حول أزمة «سدِّ النَّهضة» الذي تنشئه إثيوبيا على النِّيل الأزرق، والذي تبلغ طاقته 74 مليار متر مكعَّب. وتعتبر هذه القمَّة مواصلة لاجتماع سابق بشأن الأزمة كان قد انعقد في 26 يونيو المنصرم، وتستهدف، بوجه مخصوص، المشكلة المتعلقة بملء وتشغيل خزَّان السَّدِّ في المرحلة الأولى، حيث تتمسَّك إثيوبيا بحقِّها في القيام بذلك خلال موسم الأمطار الحالي، في ما يرفضه كلٌّ من السُّودان ومصر قبل التَّوصُّل إلى اتِّفاق ثلاثي. وكانت قد تصاعدت اتِّهامات لإثيوبيا بأنها بدأت في الملء فعليَّاً، وذلك على خلفيَّة تصريح أطلقه، في هذا المعنى، وزير المياه والري والطاقة الإثيوبي، سيليشي بقلي! ورغم أن هذا الوزير تراجع، لاحقاً، عن تصريحه، إلا أن مكتب رئيس الوزراء الإثيوبي عاد وأكده في نفس يوم القمَّة! وتفيد أديس أبابا بأن السَّدَّ لا يستهدف الإضرار بمصالح السُّودان ولا مصر، وأن الهدف منه هو توليد الكهرباء وتحقيق التَّنمية. لكن إثيوبيا أقرَّت، مؤخَّراً، بأنّها أكملت عمليَّة الملء، الأمر الذي اعتبرته «نصراً دبلوماسيَّاً!»، كما أشارت إلى أن مستويات المياه خلف السَّد تتزايد. وفي ذات الوقت كشفت هيئة مياه ولاية الخرطوم، في اليوم السَّابق على القمَّة المصغَّرة، عن «انحسار مفاجئ» في منسوب مياه لنِّيل أدَّى لخروج عدد من محطات مياه الشُّرب عن الخدمة! غير أن عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء السُّوداني، أشاد، في تغريدة له عبر تويتر، بالقمَّة، فور انتهائها، قائلاً إنها «أثمرت عن تفاهم على استمرار التَّفاوض للوصول لاتِّفاق بشأن الملء والتَّشغيل»!

الأحد
حكمت التركيَّة السَّابقة السُّودان، في القرن التَّاسع عشر، لما يربو على السِّتين سنة، دون أن تخلف من السِّيرة الأخلاقيَّة، والثَّقافيَّة، سوى ظلم النَّاس، وغلظة العقوبات، وبشاعة أساليب جمع الضَّرائب، حتَّى رسخت في الثَّقافة الشَّعبيَّة أمثال من نوع «عشرة في تُرْبَة ولا ريال في طُلْبَة»! لكن نادر أحمد الشَّريف الحبيب تحدَّث، في كتابه «ملوك أم در»، عن استقرار الحياة الاجتماعيَّة المدنيَّة الحديثة في ذلك العهد، وعن إدخال الكثير من الفنون التُّركيَّة والمصريَّة. ونَقل عن الرَّحَّالة الفرنسي بوركهارت وصفه لمدينة الخرطوم، آنذاك، بأنها جميلة، واسعة الطرق، تعجُّ بالفنادق، والنُّزُل، والمطاعم الحديثة، ومعظم سكَّانها من الأجانب، حيث انتشرت القنصليَّات، وتداولت العملات الأجنبيَّة، كالشِّلن النِّمساوي، والمارك الألماني، والجِّنيه الإنجليزي، والجِّنيه المصري، والرِّيال الحجازي. كما تحدَّث عن الأغنيات التي قال إنها سادت، وقتها، تمجِّد أهل الحِرف، قبل أن تصير، في ما بعد، إلى أغنيات دلوكة، ومن بينها أغنية: «ناري وناري انا/ المهندس جا ورسم البنا/ الله لي بلالي انا»، وكنت أظنُّها من أغاني تمجيد الأفنديَّة التي استُحدثت، قُبيل أو بُعيد نهاية الاستعمار البريطاني، خصوصاً أن من بين كلماتها «الدَّكاترة ولادة الهنا»، وطبعاً لم يكن ثمَّة «دكاترة»، في العهد التُّركي، ولا يحزنون! وقد أكَّد لي هذا الظَّنَّ صديقي الأستاذ عبد الكريم الكابلي، متَّعه الله بالصحَّة والعافية، حين استشرته، فنسب تاريخها إلى أواخر العشرينات، بمناسبة الاحتفال بتخريج دفعة من الأطباء من مدرسة كتشنر قائلاً إن مغنِّي الحفل كان حسن عطيَّة، وقد جاء بصحبة د. حليم الذي كان قد تعرَّف عليه مصادفة، والقصَّة طويلة. فهل من متداخل بمعلومة أكثر وثوقاً؟!

***