حول الاعدامات الصورية ضد السود في امريكا!


توما حميد
الحوار المتمدن - العدد: 6580 - 2020 / 6 / 1 - 18:49
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

اثار مقطع فيديو لحادث جديد يقوم فيه شرطي امريكي بقتل رجل اسود يدعى -جورج فلويد، 40 عاما، بدم بارد غضبا واشمئزازا على مستوى العالم. المثير للانتباه ان استغاثة الرجل الذي كان يصارع تحت ضغط الجسم الهائل للشرطي الذي يضغط بركبته على رقبة ودون ان يبدي أي مقاومة لم تهز مشاعر أي من افراد الشرطة الأربعة المتورطين في هذه الجريمة. وللأسف فارق هذا الرجل الحياة بعد لحظات من وصوله الى المستشفى.
ان هذا النوع من العنف المفرط من قبل الشرطة الامريكية هي ليست حوادث منعزلة او جديدة، ولكن الجديد هو ان بعض هذه الجرائم خاصة ضد السود بدأت تبرز بشكل متكرر بسبب قدرة المواطنين على توثيقها بواسطة الهاتف الجوال. تختلف هذه المشاهد في الظاهر فقط عن مشاهد الاعدامات التي تقوم بها فرق إطلاق النار للجمهورية الإسلامية او الاعدامات الصورية التي تقوم بها المليشيات الإسلامية في العراق والأنظمة القمعية في ارجاء العالم. هذه الجرائم هي كلها من مستلزمات حكم نظام متعفن. يصور الاعلام الرسمي بان هذه الحوادث، وخاصة حوادث قتل السود، هي أمور شاذة، في حين ان الممارسات الوحشية والعنيفة من قتل واعتداءات ومضايقات من قبل الشرطة هي احداث يومية في الكثير من المدن ومحلات السكن الامريكية، وخاصة تلك التي يقطنها السود والاسيويون واللاتينيون. اذ يعترف 84% من افراد الشرطة الامريكية بأنهم شاهدوا زملاء لهم يستخدمون قوة مفرطة.
ان نظرة بسيطة على سجل الدولة الامريكية تبين بوضوح الخلفية التي تقف وراء هذه الجرائم ومدى كونها دولة بوليسية وعنصرية. يوجد في أمريكا 7.3 مليون انسان خارج السجن بشروط مثل المراقبة المستمرة او الكفالة، كما يقبع 2.3 مليون انسان في السجون الامريكية، وهي اعلى نسبة في العالم بالمقارنة مع عدد السكان، ولايزال يتم تشغيل السجناء كعبيد، يشكل عدد المسجونين في أمريكا ربع عدد سجناء العالم، في وقت ان سكان أمريكا لا يتعدوا 5% من سكان العالم، وأكثر من مليون اعتقال في السنة هي بسبب حيازة المخدرات و46% من كل الاحكام متعلقة بالمخدرات، في حين ان 7.5% هي بسبب التجاوزات على قوانين الهجرة، فقط 23 % من الذي يطلق سراحهم من السجون الامريكية بعد دخول السجن لمرة واحدة ولاي سبب يبقون خارج السجون بشكل دائمي، أي ان 77% ممن يدخلون السجن سوف يتم إعادة سجنهم مرة أخرى، لان دخول السجن يقلل من قدرة الشخص على الحصول على فرصة عمل او مسكن مما يعني انه يجبر ان يعيش على " الاقتصاد غير الرسمي او في عالم الجريمة". ان احتمال ان تطلق الشرطة النار على شاب ذو بشرة سوداء هو أكبر ب 21 مرة من احتمال إطلاق النار على شاب ابيض البشرة. لقد تحول بزنز السجن الى مجمع صناعي، اذ يصرف 80 مليار دولار سنويا على إدارة السجون الامريكية والتي تمت خصخصتها وهي قطاع مربح الى حد كبير، و40% من السجناء هم من السود، في حين ان السود يشكلون 13 % من السكان، وتتصرف الشرطة بان المواطنين السود ومن الاقليات الأخرى هم مذنبون الى ان يتم اثبات العكس ويتم بين 10-12 مليون عملية اعتقال في السنة الواحدة اغلبها هي على مخالفات مثل السكر في منطقة عامة او التسكع والتي غالبا ما يحتاج المخالف الى مساعدة وليس الى شرطي يعتقله.
من الواضح من هذه الأرقام بان 53% من كل الاحكام، أي تلك التي تتعلق بحيازة المخدرات او الهجرة يمكن ايقافها غدا دون ان يكون هناك أي عاقبة على امن وسلامة المجتمع. فالبرتغال مثلا اثبتت بشكل عملي ان مواجهة مسالة الإدمان والمخدرات لا يتم من خلال المؤسسات القانونية والعقابية بل من خلال ازالة الجرم عن الادمان وتقديم الدعم الطبي والنفسي والمالي للمدمنين. . يجب ان نتذكر ان أمريكا لاتزال تمارس عقوبة الإعدام وهي التي شرعت التعذيب في ظل الحرب على الإرهاب ضاربة كل المعاهدات الدولية عرض الحائط. ان القضية ضد جوليان اسانج وحبس جلسي مانينغ لسنوات بعد فضحهم جرائم حرب امريكا تاتي في سياق نفس البلطجة التي تمارسها الطبقة الحاكمة في امريكا . لقد أصبحت أمريكا دولة السجون والعنف والوحشية والترهيب. ان العسكرة المتزايدة للشرطة ناتجة عن ازمة النظام الرأسمالي وتعبير عن ضعف موقع الدولة البرجوازية في نظر المواطن. لقد نفذت الاغراءات الأخرى التي يمكن للنظام تقديمها للطبقة العاملة، لذا يلجا الى القوة المفرطة والخشونة والترهيب الصارخ.
هناك حرب على الأقليات والفقراء والمهاجرين والشباب والعمال العاطلين عن العمل والباعة المتجولين والمشردين تحت ذريعة " الحرب على الجريمة" و"الحرب على المخدرات". تشبه قوات الشرطة في الكثير من الضواحي التي يقطنها السود والفقراء في مظهرها وطريقة تصرفها جيش احتلال، وليس كادر متخصص في توفير الامن. وهناك تشابه كبير بين طريقة التعامل مع الاحياء التي تقطنها الأقليات في أمريكا والتعامل مع جماهير دول قامت أمريكا باحتلالها في السنوات الأخيرة، فالجهود في كلتا الحالتين هي من اجل احتواء وادارة الموقف وليس حل المشاكل التي تواجه المجتمع.
ما يزيد من الغضب في المجتمع الامريكي هو ان هذه الجرائم التي تقترفها الشرطة في الاغلب تمر بدون أي محاسبة او تكون العقوبة تافهة جدا. اذ يحكم على 98.9% من مزاعم القوة المفرطة في نهاية المطاف على ان القوة المفرطة كانت مبررة ويعرف المواطنين عدم التزام الشرطة في الكثير من الاحيان بأبسط قوانين الدولة الدستورية فيما يخص بحق المتهم الخ، اذ ضبطت الشرطة في الكثير من الأحيان وهي تزرع الأدلة التي قد تساعد في ادانة المتهم. فمع وصول نسبة بطالة الشباب في احياء ومناطق معينة إلى 50% في بعض الحالات ، فإن الطريقة الأساسية للطبقة السائدة للحفاظ على "النظام" في مثل هذه الظروف هي من خلال تجريم الشباب ، وترويع السكان على الخضوع ، وإسكات النشطاء الذين يحاربون قمع الشرطة ويدافعون عن حقوق المواطنين.. هذه الامور واضحة لقسم كبير من السود والاقليات الاخرى في امريكا وهو سبب الغضب العارم الذي يجتاح مدن امريكا بعد كل حادثة قتل.

تفسر ظاهرة العنف المنظم من قبل الشرطة خاصة ضد السود من خلال الإرث العنصري لأمريكا، وتاريخ أمريكا المبني على العبودية، غياب المهنية لدى الشرطة او ان سلك الشرطة يجذب أناس غير مناسبين ولهم امراض نفسية، البعد النفسي بين الشرطي العنيف وضحيته، او ان جهاز الشرطة هو جهاز محافظ بطبيعته. بنظري لكل تلك العوامل دور ولكن هي ليست عوامل أساسية. ان السبب الأساسي هو النظام الرأسمالي المتأزم حاليا الذي يقوم بتخليد وإعادة انتاج العنف والعنصرية. فالنظام المتأزم الذي يضع أكثر من خمسين مليون شخص تحت خط الفقر في اغنى دولة في العالم، حيث يعانون من مشاكل اقتصادية هائلة من بطالة وغياب الضمان الاجتماعي وقلة التعليم والرعاية الصحية والتشرد وعدم المساواة والتفاوت الطبقي الصارخ وكل ما تخلقه هذه الظواهر من انحلال مجتمعي وحقد على النظام والوضع الحالي تؤدي الى ارتفاع معدل الجريمة والأزمات الاجتماعية الأخرى من عمليات الانتحار التي تؤدي بحياة 40 ألف امريكي سنويا والمخدرات التي تؤدي بحياة اكثر من 70 الف امريكي اخر في السنة والخ. تقوم البرجوازية بالتصدي لهذه الظواهر عن طريق عسكرة المجتمع وإطلاق يد الشرطة المدججة بالسلاح لإخضاع المجتمع وزيادة قوة وحجم مؤسسات فرض القانون.
ويتسابق الساسة من الحزبين في اظهار "الصرامة ضد الجريمة" وهي طريقة اثبتت فشلها منذ عقود طويلة. النتيجة تكون كما نراها اليوم حتى وان كان كل شرطي يتم توظيفه بروفسور في علم الاجتماع. المسالة هي ليست مسالة نفسية هذا الشرطي او ذاك، بل الظروف الموضوعية التي يخلقها النظام ويزج فيها الافراد. ان العداء والخوف المتبادل بين الجاليات ذات البشرة غير البيضاء وبين الشرطة هي ليست مسائل شخصية. ان عنف الشرطة هو بشكل اساسي لأسباب مادية في المجتمع وليس نتيجة لأفكار عنصرية في رؤوس افراد الشرطة. في الحقيقة حتى الأفكار العنصرية هي انعكاس للواقع المادي في المجتمع، وليس العكس. ولذلك لقد اثبتت سياسة تجنيد المزيد من السود في سلك الشرطة فشلها أيضا. حتى الإرث العنصري الماضي ودور العبودية في بناء أمريكا لا يفسر العنصرية التي تظهر للعلن في سلوك الشرطة، فتأثير هذا الإرث كان سيكون تافهاً ويمكن تجاوزه بعد جيل او جيلين إذا لم يكن النظام يعيد انتاج هذه العنصرية. ان عنصرية النظام الحالي هي من متطلبات اخضاع الطبقة العاملة. ولكن لا تجد أي إشارة الى هذا الموضوع في أي مكان، اذ يمكن التطرق ونقد كل المسائل الثانوية التي تقف وراء العنف والعنصرية الا النظام الذي يولد هذه الظواهر.
إذا كنا بصدد تغير الطريقة التي تتصرف بها الشرطة، فان جزء كبير من ذلك سيتم عبر تغيير القوانين التي تطبقها. فمئات الالاف من الشباب يقبعون في السجون بسبب حيازة المخدرات التي لا تعتبر جريمة في مجتمعات أكثر تماسكا وامانا من المجتمع الأمريكي. يجب ان يكون الموضوع الأساسي هو ماذا يتم توكيل الشرطة للقيام به وليس فقط الطريقة التي تقوم بها. يجب ان لا يسمح للشرطة باعتقال الناس في الكثير من الحالات، سوآءا كان ذلك بطريقة عنيفة او بطريقة لطيفة ومؤدبة مثل اقتناء كميات صغيرة من المريوانا او بيع سكاير بالمفرد او النوم في الشارع نتيجة التشرد. ان الاعتقال مرة واحدة مهما كان مهذبا قد يدمر حياة الفرد. ضمن حدود هذا النظام لا يمكن تغير مستوى الجريمة من دون تقليل المستويات الفلكية للفقر وغياب الرعاية الصحية والتعليم وتحسين نوعية الحياة الرثة التي تفرض على شرائح واسعة من المجتمع. ان مكافحة العنصرية والعنف لا تتعلق بمكافحة الأفكار السيئة في رؤوس الافراد وفتح دورات تثقيفية للشرطة، بل من خلال توزيع أفضل للثروات وتوفير حياة كريمة للبشر وكل الإمكانات موجودة للقيام بذلك، ولكن يجب ان لانعقد الكثير من الآمال على هذا النظام، إذا ان فشل هذا النظام على مدى عقود هي ليست مسالة إدارية. لقد نفذت صلاحية هذا النظام وهو غير قابل للإصلاح. المشاكل والتناقضات التي نعيشها تقول ان النظام الرأسمالي يعيش مراحل حياته الأخيرة. بنظري لأنهاء عنف الشرطة يجب الإطاحة بالنظام الرأسمالي، اذ لا تتعدى مؤسسة الشرطة احدى الأجهزة المسلحة التي تدافع عن الطبقة السائدة ومصالحها. ان واجب الشرطة هو اجبار المواطنين على الامتثال للقانون الذي يخدم مصالح الطبقة البرجوازية. مادامت الهيئات التشريعية تدافع عن الرأسمالية، تبقى القوانين التي تصدرها بالضد من مصالح الطبقة العاملة وستبقى الشرطة تمارس العنف والعنصرية لإخضاع الطبقة العاملة، ولكن عادة ما تظهر هذا الحقيقة بشكل ملتوي وغير مباشر. ان الوحشية ضد شرائح لهم قدرة اقل لحماية انفسهم من بلطجة الشرطة هي ليست من اجل ارهابهم وإخضاعهم فحسب ، بل لإخضاع كامل الطبقة العاملة واستغلالها بدون رحمة من قبل ارباب العمل. ان عنف الشرطة لوحده هو سبب كافي لكي نطمح ونناضل من اجل تغير هذا النظام. يجب على الشيوعيين توظيف أي احتجاج في المجتمع لغرض توضيح التناقضات الطبقية وتبيان ضرورة انهاء عمر هذا النظام. ان الاحتجاجات ضد العنصرية في أمريكا هي قضية طبقية وهي قضيتنا نحن الشيوعيون.