درس في الماركسية


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 6636 - 2020 / 8 / 4 - 20:10
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

لم يسبق لآباء الشيوعية، ماركس أو إنجلز أو لينين أو ستالين، أن كتب درساً في الماركسية ويبدو أن الحاجة لم تدْعُهم لذلك على خلاف ما هو قائم اليوم إذ يصل الأمر إلى الطعن بنظرية ماركس بادعاء أنها نظرية ظرفية كانت تحاكي المجتمع الرأسمالي البدائي المتوحش بعكس "الرأسمالية الحديثة" المتأنسنة اليوم بعرف منظري حزب العمال البريطاني أنطوني جيدنز وأنطوني بلير . وهناك من يطعن باللينينية باعتبار لينين مغامراً قام بثورة اشتراكية بغير مكانها وغير زمانها وحتى هناك من طالب بمحاكمة لينين وتجريمه مثل كريم مروة في لبنان . أما ستالين باني الإشتراكية الوحيد في التاريخ فقد تجاوزت جرائمه جرائم هتلر !!
فيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي فقد الكثيرون ممن هم في الصفوف الأمامية في الأحزاب الشيوعية سًلّم الماركسية الذي رهنوا عمرهم في الصعود عليه ليبرأوا من وضاعة جبلتهم البورجوازية الوضيعة . جُنَ جنونهم وفطنوا بعد سبعين عاماً إلى أن الاتحاد السوفياتي لم يكن يوماً اشتراكياً بل كان رأسمالياً إمبريالياً !! هكذا رآه منصور حكمت ومن والاه من خبثاء البورجوازية الوضيعة الذين رهنوا عمرهم ليصعدوا سلم الماركسية كي يكونوا قادة “Leaders” عظماء مطهرين من وضاعة طبقتهم ثم فجأة ولعثرتهم إنهار سلمهم .
الشيوعيون بعامتهم من مختلف الأمم ومختلف الرتب سكتوا على غش بعد الإنهيار كي يتحولوا إلى إصلاحيين يعفون أنفسهم من مسؤوليتهم عن الانهيار وحتى عن معرفة أسبابه بل وحتى عن البحث عنها . وهكذا باتت الماركسية، وهي المنارة الأقوى سطوعاً في محيطات الظلمات، باتت محل خلاف وإرباك وخبا ضياؤها ولم تعد مراكب الشيوعيين تتعرف على مؤانى سلامة الوصول .

وهكذا يبرز "درس في الماركسية" بأهمية قاطعة تكشف أشعة الماركسية الساطعة لمختلف الشيوعيين التائهين في غياهب المحيطات الظلماء وتنير السبل لمختلف مراكب الشيوعيين التائهين، سواء لفلول الأحزاب الشيوعية التي تحولت إلى أحزاب إصلاحية أو لتلك التي فطنت إلى أنها أحزاب للعمال دون سواهم مما دعاها لإنكار مشروع لينين رغم أنه ما زال يحاصر العالم يرغمه على الإنتقال إلى الإشتراكية . الدرس في الماركسية يقول قولاً باتاً هنا وهو أن الماركسية إنما هي القراءة الموضوعية للتاريخ ؛ تلك فقط هي هداية الشيوعيين التائهين .
.الشيوعيون الذين لاذوا بالصمت كي يعفوا أنفسهم من المسؤولية عن الإنهيار وتحولوا بالتالي إلى إصلاحيين في مجتمعات متخلفة (Underdeveloped) هم أهون شراً من أولئك الذين من موقف عدائي ساخط تبرعوا بقراءة معادية للمشروع اللينيني في الثورة الإشتراكية البولشفية .
الشيوعي الساخط بسبب الإفلاس غير المتوقع منصور حكمت إنبرى يقرأ من خياله المريض الإقتصاد السوفياتي باعتباره إقتصاد "رأسمالية الدولة"، ويدعي بأن ثورة أكتوبر لم تغير من أسس الإ قتصاد الرأسمالي الموروث شيئاً . يبدو أن هذا المنصور الذي يفتقر للحكمة لم يقرأ خطاب لينين يسخر من أولئك الذين وصفوا خطة النيب (NEP) برأسمالية الدولة وذكرهم بأن كارل ماركس الذي كان قد عني بكل أشكال الاقتصاد وتوفي دون أن يذكر شيئاً اسمه رأسمالية الدولة ؛ وتساءل لينين كيف يمكن أن يكون لدولة دكتاتورية البروليتاريا إقتصاد رأسمالي !!؟ ليس أمرّ سخرية من شخص ينتقد نظاماً اجتماعياً وهو يجهل تاريخه جهلاً مطبقاً .
قبل أن يروح منصور حكمت إلى مسائل إقتصادية ويدعي أن البلاشفة فشلوا في تغيير الأسس الرأسمالية في الإقتصاد في روسيا كان عليه أن يسأل نفسة عن معنى الموضوعة الرئيسية التي طرحها ستالين على المؤتمر التاسع عشر للحزب في أكتوبر 52 وهي تغيير الإقتصاد السوفياتي من إقتصاد الصناعات الثقيلة إلى إقتصاد الصناعات الخفيفة وقدم لهذا التغيير الخطة الخمسية الخامسة التي وافق عليها المؤتمر بالإجماع . يبدو جليّاً أن منصور حكمت لم يسمع بهذه المسألة الإقتصادية الكبرى فلو عرف بها واستدل على معانيها لما ذهب يدعي بمسائل اقتصادية ليست في الموضوع طالما أن اقتصاد الصناعات الثقيلة الذي طالب ستالين بتغييره ليس اقتصادا رأسمالياً على الإطلاق . منصور حكمت لم يسمع بالموضوع ولا يعرف بالتالي دواعي تلك الخطة وآثارها لو تم تطبيقها في المجتمع السوفياتي ؛ هو لم يعلم بتلك الخطة ولم يعلم بإلغائها بقرار غير شرعي وغير قانوني اتخذته اللجنة المركزية للحزب في سبتمبر 53 . البيان المشؤوم الذي أذاعه الحزب من راديو موسكو هو أن الإلغاء تم من أجل الإنصراف إلى التسلح – وكنت إذاك شيوعيا غِراً أقود خلية حزبية من خمسة أفراد أخبرتهم عن قرار الإلغاء بفرح عارم وقلت .. "طبعا الشعوب السوفياتية ليست بحاجة للخبز والزبدة بقدر حاجتها للمدافع والدبابات . منذ العام 54 وأكثر من نصف الإنتاج السوفياتي – والروسي اليوم – هو من الأسلحة والأسلحة ليست منتوجاً رأسماليا . كانت الولايات المتحدة الأميركية تذيع بيانا سنوياً تشكو فيه من "سباق" التسلح السوفياتي وكنا نكذب الإدعاءات الأميركية حيث لم نكن نعي أن إنتاج الأسلحة في الإتحاد السوفياتي لم يكن بسبب قيمته الاستعمالية كما هي البضاعة بل لأنه الوسيلة الوحيدة التي تحول دون تقدم الإشتراكية الأمر الذي لم تكن تعيه الإدارة الأميركية أيضا وإلا لما قلقت من التسلح السوفياتي، فمن يقاوم الاشتراكية في بلاده لا يمكن أن يعادي البلدان الرأأسمالية ؛ وطالما أن الشيء بالشيء يذكر فالولايات المتحدة لا تستطيع أن تسابق الاتحاد السوقياتي في التسلح على عكس ما يعتقد العامة . كما أن إنتاج الأسلحة في الاتحاد السوفياتي يحول دون بناء نظام رأسمالي مثلما يحول دون تقدم النظام الإشتراكي . الولايات المتحدة لا تسطيع أن تتبرع لدولة حليفة بأسلحة قيمتها 30 مليار دولار كما تبرع الاتحاد السوفياتي لمصر و 20 مليار لسوريا – حدثني أحد الضباط في الجيش السوري في السبعينيات وقال أن سوريا تشتري من الاتحاد السوفياتي كل ثلاث بنادق كلاشنكوف بليرة سورية وهو ما يعادل كل 10 بنادق بدولار واحد ؛ وكان حافظ الأسد قد أكد لصديقه محسن ذلول أن الرئيس السوفياتي أندروبوف تبرع له بثمانين طائرة من نوع ميج كانت سوريا قد خسرتها في مواجهة مع اسرائيل في يونيو 82 .
الأسلحة التي قدمتها الحكومات السوفياتية للدول المستقلة حديثاً دون مقابل خلال العقود الثلاثة الأخيرة من عمر الاتحاد السوفياتي تجاوزت قيمتها 150 مليار دولار، فهل تقوم بمثل هذا دولة رأسمالية !!؟ كما أنفقت الدولة السوفياتية في نفس الفترة 150 مليار دولار على تعليم مئات ألوف الطلاب الأجانب، فهل تقوم دولة رأسمالية بمثل هذا !!؟ قبل أن يحفر منصور حكمت تحت الأرض ليكتشف الأسس الرأسمالية للإقتصاد التي لم يتمكن البلاشفة من تغييرها يترتب عليه مسبقاً أن يفسر كيف يمكن لنظام رأسمالي أن يقدم مثل هذه العطايا !!؟

بالعودة إلى تفاصيل مناقشات المؤتمر العام التاسع عشر للحزب في أكتوبر 52 وقف ستالين بقوة يحذر من أخطار جدية على ستقبل الثورة وتطور الاتحاد السوفياتي بحال بقاء القيادة على ما كانت عليه وطلب من مندوبي المؤتمر عدم انتخاب أي من أعضاء القيادة القديمة لكن المؤتمر لم يستجب لإلحاح ستالين وانتخب نفس القيادة وعرّض بذلك مستقبل الإتحاد السوفياتي للأخطار التي توجس منها ستالين . ستالين رأى الأخطار في القيادة ولم يرها في الإقتصاد وخاصة أن المؤتمر وافق على التحول الاقتصادي الذي طلبه ستالين .

ليس أدل على أن منصور حكمت "ليدر" أخرق من أنه جهل أو تجاهل الأحداث الجذرية في تطور الإشتراكية السوفياتية بدءاً باغتيال ستالين في مارس 53، ثم بإلغاء الخطة الخمسية في سبتمبر 53، وما تلا ذلك من إزاحة مالنكوف واستبداله بخروشتشوف أميناً عاماً للحزب، ثم خطاب خروشتشوف السري يدين ستالين في فيراير 56 – وتراجع عنه خروشتشوف – ثم الإنقلاب العسكري بقيادة اللص المارشال جوكوف وطرد أعضاء المكتب السياسي واستبدالهم بموالين للجيش في يونيو 57، ثم أخيرا إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا وهي دمغة الاشتراكية الوحيدة بموجب ماركس . كيف لرجل ما زال لديه ذرة من الأمانة لأرواح عشرات الملايين من الشهداء الذين افتدوا الثورة الإشتراكية البلشفية بأرواحهم أن يستخف بأرواحهم ويقول أن أولئك الشهداء كانوا مضللين . كبف لأتباع منصور حكمت أن بصدقوا أن عشرات الملايين بذلوا أرواحهم دفاعاً عن الاشتراكية ويأتي ولد من مجتمع متخاف ولد مع بداية انحراف السياسات السوفياتية ليقول أن ملايين الشهداء دافعوا عن كذبة كبرى !! لذلك نحن نطالب أولئك الشيوعيين الذين ما زالوا أعضاء في حزب منصور حكمت أن يحاكموا هذا الولد الإيراني المتخلف على ضوء وقائع التاريخ السوفياتي في الخمسينيات ؛ نطالبهم فقط بأن يقرأوا التاريخ .
منصور حكمت افترض أن إيران دولة رأسمالية قيل نهاية القرن العشرين، وعلى هذا الإفتراض الأخرق بنى كل تنظيراته الخرقاء، مع أن الحقائق على الأرض تؤكد خروق مثل هذا الإفتراض حيث مجمل الدخل القومي في ايران للعام 2015 لم يتجاوز 250 مليار دولار جميعها من عائدات النفط والتي قيمة قوى العمل منها 5 مليارات فقط، فعن أية رأسمالية يتحدث هذا "الليدر" الأخرق !!؟

خاتمة هذا الدرس في الماركسية تقول أن الشباب الشيوعي الذي ضلّ وراء منصور حكمت لم يكن ذلك قطعاً بسبب أضاليل حكمت بل بسبب الحميّة الشيوعية المتوقدة أبداً في الشباب بعد أن لم يكن هناك أدنى شك في أن الأحزاب الشيوعية التقليدية قد تحولت إلى أحزاب إصلاحية تحمي التخلف .
الحمية الشيوعية التي أضلت الشباب وراء حكمت لا بد وأن تدفع بهم من جديد إلى الوعي الماركسي، إلى قراءة التاريخ بموضوعية .