وَقَاحَةُ بِيلْ غِيتْسْ!


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 6604 - 2020 / 6 / 28 - 17:43
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الإثنين
أستاذنا الكبير وصديقنا الحبيب محجوب محمَّد صالح غادر، للتَّوِّ، سرير المستشفى، بعد أن أجرى عمليَّة جراحيَّة ناجحة، بحمد الله، لمفصل الفخذ. هاتفته، عشيَّة مؤتمر الشُّركاء، فألفيته يقهقه منشرحاً، ويتهيَّأ كي يمتشق قلمه، ويعود لقرَّائه، داخل وخارج البلاد، محتفياً، كعادته، بالدِّيموقراطيَّة، والسَّلام، والتَّنمية، وحقوق الإنسان. اللهم أنت الشَّافي، ولا شفاء إلا شفاؤك، فاشف محجوباً شفاءً لا يترك علة، ولا يغادر سقماً.

الثُّلاثاء
جاءني، مساء اليوم، أحد «الثَّوريِّين الجُزافيِّين» غاضباً على تعيِّين الحكومة الانتقاليَّة سفيراً يصنِّفه هو من أبناء الطبقة البُورجوازيَّة. لكن، حين حاولت أن أقول له إنه ليس من الضَّروري أن ينحدر الوزراء، والمفوَّضون، والسُّفراء، وسائر المسؤولين من رحم الطبقات الشَّعبيَّة، بقدر ما يلزم أن ينتموا إلى فكر الثَّورة، تفاقم استياءه! ولمَّا ألفيته يلجُّ في الجِّدال استدعيت حكاية قديمة من خبرة الدِّبلوماسيَّة البلشفيَّة، على أيَّام ثورة 1917م، قلت أهديها له لعله يقتنع. فخلال مؤتمر برست ـ ليتوفسك للسُّلام الذي انعقد في عقابيل الحرب الأولى، كان كبيرُ مفاوضي وفد البلاشفة، المنحدر من أصل بورجوازي، يكثر من تحذير المؤتمرين الغربيِّين بأنه لن يقبل المساومة في مصالح العمال وحلفائهم الطَّبقيِّين، فاغتاظ كبير مفاوضي الوفد البريطاني، المنحدر من الطبقة العاملة، وانتابته سَورة ضيق شديد، فأراد أن يحرجه أمام ذلك المحفل، فخاطبه قائلاً باستغراب: أراك، يا صاحبي، تكثر من الحديث عن مصالح العمَّال، وأنت ابن البُورجوازيَّة، بينما لا أفعل ذلك حتَّى أنا ابن الطبقة العاملة! فرد عليه كبير المفاوضين البلاشفة، قائلاً بهدوء: نعم، أنت محقٌّ في ذلك، ولكن كلانا .. خان طبقته!

الأربعاء
في مقالتهما الرَّائعة التي استبقا بها «مؤتمر شركاء السُّودان»، لم يشأ وزير الخارجيَّة الألماني جوزيف ماس، والممثِّل السَّامي للاتِّحاد الأوربِّي جوزيف فونتيليس، أن يستخدما لفظ «الفساد» الفظ في التَّعبير المباشر عن الدَّمار الاقتصادي، وتردِّي الأحوال، كسبب هيَّأ العامل الموضوعي لثورة ديسمبر 1918م المجيدة في السُّودان، وإنَّما ذهبا إلى هذا المعنى بتعبير مطوَّل فحواه، ربَّما من باب التَّأدُّب الدِّبلوماسي، أن الحكومة الانتقاليَّة الحاليَّة «ورثت .. تراكمًا كبيراً لسوء إدارة الموارد، ونظاماً للدَّعم غير المستدام يعيق قدرتها على الاستثمار في المستقبل»!
على أن كلَّ هذه الدَّماثة التي لا يستحقَّ النِّظام المباد شيئاً منها لم تحُل دون أن يسكب المسؤولان الرَّفيعان على الورق عصارة تعاطفهما السِّياسي والإنساني مع الهبَّة الشَّعبيَّة العارمة التي أودت بذلك النِّظام إلى مكبِّ نفايات التَّاريخ، فقالا إنه، «لتوفير شريان الحياة لعمليَّة الانتقال الجَّارية، ولمرافقة جهود السُّودان الخاصة، تظلُّ زيادة المساعدات السِّياسيَّة والماليَّة الدَّوليَّة ضروريَّة، وإن الوقت المناسب للقيام بذلك هو الآن، إذ يجب تجنُّب أيِّ تراجع في عمليَّة الانتقال. لقد تمَّ، بالفعل، اتِّخاذ خطوة مهمَّة نحو شراكتنا الجَّديدة مع السُّودان في مجلس الأمن الدَّولي قبل بضعة أسابيع، حيث وافق المجلس على إطلاق مهمَّة سياسيَّة جديدة للأمم المتَّحدة لمساعدة السُّودان في بلوغ السَّلام والدِّيموقراطيَّة».
بعد شهر من نشر تلك المقالة الحميمة في 25 مايو 2020م انعقد في برلين، في 25 يونيو، ما أطلق عليه عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء، «مؤتمر شركاء السُّودان» الذي تسمِّيه بعض الكتابات، خطأ، «مؤتمر المانحين الدَّوليِّين»، رغم الفارق بين جنسيهما، ورغم الأولويَّة الواضحة المجيَّرة في المقال لـ «المساعدات السِّياسيَّة والمعنويَّة»، فلم يكن أهمَّ أفق لهذا المؤتمر هو جمع المال لبلادنا، رغم السَّخاء الفعلي لما بُذل من منح ومن إعفاءات للدِّيون، لكن لا الطبيعة هي طبيعة «مؤتمرات المانحين»، ولا التَّحضير هو ذات التَّحضير لها، ولا السُّودان دفع بمشروعات محدَّدة طالباً تمويلها، ولا المشاركون اختاروا القطاعات الاقتصاديَّة التي تناسبهم، وذلك بحسب انتباهة رحمة الله محمَّد عثمان، الدِّبلوماسي المحترف، والوكيل السَّابق لوزارة الخارجيَّة الذي لفت إلى إشارة وزير الخارجيَّة الفرنسي لمؤتمر آخر سوف يُعقد في بلاده، وغلَّب رحمـة الله أن يكون هو «مؤتمـر المانحين»!
وإذن، فإن الهدف الأساسي من المؤتمر، وفق ما أجمعت عليه أكثر التَّقديرات، لم يكن جمع المال، بل التَّمهيد لاستعادة السُّودان إلى المكانة التي يستحقُّها في قلب الاهتمام العالمي، ومركز المشاركة الدَّوليَّة، والتي كان أزاحه عنها نظام وخيم قفز، في غفلة من أهل البلاد، إلى سدَّة حكمها، فأمسك بزمامها، وسيطر على مقاليدها، ذات ساعة نحس من ليل 30 يونيو 1989م.
في هذا الإطار عكس المؤتمر، كما سبقته إلى ذلك مقالة السِّياسيَّين الأوربيَّين، مدى ما أضحى العالم يكنُّ من احترام لشعب السُّودان، ومن إعجاب بالتَّغيير الضَّخم الذي احدثته ثورته السِّلميَّة المدهشة، ومن ثقة غير محدودة في قدرته على تجاوز الخراب الذي ورثه عن إحدى أسوأ الدِّكتاتوريَّات خلال العقود الثَّلاثة الماضية. وربَّما يكفي دليلاً على ذلك تعليق حمدوك البليغ في وصف المؤتمر بعد نهايته، بأنه «غير مسبوق»، قائلاً إنه لم يحدث أن رأى، على حدِّ تعبيره، مؤتمراً تتمُّ الدَّعوة فيه لـ 40 دولة ومؤسَّسة ويكون «الحضور كاملاً»، مِمَّا يؤكِّد «المستوى العالي» من «دعم الشُّركاء والأصدقاء» الذي سيأتي، دون شكٍّ، بثماره الجَّيِّدة للسُّودان وشعبه. وأضاف أن العالم بأسره جاء للعمل معنا، رغم تحدِّي الظروف الحالية الموسومة بجائحة الكورونا. ومع تشديده المتكرِّر على التَّنويه بأن ما بيننا والعالم علاقة «شراكة»، لم يفت حمدوك ما يعني التَّأكيد الدِّبلوماسي الدَّقيق على أننا لن نكون فيها من ذوي اليد السُّفلى، كما كان الوضع المزري للنِّظام البائد مع أثرياء المنطقة، بل إن ما نتطلع إليه، حقَّاً، وما سنعمل لأجله، فعلاً، هو أن تكون «شراكتنا متبادلة ومتكافئة»، تلبِّي طموحات شعبنا الكريم، وترسي أساساً متيناً لعلاقة مستقبليَّة مستمرَّة مع «شركائنا» في المجتمع الدَّولي. لذا، وبرغم ضخامة العمل الذي نعتزم القيام به على صعيد «التَّنمية»، والدَّفع قدماً بعمليَّاتها الحثيثة، إلا أننا سعداء بهذا النوع من «الدَّعم» الذي سيوفِّر علينا الكثير من «العناء».
بهذه الكلمات المفتاحيَّة حدَّد حمدوك الدَّلالة الحقيقيَّة للمؤتمر، والبرنامج الفعلي لـ «الشَّراكة»، كما تزدهي بهما، في هذه اللحظة التَّاريخيَّة الوضَّاءة، الرُّوح الوطنيَّة لبلادنا، والإرادة الغالبة لشعبنا. أمَّا الأعداء الدَّاخليُّون والخارجيُّون فلندعهم يلطمون الخدود، ويشقُّون الجِّيوب، ويذرفون سخين الدَّمع على الفشل المتعاظم لمؤامراتهم!

الخميس
يؤلمني جدَّاً أن الكثيرين من مثقَّفي بلادنا، مِمَّن يعارضون حزب الامَّة، لا يميِّزون، للأسف، بينه وبين المهديَّة، ثورة ودولة، فيلحقونها به! ومن منطلق هذا الخلط اللاتاريخاني الفادح درج بعضهم، وفيهم أصدقاء، على مراجعتي في ما أكتب، أحياناً، هنا أو هناك، متباهياً بمناقب المهديَّة! لكنَّني، مهما حاولت أن أوضِّح لهم أن هذه الكتابات هي من قبيل إبراز ما يزخر به تاريخنا من خصائص وطنيَّة رفيعة، فإن محاولاتي ظلت تذهب، دائماً، أدراج الرِّياح، رغم أنها ليست محض جخٍّ أجوف، أو مبالغات كذوب، كما اعتاد أن يفعل، مثلاً، بعض إخوتنا في الجِّوار (!) بل هي حقٌّ مستحقٌّ يجدر أن نوليه عنايتنا، وننشِّـئ عليه أطفالنا، ونجعله أساساً لمناهجـنا في التَّربية الوطنيَّة!
لهذا أطربتني، مؤخَّراً، مقالة عبد الله علي إبراهيم النَّابهة، بالاستناد إلى مخطوطة محمد مصطفى موسى، حول تأسِّي الإيرلنديِّين، في بعض تاريخهم الوطني، بالثَّورة المهديَّة، حيث ورد، في ذلك، أن أمير ويلز، أواخر القرن التَّاسع عشر، والذي صار، لاحقاً، ملك بريطانيا إدورد السَّابع، زار بلدة في إيرلندا، أوان كانت جزءاً من بريطانيا، فانشقَّت حناجر أهلها تهتف في وجهه: «Up the Mahdi, Up the Mahdi عاش المهدي، عاش المهدي»، معتبرين أنهم وشعب السُّودان صنوان في طلب الحريَّة تحت قيادة المهدي الذي لم تكن محافل الوطنيِّين الإيرلنديِّين لتخلو من الهتاف تحيَّة له: «Cheers for the Mahdi»! بل وحدث أن ظهر، مرَّة، في أحد اجتماعاتهم الشَّعبيَّة، رجل معتمٌّ بعمامة، ممتطياً صهوة جواد، وقد تزيأ بجبَّة الأنصار، وعلق على صدره شارة مكتوباً عليها «مهدينا»، وذلك في طليعة موكب يطلق صيحات متقطِّعة، محاكياً ما يمكن للسُّودانيين أن يهتفوا به!
وأورد عبد الله، عن المخطوطة، أن الإيرلنديِّين، من فرط توقهم للتَّحرُّر من بريطانيا، أطلقوا لقب «المهدي» على اثنين من كبار زعمائهم: البرلماني وليام أوبراين الذي لطالما هدر داخل البرلمان منادياً باستقلال إيرلندا، وصدح بالفرح، يوم تحرير الخرطوم في 26 يناير 1885م، وتشارلز ستيوارت بارنيل «مهدي إيرلندا» الذي شاع استبشار الخطب الوطنيَّة بأنه سيصلي الإنجليز ناراً على خطى سميِّه الأصل في السُّودان! كذلك رفض الوطنيُّون الإيرلنديُّون المحاولات البريطانيَّة الخبيثة للتَّشنيع على المهدي بتجارة الرَّقيق، ووصفوا ذلك بأنه العار بعينه! فالمهدي، كما قالوا، حقيقي كالفولاذ، وأحد قرَّاء المسيح مِمَّن أرسلتهم السَّماء ليفرح به كلُّ موطوء في الأرض. وعلى هذا الأساس رفضوا الاستماع لمزاعم بريطانيا عن فظاظته، وعن يده الحديديَّة! كما لم يستشعروا أدنى أسف على مَن وصفوهم بالمغامرين مِن قتلى الجَّيش البريطاني المفترض، إنجليز كانوا، أو حتَّى إيرلنديِّين، فقالوا: «دعوهم ينزفون حتَّى الموت وهم يتمرَّغون في أموال الخديوي الملعون»! وقالوا إن المهدي اكتشف داءهم ودواءهم، «فحوَّل جزءاً كبيراً منهم لمحض طحالب تتوق لأن يُفتك بها»! وسخرت صحيفة إيرلنديَّة من إضفاء الإنجليز بطولة قدسيَّة على غردون القتيل، قائلة إنه، في الحقيقة، لقي النِّهاية التي يستحقها، فهو الذي اختار الحرب، وعليه أن يتحمَّل تبعاتها! وزادت أن صفات النُّبل الإلهي التي أسبغوها عليه هي شمائل لا تمتُّ لهم بصلة! ولعلَّ هذا الجُّزء من المخطوطة يومئ إلى ذات الشَّمائل الملفقة التي حاول رسَّامهم أن يصوِّر بها مشهد «الثَّبات المزعوم» لغردون أثناء قطع رأسه على دَرَج سرايته بالخرطوم!
وضمن أشواقهم إلى «مهديهم» المنتظر، اشتهرت بين الإيرلنديِّين مقالة نُشرت كافتتاحيَّة لإحدى صحفهم، عام 1884م، بعنوان «Harry, Harry, the Mahdi أسرع، أسرع، أيُّها المهدي»، وذلك عندما بلغتهم أخبار الهزائم التي ألحقها جيشه بفيالق فالنتين بيكر في شرق السُّودان، بينما توجُّه غردون من مصر ليتقلد حكمداريَّته العامَّة، فتمنَّت المقالة/ الافتتاحيَّة لغردون نفس مصير بيكر، بل وتنبَّأت بأنه «ليس بوسع بريطانيا عمل شيء حيال انتصارات المهدي التي هزَّت نظام القهر البريطاني الذي ترزح تحته بلادنا إيرلندا». وإلى ذلك تمنَّى الكاتب على الله «أن تبلغ خيول المهديَّة الظافرة أسوار القاهرة، جزاءً وفاقاً للبريطانيِّين على حروبهم الآثمة، واحتلالهـم لأراضـي الشُّـعوب».
في تعليقه على المخطوطة أشار عبد الله إلى تباهينا القديم بأننا معلمو الشُّعوب علم الثَّورة، قائلاً إنه لطالما كان يعتقد أن في ذلك قدر كبير من المبالغة، إلى أن اطلع على هذه المخطوطة فخالجه أننا ربَّما حتَّى لم نعرف، بعد، قدر أنفسنا جيِّداً، إذ نحن، في حقيقتنا، أفضل بكثير مما نعتقد، بل وينتظرنا شغل كثير في الدِّراسات السُّودانية. وأجدني متِّفقاً مع عبد الله، تماماً، في ما ذهب إليه. بل وربَّما لزمني أن أضيف، في باب التَّأكيد على هذا التَّقدير، الوقائع الحديثة المتعلقة بالانفجار الجَّماهيري العاصف الذي عمَّ الولايات المتَّحدة، احتجاجاً على حادثة القتل العنصريَّة البشعة التي راح ضحيَّتها المواطن الأمريكي من أصل أفريقي جورج فلويد، حيث استخدم المحتجُّون آليَّات تأثَّرت، ولا بُدَّ، وبشكل واضح، بآليَّات انتفاضة ديسمبر المجيدة في السُّودان، والتي لطالما ضجَّت بها أجهزة الإعلام، وشاشات التَّلفزة، ووسائط التَّواصل الاجتماعي، على نطاق العالم بأسره، من حيث الاعتصام السِّلمي ليل نهار في أحد ميادين مينابولس، بمنيسوتا، والإشراف على تنظيم إدارته، ذاتيَّاً، بعد «تحريره» من أيِّ وجود حكومي أو شرطي، وابتداع مختلف الوسائل لتأمين الدُّخول إليه والخروج منه بلا عوائق «أرفع إيدك فوق .. التَّفتيش بالذُّوق»، وتزيين حوائطه بالجِّداريَّات، والملصقات، والشِّعارات المطلبيَّة، وترديد النِّداءات المنغَّمة، والهتافات الموقَّعة، فضلاً عن مختلف أشكال التَّضامن مع المعتصمين، كتزويدهم بالمأكل، والمشرب، وسائر احتياجاتهم، مجَّاناً، وما إلى ذلك.

الجٌّمعة
أكثر من أعرف التهاماً للكتب، ومجالدة للمؤلفات الأدبيَّة، إبني وصديقي الشَّاعر، والكاتب، والصَّحفي المبدع مامون التِّلب الذي يذكِّرني، كلما شاهدته مكبَّاً على كتاب، بالهجوم العاصف الذي شنَّه ماريو فارغاس يوسا، الكاتب، والرِّوائي، والسِّياسي، والصَّحفي البيروفي/ الأسباني/ العالمي، الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 2010م، ضدَّ بيل غيتس الذي عبَّر عن حلمه المستفز بوضع حدٍّ للورق، ومن ثمَّ للكتب، وإحـلال شاشات الكومبيوتر محلها، مِمَّا سيوقف، على حدِّ تعبيره، إهدار الغابات في هذه الصِّناعة، فيتيح المزيد من الكلوروفيل في الأجواء! ومع أن يوسا وأدباء كثر، كالتِّلب، يشتركون في تقدير الكومبيوتر، والوعي بالتَّطوُّر التِّكنولوجي الهائل المتحقِّق فيه، إلا أن التِّلب، مثلاً، شغوف، على نحو خاص، بالقراءة الأدبيَّة الورقيَّة التي يعتبر يوسا أن من شروطها توفُّر الحميميَّة والعزلة الرُّوحيَّة، الأمر الذي لا يوفِّره، بامتياز، سوى الكتاب الورقي! لذا قال يوسا، في سياق هجومه على بيل غيتس: «لو كنت حاضراً خلال حديثه، لنازعته بقوَّة، كونه أعلن، بوقاحة، عن نيَّته في إرسالنا، أنا وزملائي الكتَّاب، إلى خطِّ البطالة»!
السَّبت
مصطلح «المثقَّفون» أو «الانتلجينسيا»، مِن اللاتينيَّة intellegentia، بمعنى «العلماء» أو «المفكرون»، يشير إلى الفئة الاجتماعيَّة التي مهَّد لظهورها تقسيم العمل، وانفصال الذِّهني منه عن العضلي، وذلك بحسب أعمِّ التَّلخيصات الماركسيَّة. وفي مقالته «تنشئة وإعداد المثقَّفين وصقلهم» أنفق غرامشي جُلَّ سنوات السِّجن يتقصَّي حدود المصطلح، بالمعياريَّة العامَّة الموحِّدة لهذه الفئة الاجتماعيَّة، من جهة، دون إغفال الفارق المائز بين الشَّريحتين الأساسيَّتين فيها، من جهة أخرى، فصكَّ مصطلح «المثقَّف العضوي» الذي صار يستخدم، أحياناً، للأسف، بصورة رثَّة! وفي هذا الإطار لاحظ غرامشي أن الحديث عن هذه المعياريَّة العامَّة كثيراً ما يقتصر على نشاط المثقَّفين النَّوعي فقط، دون جملة العلاقات الاجتماعيَّة التي يتَّصل بها هذا النَّشاط، أو تنعكس فيه، مِمَّا يمثِّل قصوراً منهجيَّاً شائعاً. فالكفاءة الثََّقافيَّة التي قد يكتسبها، مثلاً، رأسمالي صناعي، ليست هي التي تقرِّر وضعه الطبقي، بل ما يقرِّره هو موقعه من قوى وعلاقات الإنتاج، والأمر نفسه يصدق على الكفاءة الثَّقافيَّة التي قد يكتسبها العامل أو المزارع .. الخ.
الشَّاهد أنه، برغم كون النَّشاط الذِّهني الصِّرف يمثِّل الحقل الأساسي المائز لعمل «المثقَّفين»، بوجه عام، إلا أن ثمَّة استدراكين مهمَّين على هذا التَّعريف؛ فهو، من جهة، أبعد من أن يجعل منهم مالكين للحقيقة المطلقة كما شاع في الماضي! ومن هذه الزَّاوية يمكن أن يُفهم رفض ميشيل فوكو للمغالاة في تقدير سلطتهم، حيث بلغ الأمر في حقبة سارتر، مثلاً، تصوُّر أن يمكِّنك عمل ثقافي ما، في وقت واحد، من إدراك ماهية الحياة والموت، وأسرار الغريزة الجِّنسية، والدَّلالة الفلسفيَّة لمفهوم الحريَّة، وما إنْ كان الله موجوداً أم لا، وما ينبغي أن يكون عليه الموقف الفكري، والخيار السِّياسي، والمصير الوجودي، والعلاقة مع الآخر .. الخ! أمَّا الاستدراك الثَّاني فهو أن هذا التَّعريف لا يجعل من المثقَّفين «طبقة»، حيث يظلون «فئة» تتمايز انتماءاتها في «شرائح»، بحسب تحيُّزاتها الفكريَّة بين الطبقات الاجتماعيَّة. مع ذلك ليس من العسير ملاحظة أن مصطلح «المثقَّفين» أضحى يقتصر، في دارج الاستخدام السِّياسي بالذَّات، على «الشَّريحة» التي تميل انحيازاتها الفكريَّة إلى «الطبقات» الشّعبيَّة، حتَّى ليبدو أن بروز «الخبراء»، تاريخيَّاً، كـ «شريحة» ثالثة، من صلب «فئة المثقَّفين»، جعل هذه الأخيرة كما لو كانت منقسمة، هي نفسها، في الواقع، إلى «فئتين» فحسب: «مثقَّفين» و«خبراء»!
أفضل كوَّة للنَّفاذ إلى هذه الإشكاليَّة هي نموذج "الاستشراق"، حيث نحتاج إلى تدقيق رؤيتنا المعرفيَّة للعلاقة بين «الثَّقافة ـ العلم ـ التَّقانة»، خصوصاً في تمظهرها من خلال اجتهادات المفكرين العرب، باعتبارهم أهل وجع، وأقدامهم العالمثالثيَّة على الجَّمر!
محمد عابد الجَّابري، مثلاً، عُني، في كتابه «المسألة الثَّقافيَّة»، وتحديداً في مبحثه حول «الاختراق الثَّقافي»، بفضِّ التباسين معرفيَّين: أولهما يتعلق بمنزلة «العلم والتَّقانة»، كعنصر في الثَّقافة المنتسبة، بطبيعتها، إلى جغرافيا وتاريخ مختلفين، ومع ذلك لا يعيب «استيرادُها» مبدأَ استقلاليَّتها، إلا عندما يشكِّل «الاختراق» لأجل «الهيمنة» أساس الهدف من «تصديرها» ابتداءً. أمَّا الالتباس الثَّاني فيتعلق بالفارق بين نوعين من هذا «الاختراق»، أحدهما تعرَّضت له الشُّعوب العالمثَّالثيَّة بالأمس، والآخر تتعرَّض له اليوم. النَّوع الأحدث هو المحمول على وسائط المنجز «العلمي ـ التَّقني»، ويتحدَّد بمدى افتقار بلدان العالم الثَّالث إلى هذا المنجز في إطار علاقات «العولمة» الرَّأسماليَّة، أما الأقدم فهو الذي كان جزءاً من الظاهرة الكولونياليَّة الكلاسيكيَّة، خلال القرون18 ـ 19 ـ 20، عندما توسَّل المستعمرون بالدِّراسات «الاستشراقيَّة»، باعتبارها أهمِّ الآليَّات لتعبيد مسالك العمليَّة الاسـتعماريَّة، كالبعثات التَّبشيريَّة، والرِّحلات الاستكشافيَّة، والإرساليَّات التَّعليميَّة، والبحوث الإثنوغرافيَّة.
من جهته كان إدوارد سعيد أكثر من كرَّس جهداً فكريَّاً لفحص ظاهرة «الاستشراق»، ضمن مؤلفه بذات العنوان، لفضح طبيعة الخدمة التي ظلَّ «المستشرقون» يبذلونها للمتروبولات، بتخصُّصهم في جغرافيا البلدان المستهدفة بـ «الهيمنة»، وتاريخ شعوبها، وسبر أغوار إثنوغرافياها، لجهة الثَّقافات، والدِّيانات، والعادات، والموروثات، والتَّقاليد، والأمزجة، وحتَّى الخصائص اللغويَّة، وكلَّ عوامل التَّأثير على حياتها المادِّيَّة والرُّوحيَّة، حتى صاروا «خبراء» في هذه المجالات! هكذا تقاصر دور «الخبير» عن قامة «المثقَّف العضوي» الذي يكرِّس معرفته في خدمة وطنه وشعبه، لينحبس في سمت «المستشرق» الذي يبيع هذه المعرفة لحكومة بلده، أو لأيَّة حكومة أجنبيَّة .. سيَّان!
وربَّما بدا، بعد تصفية النِّظام الاستعماري القديم، في عقابيل الحرب الثَّانية، كما لو أن دور «المستشرق المتروبولي» قد أخذ في التَّراجع، على حين راحت طاقات المثقَّفين في المستعمرات السَّابقة تتفجَّر، على أصعدة التَّحرُّر الوطني، والبناء الدِّيموقراطي، والاستثمار في التَّنمية، واحترام حقوق الإنسان. غير أن ذلك المسار ما لبث أن راح ينقلب، في الواقع، على عقبيه، لعوامل شتَّى، أهمها اثنان: أولهما تراجُع أحلام الدَّولة الوطنيَّة بعد الاستقلال، من التَّحرير إلى القمع، من الدِّيموقراطيَّة إلى الشُّموليَّة، من التَّنمية الشَّعبيَّة إلى مكرمات المستبدِّ العادل! ومن ثمَّ لم تجد الدَّولة المستقلة الوليدة أمامها سوى النَّموذج الكولونيالي الذي لم تكن آثار أقدامه قد امَّحت تماماً، فراحت تترسَّمه! أما ثانيهما فهو أن هذا التَّراجع فتح شهيَّة الامبرياليَّة العالميَّة لتستسهل استعادة «هيمنتها» القديمة على مقدرات الشُّعوب والأوطان التي استقلت! وبانهيار المعسكر الاشتراكي، بعد زهاء الخمسة عقود على ذلك التَّاريخ، استكملت هذه الشَّهيَّة أقصى انفتاحها «يَا لَكِ مِنْ قُبّرَة ٍ بمعمر/، خَلا لَكِ الجَّوُّ فَبِيضِي واصْفِرِي»! ثمَّ ما لبثت أنْ حصُلت، بكارثة 11 سبتمبر، على مبرِّراتها «القانونيَّة»، وربَّما «الأخلاقيَّة»، أو، بالأحرى، «اللاأخلاقيَّة»!
إقتفاء الدَّولة الوطنيَّة أثر النَّموذج الكولونيالي أفرز مزيداً من المشتغلين بالذِّهنيَّات الذين يهجرون مواقع «المثقَّفين العضويِّين» إلى مواقع «الخبراء»، ليخصُّوا الحكَّام، لا الشُّعوب، بخدماتهم، فأدرجتهم الامبرياليَّة ضمن خططها لاستعادة «الهيمنة»! وانظر حولك إلى نماذج هؤلاء «الخبراء» في كلِّ شئ، الذين يخدمون استراتيجيَّات «الهيمنة» في جميع المجالات، من «المال» إلى «القانون»، ومن «الصِّناعة» إلى «النقل»، ومن «المياه» إلى «التَّعليم»، ومن «الهندسة» إلى «الإعلام»، وهلمَّجرَّا. وما من عنزين يمكن أن تنتطحا في أن هذا «الاستشراق الجَّديد» يستمدُّ غذاءه من غالب مناهج المؤسَّسات الأكاديميَّة والبحثيَّة الغربيَّة. وقد لاحظ إدوارد سعيد، في آخر مؤلفاته «الإنسانيَّات والنَّقد الدِّيموقراطي»، تأثير صدمة 11 سبتمبر على راهن النَّقد والعلوم الإنسانيَّة، فصار «الخبراء المحليُّون» يقتفون آثار «الخبراء/المستشرقين الغربيِّين»، وصار الاستعماريُّون الجُّدد يبادرون بإغوائنا للتَّعويل على هؤلاء «الخبراء» كلما وجدونا نتلفَّت، يمنة ويسرة، بحثاً عمَّن نوليه أمرنا، في أيٍّ من أجهزة الدَّولة، أو منظمات المجتمع المدني!
«الثَّقافة» و«الخبرة» مصطلحان، وليسا تعبيرين لغويَّين؛ الأولى تحليق بأجنحة «الحريَّة»، بينما الأخرى خضوع لموجبات «الهيمنة»، ولذا لزم الحذر!
الأحد
قال الأصمعيُّ: بينما أنا أسير بالبادية، إذ مررت بحجر مكتوب عليه «أَيَا مَعْشَرَ العُشَّاقِ بالله خَبِّرُوا/ إِذَا حَلَّ عِشْقٌ بِالفَتَى كَيْفَ يَصْنَعُ»؟! فكتبت تحته «يُدَارِي هَوَاهُ ثمَّ يَكْتُمُ أَمْرَهُ/ وَيَخْشَعُ فِي كُلِّ الأُمُورِ ويَخْضَعُ»! ثمَّ عدتُّ في اليوم التَّالي، فوجدتُّ مكتوباً تحته «فَكَيْفَ يُدَارِي وَالهَوَى قَاتِلُ الفَتَى/ وَفِي كُلِّ يَوْمٍ رُوحُهُ تَتَقَطَّعُ»؟! فكتبت تحته «إِذَا لَمْ يجِدْ صَبْرَاً بِكِتْمَانِ سِرِّهِ/ فَلَيْسَ لَهُ شَئٌ سِوَى المَوْتِ أَنْفَعُ»! فعدتُّ في اليوم الثَّالث فوجدتُّ شابَّاً ملقى تحت ذلك الحجر ميتاً .. يرحمه الله!

***