رأس المال: الفصل الثالث عشر (65) 10) الصناعة الكبرى والزراعة


كارل ماركس
الحوار المتمدن - العدد: 6649 - 2020 / 8 / 17 - 09:54
المحور: الارشيف الماركسي     



الآلات والصناعة الكبرى
10) الصناعة الكبرى والزراعة
لا يمكن تناول الثورة التي أحدثتها الصناعة الكبرى في الزراعة وفي العلاقات الاجتماعية للقائمين بالإنتاج الزراعي إلا فيما بعد. وتمهيدا للعرض اللاحق، حسبنا الإشارة إلى بعض نتائجها. إذا كان استخدام الآلات في الزراعة يخلو بمعظمه من العواقب الجسدية الضارة التي ينزلها بالعامل الصناعي (1)، فإنه بالمقابل، كما سنبين لاحقا بالتفصيل، يحول العمال إلى «سکان فائضين» بشدة متناهية من دون أن يواجه أي مقاومة. ففي مقاطعتي کمبریدج وسوفولك، مثلا، اتسعت مساحة الأرض المزروعة في السنوات العشرين الأخيرة، بينما تناقص عدد السكان الزراعيين خلال الفترة نفسها لا من الناحية النسبية فحسب، بل من الناحية المطلقة أيضا. وفي الولايات المتحدة لأميركا الشمالية تنوب الآلات الزراعية حتى الآن عن عمال افتراضيين، أي أنها تتيح للمنتج إمكانية زراعة مساحة كبيرة من دون أن تطرد العمال المشتغلين فعلا. وفي إنكلترا وويلز بلغ عدد الأشخاص المنخرطين في إنتاج الآلات الزراعية 1034 شخصا في عام 1861، في حين أن عدد العمال الزراعيين المشتغلين على المحركات البخارية وآلات تنفيذ العمل لم يبلغ سوى 1205 أشخاص.
وفي ميدان الزراعة تترك الصناعة الكبرى أثراً ثورياً أعمق من سواه، فهي تمحق سند المجتمع القديم، أي «الفلاح»، وتحل محله العامل المأجور. وبذلك تصبح الحاجة إلى الانقلاب الاجتماعي، والتضادات الاجتماعية في الريف، متماثلة مع حال المدينة. ويأتي الاستخدام التكنولوجي الواعي للعلم ليحل محل الإنتاج التقليدي واللاعقلاني. ويكمل نمط الإنتاج الرأسمالي للإنتاج تفكيك الاتحاد العائلي الأولي الذي كان يجمع الزراعة والمانيفاکتورة في شكلهما الطفولي البدائي. إلا أنه يوقر في الوقت نفسه المقدمات المادية لمركب جديد، أرقی، هو اتحاد الزراعة والصناعة على أساس شکليهما اللذين تطورا بصورة متضادة. إن الإنتاج الرأسمالي، يكدس السكان في مراكز كبيرة، ويحول سكان المدن إلى أغلبية ضاربة، فيراكم بذلك، من جهة، القوة التاريخية المحركة للمجتمع، ويعرقل، من جهة أخرى، التبادل المادي (الأيض) بين الإنسان والأرض، أي يعرقل عودة عناصر التربة التي استخدمها الإنسان بشكل وسائل غذاء ولباس وإلخ، أي أنه يخرق الشرط الطبيعي الأبدي لديمومة خصوبة التربة. وهو يدمر بذلك في وقت واحد الصحة البدنية لعمال المدن والحياة الروحية لعمال الريف (2). ولكن الإنتاج الرأسمالي إذ يدمر شروط التبادل المادي (الأيض) التي نشأت بصورة عفوية، فإنه يقتضي استعادة هذه الشروط بصورة منتظمة كقانون يضبط الإنتاج الاجتماعي، وبشكل يلائم التطور الكامل للإنسان. وفي الزراعة، كما في المانيفاکتورة، يعتبر التحويل الرأسمالي لعملية الإنتاج منبعا لآلام المنتجين في الوقت نفسه، فوسيلة العمل تغدو وسيلة استعباد ووسيلة استغلال ووسيلة إفقار للعامل، والتركيب الاجتماعي لعمليات العمل يغدو قمعاً منظماً لحيويته الفردية كما لحريته واستقلاليته. وإن بعثرة العمال الزراعيين على مساحات شاسعة تفتت قدرتهم على المقاومة، في حين أن تركز عمال المدن يزيد هذه القدرة. وفي الزراعة الحديثة، كما في الصناعة الحضرية، تتحقق زيادة قدرة إنتاجية العمل ومرونته على حساب إنهاك وتدمير قوة العمل نفسها. يضاف إلى ذلك أن كل تقدم في الزراعة الرأسمالية لا يعتبر مجرد تقدم في فن نهب العامل وحسب، بل في فن نهب التربة أيضا؛ وكل تقدم في زيادة خصوبتها لأمد معين هو في الوقت عينه تقدم في تدمير المصادر الدائمة لهذه الخصوبة. وبقدر ما يزداد انطلاق بلد معين، كالولايات المتحدة لأميركا الشمالية مثلا، من الصناعة الكبرى كأساس لتطوره، تزداد وتيرة عملية التدمير هذه (3). فالإنتاج الرأسمالي، إذن، لا ينمي تكنيك وتركيب عملية الإنتاج الاجتماعية إلا بتدمير المصدرين الإثنين لأية ثروة في الوقت ذاته وهما: الأرض والعامل.

_________________

(1) ثمة وصف مفصل للآلات المستخدمة في الزراعة الإنكليزية في كتاب الدكتور ف. هام: الأدوات والآلات الزراعية في إنكلترا، وإن السيد هام في عرضه لتطور الزراعة الإنكليزية يقتفي، دون حس نقدي بالمرة أثر السيد ليونس دي لا فيرن. [للطبعة الرابعة: بالطبع لقد أصبح هذا الكتاب قديما الآن. ف. إنجلز].
(2) “إنكم تقسّمون الشعب إلى معسكرين متعاديين: ريفيين أجلاف وأقزام مخصيين. يا للسماء! هي ذي أمة منقسمة باختلاف المصالح الزراعية والتجارية لكنها تعتبر نفسها عاقلة، بل تسمي نفسها متنورة ومتمدنة، ليس على الرغم من هذا التقسيم الفظيع وغير الطبيعي، بل بفضله بالذات” (ديفيد أورکهارت David Urquhart، المرجع المذكور، ص 119). إن هذا الموضع يكشف في وقت واحد عن قوة وضعف ذلك النقد الذي يعرف كيف يناقش الزمن المعاصر ويدينه، من دون أن يحسن فهمه.
(3) قارن: لیبش، تطبيق الكيمياء في الزراعة والفسلجة. ولا سيما في المجلد الأول من المقدمة في القوانين الطبيعية للزراعة. وإن تبيان الجانب السلبي للزراعة الحديثة هو، من وجهة نظر العلوم الطبيعية، مأثرة من مآثر لیبش الخالدة. ورغم أن استطراداته حول تاريخ الزراعة، لا تخلو من أخطاء فاحشة، فإنها تلقي الضوء أيضا على بعض المسائل. ومن المؤسف أن نراه يغامر في الإعراب اعتباطاً عن آراء مثل التالي: “إن تفتيت التربة والفلاحة المتكررة تزيدان من تنافذ الهواء في مسامات التربة، وتزیدان وتجددان تلك المساحة من سطحها التي يجب أن يؤثر الهواء فيها؛ ولكن من السهل الإدراك أن زيادة المحصول لا يمكن أن تكون متناسبة طردية مع العمل المنفق في الأرض، وإن المحصول على العكس ينمو بنسبة أقل كثيراً”. ويضيف ليبش قائلا: عبر ج. س. ميل عن هذا القانون لأول مرة في كتابه: مبادىء الاقتصاد السياسي، ص 17. على النحو التالي: “إن غلة الأرض (caeteris paribus) في حالة تساوي الظروف الأخرى ينمو بنسبة عكسية مع ازدياد عدد العمال المشتغلين” (وحتى قانون مدرسة ريكاردو المعروف للجميع يكرره السيد مبل هنا بصيغة خاطئة ذلك لأن “تناقص عدد العمال المشتغلين” the decrease of the labourers employed) (رافق على الدوام تقدم الزراعة في إنكلترا، ولذلك فإن القانون الذي تم اختراعه من أجل إنكلترا وفي إنكلترا، يبدو غير قابل للتطبيق إطلاقا، في إنكلترا بالذات)، و”هذا قانون عام للزراعة”. وإن هذا الجدير بالدهشة لأن ميل بقي جاهلا للسبب الكامن في أساس هذا القانون (ليبش Liebig، المرجع المذكور، المجلد الأول، ص 143، الحاشية). وبدون التطرق إلى التأويل الخاطئ لكلمة «العمل»، التي يفهم منها ليبش شيئا ما مغايراً لما يفهمه الاقتصاد السياسي، فمما يثير الدهشة، على أية حال أنه يجعل من ج. س. ميل اول متنبئ بالنظرية التي كان جيمس أندرسون قد نشرها للمرة الأولى في عصر آ. سميث ومن ثم كررها في مؤلفات مختلفة حتى مطلع القرن التاسع عشر، والتي انتحلها مالتوس، في عام 1815، وهو أستاذ في الانتحال على العموم (فنظريته عن السكان بكاملها ما هي إلا انتحال صفيق)، والتي طورها ويست آنذاك بصورة مستقلة عن أندرسون، والتي ربطها ریکاردو عام 1817 مع النظرية العامة للقيمة، هذه النظرية التي طافت منذ ذلك الحين العالم بأسره تحت اسم ریکاردو والتي ابتذلها جيمس ميل (والد جون س. میل) في عام 1820 والتي كررها أخيراً السيد جون س. ميل أيضا كعقيدة مدرسية جامدة وباهتة. وليس ثمة شك في أن جون س. میل مدين بسمعته بالكامل تقريبا، والمثيرة للدهشة، على أية حال، لمثل هذا الخلط في الأمور (Quiproquo).