قصيدة -محكمة عسكرية- لسعدي يوسف : وصف و ترجمة


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 6592 - 2020 / 6 / 13 - 16:39
المحور: الادب والفن     

1. نص القصيدة

محكمة عسكرية
خمسون مرّتْ منذُ أن أدخلتَني ، بـ " معسكرِ التاجيّ " في بغداد
مغلولاً
ومرتعشاً
أُحاكَمُ ...
كان حكّامي الثلاثةُ ، مثل ما قرّرتَ ، ضبّاطاً
وكانوا يلمعونَ
نظافةً
وقيافةً ...
أمّا أنا ، المغلولُ والـمُضنى ، فقد كنتُ الأسيرَ
وكان حرّاسي الذين تناوبوا ضربي اختفَوا ...
وحدي مع الضبّاط !
لم أكُ خائفاً ؛ لَكأنَّ طيراً كان ينقرُ جبهتي ويقولُ :
إرفعْ رأسَكَ !
الرجُلُ الذي هوَ مَن ستحيا : وقفةٌ !
أرجوكَ
إرفعْ رأسَكَ ...
الشعراءُ والأشجارُ أعلى !

طنجة 24.04.2013

2. وصف القصيدة
أ. الحبكة و المضامين
تروي القصيدة لقطات برقية من الذكريات الرهيبة لتفاصيل ملايين جرائم عصابة الحثالات البعثية العميلة (تسنم اثنان منهم منصب رئاسة الوزراء في العراق بعد عام 2003) بحق مئات الآلاف من المناضلين العراقيين الشرفاء عقب انقلاب 8 شياط الأسود 1963 الذي تكفل صنّاعه في لندن و واشنطن و باريس (و أذنابهم حكام القاهرة و الرياض و الكويت و عمّان و طهران و تل أبيب) بوأد ثورة 14 تموز المجيدة و التسبب بأبشع تدمير يعجز حتى الخيال عن تصور مديات فضاعته لمستقبل العراق و شعبه لأطول من قرن كامل لاحق . اللقطات التي ترويها القصيدة على نحو مكثف تتخذ شكل حوار من جانب واحد بين الشاعر و سجانه البعثي الحقير بمناسبة مضي نصف قرن على اقتياد الشاعر مصفداً بأغلاله للمحكمة العسكرية في معسكر التاجي ببغداد . يروي له الشاعر أن حرّاس "الترس قومي" الذين اقتادوه من المعتقل إلى المعسكر كانوا يتناوبون على ضربه و هو الأسير المغلول طوال رحلة التسفير (لفضح مدى خستهم و جبنهم) ، ليختفوا فجأة بعد إدخال الشاعر قاعة المحكمة التي قرر رسيله أن تكون محكمة عسكرية و ليست مدنية وفق القانون .
يركز الشاعر أولاً على وصف التضاد الساطع بين "شكل" منتهى الأناقة للضباط الثلاثة حكام المحكمة العسكريين ، و بين "شكله" و هو الأسير المغلول الذي أضناه عسف الاعتقال و الضرب . ثم ينتقل لتضمين التضاد الجوهري و ليس الشكلي بين الشاعر الإنسان الشريف الضحية و بين جلاديه السقَطَة الذين لن تنفعهم أناقتهم في تطهير نفوسهم الموغلة في الجريمة بحق القيم الإنسانية النبيلة أمام التاريخ . هذا التضاد المركب يشفعه الشاعر بتوكيد عدم خوفه من جلاديه ، و عزمه على أن يقف موقف الرجل الصلب الشجاع و هو مرفوع الرأس لأن الفن (الشاعر) و الحياة (الأشجار) هو أعلى من المجرمين السفلة من حكامه . كل تفاصيل هذه الخاطرة الشعرية تسنح للشاعر و هو على ضفاف البحر الأبيض المتوسط في مدينة طنجة الجميلة بمناسبة مضي نصف قرن على حكم جلاوزة البعث بسجنه و تسفيره لنقرة السلمان لا لشيء إلا لكونه فناناً يعشق الحياة و الجمال المستقبل الوضاء .
ب. الشكل الفني
تتخذ القصيدة شكل الشعر الحر (المرسل) بتفعيلات البحر السريع (مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُ ) للالتفات إلى "تسارع" انثيال الذكريات المظلمة و الجميلة في آن واحد . و هناك تنويع أريب في تشكيلة طول أبياتها السبعة عشر و أسلوب تنقيطها ، فهي تستطيل بلا تنقيط عند الوصف و السرد ، و تتجرد بكلمة واحده أو اثنتين للتوكيد و لفت الانتباه مع التنقيط عبر التركيز ، وصولاً إلى "البيت الضربة" (punch line) : " الشعراءُ والأشجارُ أعلى !". و يمكن تقسيم القصيدة إلى أربعة مقاطع : رباعية (تنتهي بثلاث نقاط) + رباعية (تنتهي بثلاث نقاط + ثلاثية (تنتهي بعلامة تعجب) + سداسية (تنتهي بعلامة تعجب).
3 . الترجمة
في ترجمتي للقصيدة ، حافظت على شكل أبياتها الأصل ، بضمنها اسلوب التنقيط . كما التزمت بتفسيري لدلالاتها دون حذف و لا إضافة ، باستثناء إضافة كلمة (attractive) في نهاية البيت الثامن للتوكيد على كم يمكن لشكل المجرم أن يكون جذاباً (خذوا ترامب مثلاً) ، و كذلك لكي أقفًيها مع روي البيت التالي عليها . و أنا استسمح الشاعر عذراً على اجتهادي هذا .

A Military Court
By : Saʽdi Yusuf

Fifty years have passed since you entered me into “al-Taji Camp” in Baghdad
In fetters
And in flutters
To be tried…
My three judges , as you ruled, were military officers:
They were shiny
In neatness
In uniform: attractive…
As for me, shackled and exhausted, I was the captive.
My guards, who took turns at beating me, have disappeared…
All alone in front of the officers!
I wasn’t afraid as if a bird was clicking my forehead, saying:
“Raise your head!
The man you live up to is: a stand!
I beg you
Raise your head…
Poets and trees are loftier!”

Tangier 24.04.2013