شعب بين المطرقة والسندان 5/3


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 6615 - 2020 / 7 / 10 - 17:07
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

3- حسني مبارك رئيس ” التَّسالي“
وقف مبارك في 14 أكتوبر عام 1981 في أول حضور رئاسي له تحت قبة البرلمان، في جلسة تنصيبه رئيسا لمصر، وقرأ الدكتور صوفي أبوطالب رئيس مجلس الشعب آنذاك، نتيجة استفتاء المصريين على توليه رئاسة البلاد، خلفا للرئيس الراحل أنور السادات، وجاءت نتيجة الاستفتاء الشعبي كالمعتاد 98% بالموافقة. وكانت أبرز ما قاله في الجلسة: "تعالوا نوحد كلمتنا ونوحد صفوفنا، ولنبني مصر بالحب والأمل والعمل، المسؤولية مسؤوليتنا جميعا، لا فرق بين كبير وصغير أو مسلم ومسيحي أو مؤيد ومعارض".
وخلال عهده التي امتد 30 عامًا تفرق الجميع ولم يأتيه أحد لتوحيد صفوفهم وشاعت الكراهية وفقدان الأمل وقلة العمل، وانعدم الإحساس بالمسؤولية تمامًا لديه ولدي غيره وظهرت الفروق واضحة وصاخبة بين الكبير والصغير وبين المسلم والمسيحي وبين المؤيد والمعارض وانهارت القيم ودخل المجتمع بكامله في نفق مظلم من الفساد والانحطاط والتخلف.
لماذا حدث بالضبط؟
عندما ظهر مبارك في آخر افتتاح للدورة البرلمانية في عهده عام 2010م، قال مقولته الشهيرة: ”خليهم يتسلوا“، معلقًا بذلك على إقدام نواب الإخوان المتأسلمين وبعض أطياف المعارضة على إقامة ما يسمى بـ”البرلمان الموازي“. لم ينتبه أحد حينئذ إلى أن هذه المقولة تعكس تمامًا أسلوبه في حكم مصر طيلة السنوات السابقة واللاحقة، حتى أطاحت به الانتفاضة الشعبية في 25 يناير 2011. إتَّسم أسلوبه في الحكم بالتقليل دائمًا من أهمية أن يحكم المرء دولة بحجم مصر، بما عليها ومن عليها، فكان الأمر عنده برمته مجرد تسالي، يتسلَّى بها هو وأسرته وجلاوزته، وليست مسؤولة بالمطلق، يسلُّون أنفسهم بكل شيء وأي شيء، وكل شخص وأي شخص، دن اعتبار لأحد. الجميع يواصلون منظومة التسالي في إذلال العباد ونهب الأرزاق وتخريب البلاد التي وضع أسسها الزعيم الخالد مرورًا بالرئيس المؤمن، الكل يسلَّي نفسه بقدر موقعه وسقف إمكانياته ومدى نفوذه!.
أصبح الضابط الطيار محمد حسني مبارك رئيسا لمصر بعدما نجا من الاغتيال، حيث كان جالسًا على يمين السادات في المنصة وقتما سقط الأخير صريعا برصاص المهاجمين في 6 أكتوبر 1981.
يقال إنَّ كبير المهاجمين الملازم أول خالد الإسلامبولي صرخ فيه قائلًا: إبعد انت! أي طلب منه أن يبتعد عن طريق الرصاص، فظل طوال فترة حكمه الطويلة بعيدًا عن الرصاص وبعيدًا عن السياسة، وبعيدًا عن الشعب، وعن المشاكل جميعها، عملا بالمثل القائل: ”الباب اللي يجيلك منه الريح، سده واستريح“!، فمثلا، عندما تعرَّض لمحاولة اغتيال أثناء زيارته إلى إثيوبيا عام 1995 لحضور مؤتمر القمة الأفريقية، أدار ظهره بعدها لأثيوبيا وأفريقيا بالكامل، عزل مصر عن محيطها الإفريقي، ولم يزر دولة إفريقية مرة أخرى!
أبقى مبارك على بابين إثنين مفتوحين على مصرعيهما، ليعمل من خلالهما بكل تركيز وهمَّة ونشاط، الباب الأول هو توزيع الدولة التى يملكها على ولديْه (علاء وجمال) بالعدل، ليرث أحدهما الثروة و(ربما) يرث الآخر السلطة من بعده، والباب الثاني هو التعامل مع الإسلامويين الذين تركوه على قيد الحياة، تارة بالمغازلة، وتارة بمحاولة الحد من امتدادهم السرطاني الكاسح في المجتمع، مع المحافظة على شعرة معاوية بينه وبينهم!، فعقب اغتيال السادات والقبض على القتلة وتقديمهم للقضاء، شعرت الجماعات الإسلاموية بقوتها، ومن ثم انطلقت إلى عمليات إجرامية أخرى، وبدلا من مواجهتها بحزم، أفرج مبارك عن الكثيرين منهم، وهو الأمر الذي كان كفيلا بتأسيس واقع مختلف وعلاقة من نوع جديد بين الفاشية العسكرية والفاشية الإسلاموية في عهده مقارنة بالعهود السابقة.
فى بداية حكمه سئل عن الفرق بينه وبين الرئيس الراحل أنور السادات، فرد بحسم قائلًا: إسمي حسني مبارك. كانت هذه إشارة التقطها الإسلاميون للتعامل معه ببرجماتية، على أساس أنه يختلف عن سلفه، فغازله عمر التلمساني (مرشد الإخوان المتأسلمين آنذاك) بطريق غير مباشر، عندما قال لبعض الصحف بأن السادات قٌتل مظلومًا كما قتل سيدهم عثمان ابن عفان.
ترك مبارك الجميع من حوله يسلون أنفسهم بكل شيء في مصر، وركز هو تسليته على التعامل مع الإخوة الأعداء، والذي يتطلب بالضرورة مهارة خاصة في امتصاص شحنات الغضب لديهم، وعدم الاعتداد بتهديداتهم أو اللجوء للعنتريات في مواجهة استفزازاتهم، لذلك تعامل معهم بهدوء وبأسلوب يتسم بتغيير المواقف من المحاباة إلى الغموض أو إلى المواجهة الكاملة، كنوع من اللعب بالبيضة والحجر، بحيث تبقى البيضة على تماسكها، ويبقى الحجر على صلابته وقوته!، فرغم اغتيال سلفه وما تلاه من احداث إجرامية خاصة في أسيوط في 8 أكتوبر 1981م، عندما لطخت الجماعات الاسلاموية المدينة بالدماء، لم يبد مبارك استعدادًا للتعامل معها بما تستحقه من حزم، بل عمد إلى إحداث انفراجة ديموقراطية محدودة معهم، فأخرج جميع المتحفظ عليهم فى قرارات سبتمبر من معتقلاتهم، وقد بلغ عددهم 1536 من رموز المعارضة السياسية بكافة أطيافها، وكان معظمهم من الإسلامويين والإرهابيين، كذلك لم يكن لديه مانع من السماح بهامش محدَّد ومراقب بشدة من الحرية لصحافة المعارضة كالوفد والاحرار والشعب والأهالي وغيرها. ولم يكن لديه مانع أيضًا من إتاحة الفرصة للإخوان المتأسلمين المهووسين بالسلطة لدخول مقنن ومشروط في اللعبة السياسية من خلال تحالفات انتخابية مع حزبى الوفد والأحرار، وفي نفس الإطار لا مانع لديه من تقديم مساحات كبيرة للدعاة الإسلامويين المفرج عنهم مثل المشايخ حافظ سلامة وأحمد المحلاوي وإبراهيم عزت وغيرهم للعمل الدعوي في المساجد والزوايا والظهور الدائم في وسائل الإعلام.
ولكن السياسة لا تأتي دائمًا بما يشتهي العسكر، فقد وقع في عامي 1985 و1986، حادثان وجد النظام العسكري بعدهما أنه مضطر للتفكير في التعامل مع الإسلامويين بطريقة مختلفة. الحادث الأول تمثل في دعوة أطلقها الشيخ حافظ سلامة  لـ« مسيرة خضراء» تنطلق من ”مسجد النور“ السلفي فى العباسية إلي القصر الجمهوري فى كوبري القبة عقب صلاة الجمعة 11 يوليو 1985، للمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلاموية، فتجمع على إثر هذه الدعوة أعضاءٌ من معظم الفصائل الجهادية مع أنصارهم، إلَّا أنَّ قوات الامن تصدت لهم بحزم، ومنعتهم من الخروج، فتراجع حافظ سلامة عن استكمال المسيرة في هذا اليوم. أما الحادث الثاني فقد حدث فى أبريل 1986 وتمثل فى مقتل ”شعبان راشد“ الطالب بكلية التجارة وعضو في جماعة إسلاموية، عندما أطلق شرطي النار عليه أثناء تعليقه إعلاناً عن لقاء أسبوعي لجماعته بمسجد الجمعية الشرعية بأسيوط، وهو أوّل قتيل للجماعات الإسلاموية المنظمة منذ اغتيال السادات. حاول مبارك بأوامر شخصية منه استيعاب الحادث إلَّا أن الطالب توفى وهو فى طريقة على متن طائرة إلي مستشفى المعادي العسكري، وتم القبض على الشرطي قاتل الطالب وحكم عليه بالسجن خمسة سنوات.
وفي عام 1991 تمكنت الأجهزة الأمنية من الكشف عما سمي في وقتها بـ ”خطة التمكين” والتي عرفت إعلامياً بقضية “سلسبيل” التي تحمل رقم 87 لسنة 1992، وهي خطة تقع في ثلاث عشرة ورقة، ضبطت في منزل قيادي الجماعة المهندس خيرت الشاطر. وتعتبر أخطر وثائق جماعة الإخوان المتأسلمين السرية على الإطلاق، وهي - كما يبدو من عنوانها - تتعلق بخطة الجماعة من أجل الاستيلاء على الحكم؛ لأن معنى “التمكين” كما تقول الوثيقة بالحرف الواحد: « هو الاستعداد لتحمل مهام المستقبل وامتلاك القدرة على إدارة أمور الدولة، وذلك لن يتأتّى - كما تؤكد الوثيقة - بغير خطة شاملة تضع في حساباتها ضرورة تغلغل الجماعة في طبقات المجتمع الحيوية، وفي مؤسساته الفاعلة مع الالتزام باستراتيجية محددة في مواجهة قوى المجتمع الأخرى والتعامل مع قوى العالم الخارجي».
على إثر ذلك عادت سياسة القبض على أعضاء المجموعات التي تنتمي لتنظيمات مسلحة أو تقوم بتأسيسها، أو تخطط للعنف والاغتيالات، ولكن في المقابل تُرِكت الساحة للمنابر الدعوية، سواء الإخوانية أو الخاصة بالجماعات والجمعيات الإسلامية أو مشايخ الأزهر أو رجال الدين الهُوَاه وتجار الدين القادمين من كل حدب وصوب، وقد تزايد عددهم وانتشروا كالذباب في المدن والقرى على طول البلاد وعرضها، واستمر هذا النهج إلى أن تم ضبط تنظيم «العائدون من أفغانستان» في عام 1992 وتبين أنهم يحاولون اللجوء إلى العنف والإرهاب والنيل من سيادة مبارك، ثم حدث أن اغتيل المفكر العلماني د. فرج فودة في هذا العام، فاخرج مبارك سلاح المحاكم العسكرية، واصدر سلسلة جديدة من قوانين محاربة الإرهاب إلى جانب قانون الطوارئ المفروض منذ عبد الناصر، وأوجب على المشرِّع تحويل القضايا المدنية للمحاكم العسكرية، فكانت هذه بداية تعامل جديد لمبارك مع الإسلامويين.
إتبع نظام مبارك أسلوب الصدام الكلي المشوب بالعنف المفرط للتعامل مع الإسلامويين، ففي هذا العام (1992) احتل 14,000 جندي بعض الضواحي العشوائيات في إمبابة، التي يبلغ عدد سكانها مليون نسمة، لمدة ستة أسابيع، واعتقلوا حوالي 5000 شخص بعد محاولة السيطرة عليها من قبل أعضاء الجماعة الإسلاموية التابعة للشيخ عمر عبد الرحمن. وفي الأعوام التالية قامت الجماعة بشن الحرب على الدولة وعلى الأجانب، فقتلت وأصابت خلال عام 1993 حوالي 1106 شخص. وكان عدد القتلى من الشرطة 120، ومن الإرهابيين 111 قتيل، وقامت الجماعات الإرهابية الأخرى باغتيال العديد من ضباط الشرطة الكبار مع حراسهم الشخصيين من خلال كمائن منصوبة في وضح النهار.
ثم بلغ الإرهاب ذروته في عام 1997 حيث قام المسلحون من الجماعات الإسلاموية بقتل 71 شخص معظمهم من السياح السويسريين في معبد حتشبسوت بالأقصر. وبعد هذه المذبحة ظلت مصر خالية من الهجمات الإرهابية حتى يوليو 2005 عندما قتل 86 وأصيب أكثر من 150 شخص في مدينة شرم الشيخ على البحر الأحمر، فاعتقل مبارك على أثر ذلك آلاف الشباب المنتمي إلي تنظيمات العنف، سواء الدعوية أو الإرهابية، وقدَّم العديد منهم  لمحاكمات عسكرية، وحوَّل الكثير من المساجد والزوايا الخاصة لصالح الاوقاف والأزهر، واطلق العنان لأجهزة الأمن فى محاولة لضبط إيقاع جميع الجماعات الإسلاموية فى الشارع المصري. ولم يتوقف الصدام الكلي مع الجماعات الإسلاموية إلَّا عندما وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 في نيويورك.
ولأن الأمر برمته لا يعدو كونه تسلية انتقائية فحسب، فقد كان هناك استثناءًا في هذه الإجراءات مع جماعة الإخوان المتأسلمين، حيث ترك لهم متنفسا مشروطا لدخول مجلس الشعب لأكثر من دورة، كي يتسلوا بدورهم، خصوصا عام 2005م، حيث حصلوا على 88 مقعدا فى البرلمان بعد أن اعلنوا سياسة المشاركة لا المغالبة.
وفي آخر مراحل التسلية، عاد نظام مبارك بعد أحداث نيويورك إلى الإفراج عن رموز الجماعات الإسلاموية من السجون، والسماح لهم بتأسيس بعض الاحزاب السياسية ذات التوجه الديني، كان في مقدمتها ”حزب الوسط“ لأبو العلا ماضي والذي يقال انه تأسس فى البداية بمشاركة ودعم قوي من الإخوان المتأسلمين، قبل أن يتراجعوا عن دعمه فيما بعد.
اتسم تعامل مبارك مع الإسلامويين في ذلك الوقت بالمرونة والتنوع بين الاحتواء الجزئي والاحتواء المشروط إلى جانب الصدام الكلي. واعتمد في أواخر عهده طريقة جديدة، دمغ بها تجربته السياسية فى فن التعامل مع الإرهابيين، زادت الطين بلة، فقد قبل بالمراجعات والسماح بالمشاركة الإيجابية لبعض الجماعات فى الحياة الفكرية والثقافية والعلمية، سواء داخل الجامعات او المراكز البحثية والصحفية، أو حتى داخل مؤسسة الجيش والشرطة. ونشأ تنوُّع جغرافي في التعامل يختص بمناطق مركز الدول وأطرافها، فمناطق المركز - العاصمة (القاهرة) ومحافظات (وجه بحري) - وهي التي تتحكم فيها الدولة أكثر من مناطق الأطراف، تعامل معها بطريقة «الصدام الكلي»، بينما تعامل مع الأطراف سواء محافظات الصعيد (وجه قبلي) أو سيناء ومطروح التي تعاني من مشكلات اجتماعية وتنموية حادة، بالاستيعاب الكلي أحيانا والاحتواء المشروط أحيانا أخري. وتمكن مبارك بذلك من احتواء العديد من أحداث الفتنة الطائفية، أو الصدام مع القبائل لصالح سياسته. 
فى أثناء كل هذه المراحل تعاملت الجماعات الإسلاموية بكافة فصائلها - باستثناء التيار السلفي بالإسكندرية (الطاعة الكاملة لولي الأمر ــ سلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم)، مع النظام بطريقة برجماتية كاملة تمثلت فى محاولة الإبقاء على قوة التنظيم وتماسكه بعدم وقوعهم فى صدامات سياسية وعسكرية مع الدولة، والنزول على رغبة الدولة بتوجهاتها حتي تستكمل الطريق والقفز عليها حينما تحين الفرصة، وهو ما حدث بالفعل فى ثورة يناير2011، حيت قفز الجميع على خياراتهم السابقة لخيارات أخري مختلفة، استوجبت تعامل الدولة بطريقة هي الأخرى مختلفة.
لم يسلي مبارك نفسه إلَّا بتوريث مصر بالعدل بين ولديه ومحاولة الحد من تفشي الإرهاب الإسلاموي حتى لا يلقى مصير سلفه، ولم يحظى أي شيء آخر بأدنى إهتمام منه فقد ساد الفساد السياسي بشكل دراماتيكي في الوزارات المختلفة والمؤسسات الحكومية والأهلية وانتشر الفساد الأخلاقي والسلوكي في المجتمع برمته، وأصبحت الدولة في حالة ترهل، وزاد تغوُّل الجيش والشرطة على النظام التشريعي (البرلمان والقضاء) من أجل تأمين فترات جديدة لرئاسة مبارك، وقد أدي هذا الفساد لسجن شخصيات سياسية ونشطاء يافعين بدون محاكمة، وتأسيس معتقلات مخفية غير قانونية وغير موثقة في السجلات، والقبض على العاملين بالجامعات والمساجد والجرائد بناء على ميولهم السياسية. وسمح للضابط بانتهاك خصوصية المواطنين بالاعتقال الغير مشروط وفقا لقانون الطوارئ. وعلى عكس عهد السادات أظهرت السينما المصرية الإسلامويين في عهد مبارك على أنهم ”متعطشين للجنس"، حتى أنه عندما وصل الإخوان المتأسلمون للحكم في عام 2012، تمت محاكمة الفنان الشهير عادل إمام والحكم عليه بالسجن ثلاثة أشهر وغرامة 1000 جنيه، بتهمة الإساءة للدين في أفلام شارك فيها قديمًا، الأمر الذي أثار ضجة داخل المجتمع المصري.
ونظرًا إلى أن مبارك رجل عسكري وغير مؤهل لأي عمل سياسي، فقد إتسمت سياسته بالتردد بين من يرى أهمية لدور الحركة الاسلاموية السياسي على أساس أنهم أبناء البلد ولهم حق فيها وأن الصدام معهم سيضعف النظام والبلد بصفة عامة. ويرى ضرورة السماح للاسلامويين بالمشاركة في الحياة السياسية والبرلمان و جالاستقواء بهم في مواجهة ضغوط اوروبا وأمريكا واسرائيل بحجة أنهم سيرفضون المعاهدات والاتفاقات الدولية أو حتى التوجهات السياسية والاقتصادية التي كان يتم املائها من المنظمات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيره من الجهات، وكانوا يعتبرون هذا بمثابة ذكاء ونضج سياسي عالي في اتجاه الديموقراطية، لأنه يحقق المصالح الوطنية عبر لعبة توزيع الأدوار بين القوى السياسية المختلفة سواء كانت في الحكم أو كانت في المعارضة.
أمَّا الرأي الآخر فقد رأى ضرورة إستئصال الحركات الاسلاموية وإنهاء أي وجود سياسي لها للتخلص من معارضتها المزعجة وسعيها الدائب للحصول على الحكم. وأن الصدام المسلح معهم لن يعود بخسارة على النظام الحاكم، ولن يحظى نشطاء الحركات الاسلاموية بأي دعم شعبي.
إن المهام التي أخذها مبارك على عاتقه كانت جميعها مهام شخصية لا تمت إلى الحكم الرشيد بصلة على الإطلاق، بل وقاوم المطالب بإجراء إصلاحات سياسية على مدى السنين، ممَّا أصاب البلد بالشلل السياسي وغياب الرؤية الشاملة وانتشار الفساد. لم يسعى قط إلى حل معضلات مستوطنة في مصر منذ زمن بعيد مثل البيروقراطية واسعة الانتشار والبطالة العالية والتضخم المتفاقم والتنامي السكاني السريع. ولم يكلف نفسه ولو مرة واحدة أن يرى كيف تسير الأمور في مؤسسات الدولة ووزاراتها العديدة، فانهارت وتدهورت أحوالها، وراحت جميعها تعمل لحسابها الخاص على حساب الشعب المطحون والمقهور جهلا وفقرًا ومرضًا.
وفي عهده زادت أعداد الأثرياء بشكل كبير في مقابل تآكل الطبقة الوسطى وزيادة الفقر بنسب كبيرة. وأصبحت طبقة من رجال الأعمال المقربة من نظامه تسيطر فعليا ليس فقط على المشهد الاقتصادي بل أيضا على المشهد السياسي، أو ما بات يعرف بظاهرة "المال السياسي"، ومنهم رجل الأعمال أحمد عز الذي لقب وقتها بإمبراطور الحديد بسبب سيطرته على صناعة وتجارة الحديد في هذا الوقت. ومع بداية من برلمان 2000 ازدادت نسبة رجال المال في السلطة التشريعية "البرلمان" وكذلك التنفيذية "الحكومة"، ومن ثم أصبحت التشريعات والسياسات تصب في مصلحة هذه الفئة على حساب باقي الشعب. وكانت طريقته في مكافحة التطرف الإسلاموي على حساب الحريات المدنية، والمحافظة على قانون الطوارئ، الذي فرض مرة أخرى بعد اغتيال السادات، والسماح بإلقاء القبض على مدنيين دون إصدار مذكرات اعتقال.
وفي صباح يوم الثلاثاء 25 فبراير 2020، أعلن عن موت الرجل الذي أصدر أوامره بقتل المتظاهرين يوم 28 يناير 2011، وكان مسؤولا عن أفجع الكوارث في مصر، وأبشعها على الإطلاق، مثل كارثة حريق قطار الصعيد في 20 فبراير 2002، حيث تفحّم 361 جسدا داخل القطار، وغرق أكثر من 500 مواطن في العبّارة السلام إكسبرس في فبراير 2006، واستيراد المبيدات المسرطنة التي أدخلت المرض والموت لأغلب البيوت المصرية.
طويت صفحة حياته، لكن موته لم يطو سيرته، ولم يطو جراح المصريين الذين زادت معاناتهم من حكمه، إلى جانب ما عانوه من حكم من سبقوه، فتردت أحوالهم أكثر من ذي قبل.
مات الديكتاتور الثالث وترك أمة ممزقة وتتضور جوعًا وتتمرغ في وحل الانحطاط والفساد والتخلف.