توجيهات سيادة الرئيس


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 6553 - 2020 / 5 / 3 - 11:11
المحور: الفساد الإداري والمالي     

تعد مصر من أكثر الدول المتخلفة التي تُدار سياسيًا واجتماعيّا وثقافيّا وإعلاميّا بقرارات وتوجيهات وتعليمات من شخص واحد فقط يحكم بأمره، منذ الاغتصاب الأول للسلطة على يد العسكر قبل 68 عام. لقد حاول الزعيم الخالد البكباشي عبد الناصر عسكرة المجتمع وتحويله إلى قطيع مطيع ومريح، من خلال تنظيمات قولبيَّة مثل الاتحاد القومي (1957)، الاتحاد الاشتراكي (1962) ومنظمة الشباب الاشتراكي (1964) وغيرها، بهدف خلق قنوات لتسهيل مرور الأوامر الرئاسية مباشرة إلى الشعب، وكأنه كتيبة في الجيش، ولكنها فشلت جميعها، وتم إلغائها لا حقًا. وفي عهد السادات توقفت عملية عسكرة المجتمع في خضم محاولاته اليائسة بالفعل لإزالة الحد الأدنى من آثار الدمار المادي والنفس للدولة والمواطنين نتيجة لهزيمة الجيش الكارثية في عام 1967. وفي عصر مبارك دخلت الدولة في حالة سيولة عارمة وتسيُّب وعدم انضباط في كافة نواحي الحياة، مما فسح المجال لظهور قوتين كبيرتين على الساحة السياسية: الأولى مجموعة جنرالات الجيش المسماة بالمجلس العسكري، والثانية مجموعة الإسلامويين المعروفة بالإخوان المتأسلمين.
كلنا نعرف أن المجموعة الأولى قضت على الثانية من خلال مسرحية مأساوية دامية، ثم اتجهت إلى عسكرة السياسة الداخلية والخارجية للبلاد، بدلا من عسكرة المجتمع!. وهي عسكرة مختلفة تمامًا، إذ تتطلب وجود نظام حكم خاص يتماهى معه الأغلبية العظمى من المواطنين ويضبطون أنفسهم عليه وينسِّقون حياتهم تبعًا له كرهًا أو طواعية دون انتباه إليه، وفي كل العصور السابقة واللاحقة وجميعها عسكرية، أديرت البلاد بتعليمات وقرارات وتوجيهات سيادة الرئيس، ومع ذلك إذا سألنا 100 مليون مصري: من يحكم مصر الآن، فسوف نحصل على ما يقرب من 100 مليون إجابة دون مبالغة، ولا نجد منها إجابة واحدة واضحة وصريحة!
بالطبع سوف تنحصر جل الإجابات حول شخص الرئيس، وقد يضاف إليه بعض المسؤولين في الدولة، الذين يمكنهم المداومة على الظهور في وسائل الإعلام ليدلوا بتصريحات كاذبة وقد أعِدَّت لهم سلفًا وبتوجيهات من سيادة الرئيس، أو نقرأ في وسائل الإعلام عن تحركاتهم هنا أو هناك للقيام بمهام دعائية عقيمة وغير مجدية، أيضًا بتوجيهات من سياته.
أهم سمات هذا النظام هو خوف الجميع من قرارات السيّدِ الرئيس لأنها غير متوقعة ووقعها يثير في آن واحد مشاعر الألم لدي البعض ومشاعر الفرح لدي البعض الآخر، فهي قد تكون مجرد تغييرًا للشخوص والعرائس، أو تغييرًا لحالة الاسترخاء، وقد تأتي خلسة في الخفاء أو مخزية في العلن، والشخوص من ناحيتها متخشبة تستمتع بالاسترخاء، ولا تتحرك من أماكنها إلّا بتوجيهاته وتعليماته وأوامره التي لا يستطيع توجيهها إلى الجميع. إنها إذن محاولة للتحكم في كل شاردة من البلاد أو واردة إليها، والسيطرة على نوايا العباد والتحكم في ضمائرهم، من خلال قنوات أعدت خصيصًا لهذا الهدف!
نعرف أن مصر في عام 1952 انسلخت عنوة عن الحكم الملكي النيابي بأحزابه وحرياته الصاعدة، على أيدي ثلة من ضباط الصف الثاني الفاشلين في الجيش، وقد دانت لهم مقاليد السلطة في البلاد دون عناء يذكر بزعامة البكباشي جمال عبد الناصر، الذي قال عنه أنيس منصور في كتابه (عبد الناصر المفترى عليه والمفترى علينا) أنه ”لم يكن يقرأ شيئاً من أساسه“، فتنكروا عمدًا لنظام الحكم الديموقراطي الناشئ أنذاك، وحولوا نظام الحكم إلى فاشية عسكرية مستدامة، فظهرت عندئذ وعلى الفور تعبيرات لم تكن تسمعها مصر من قبل، وأحسبها عصية على السمع في أية دولة أخرى مالم تكن متخلّفة ولا تعرف طريقها السياسي الصحيح، مثل: قرارات سيادية، وتوجيهات سيادة الرئيس! وأصبح جميع المواطنين في مصر سواء كانوا وزراء أو خفراء، عاملين أو عاطلين، رسميين أو مدنيين، نخبويين أو عاديين، يجلسون على أرائكهم المريحة في انتظار القرارات السيادية والتوجيهات الرئاسية!
كيف حدث ذلك؟ ولماذا؟
بالطبع لا يمكن لشخص بعينه، مهما كانت قدراته المهنية والذهنية أن يحكم بمفرده دولة ما، خاصة إذا كانت بحجم مصر، فيدير جميع مؤسساتها ويوجِّه الدولة بسياستها الاقتصادية والثقافية، وعلاقاتها الدولية وغير ذلك، بقراراته الشخصية وتوجيهاته الوقتية وتعليماته الشفهية ، لذلك لا بد وأن تكون هناك سلطة أخرى تكمن وراءه وتقوم بإعدادها وإملائها عليه، ليمليها بدوره على الشخوص أو العرائس الخشبية التي تحت إمرته، وقد تم اختيارها بعناية شديدة بحيث لا تقول شيئًا ولا تفعل شيئًا لأنهم باشوات. والأهم من كل هذا، ألَّا تلقي عناية تذكر للعواقب المترتبة على تنفيذ قرارات وتوجيهات السيد الرئيس التي لا يتناطح بشأنها عنزتان؟!
لقد حملهم النظام على ان يكون كل اهتمامهم منصبّا على حماية الرئيس وأسلوب عمله وليس إلى جانب حماية جيوبهم وتعميرها بالأموال المنهوبة وحدها.
قد يقول قائل إن الهدف من ذلك هو تعظيم وتبجيل وتفخيم سيادة الرئيس، وإظهار عبقريته المجيدة ومكانته الفريدة وأهميته الوحيدة وسطوته التليدة التي لا ينازعه فيها أحد أمام الشعب، وهذا شيء ترنو إليه النفس البشرية تحت ظروف خاصة، لا سيما عندما ”لا يعرف الألف من كوز الذرة“. ولا يعرف أيضًا أن أي من تفخيم وتعظيم وتبجيل وتأكيد رفعة وسطوة سيادته أمام الشعب، لا يمكن أن تتحقق ولن تتحقق إلا عندما يتخلَّى عن الشخوص والعرائس الخشبية العاملة تحت إمرته واستبدالها بأشخاص يتسمون بالكفاءة والفهم الواجبين لآداء أعمالهم، ويمكنهم القيام بأعمالهم على الوجه الأكمل دونما انتظار أية قرارات أو توجيهات من أحد على الإطلاق، الأمر الذي يشرِّف ويعظِّم ويبجِّل ويفخِّم …، أولًا من اختارهم لمنصبهم، وثانيًا من يعملون تحت رحمته، وهو بالطبع سيادة الرئيس، فالهدف هو تحريك المؤسسات الموجودة لآداء مهامها التي وجدت من أجلها، وليس من أجل تأكيد نرجسية السيد الرئيس!
أثناء الملكية في مصر كان لكل شخص لقب تفخيم وتعظيم وتبجيل معين ومحدد تبعًا لمكانته الوظيفية والاجتماعية، وكان أهمها ألقاب ”الباشا والبِك وصاحب المقام الرفيع …“، ولا يحق لأحد أن يلقب بأي من الألقاب، مالم يصرِّح له جلالة الملك بذلك ويصبغه عليه في حفل بهيج، ولكن يبدو أن الضباط بوجه عام وضباط الصف الثاني بوجه خاص، وجميعهم من الشباب اليافعين، عندما تخلوا عن مهنتهم الحقيقية، وأصبحوا حكامًا غير مؤهلين للحكم، وقد رفعوا رتبهم إلى أعلى وحملوا على صدورهم وأكتافهم النياشين اللامعة، أصابهم التعطش لألقاب التفخيم والتعظيم والتقديس، فتحولوا إلى (سوبر بشوات) بحسب الدكتور حسين مؤنس في كتابه المشهور. وشاعت في وجودهم ألقابٌ جديدة بسطت سلطانها على من يستحقها ومن لا يستحقها.
لا ارتياب في أن إطلاق الألقاب جزافًا تنثر بذور الغرور والصلف في نفس الشخص العاجز والفاشل الذي ”لا يعرف الألف من كوز الذرة“، ولم يقرأ شيئاً من أساسه، وتدمغ وجدانه بالتعالي والنرجسية، فيظهر أمام جموع غفيرة، تم جمعها خصيصًا من أرجاء البلاد ليعلو عليها، ويملأها بانفعالات الغرور التافه والرفعة الكاذبة والصلف المدمِّر. ومع مرور الزمن فقدت تلك الإجراءات أهميتها مع فشل عسكرة المجتمع، وانعدم تأثيراتها. وعندما حدث الانقلاب الثاني في عام 2013 على يد ضباط الصف الأول (الجنرالات)، وصعَّدوا أنفسهم إلى سدة الحكم، وجعلوا أحدهم يجلس في البرج الذهبي للرئاسة ويخاطب الناس من وراء حواجز مادية ونفسية، ويرسل لهم رسائله وقراراته وتوجيهاته، وأيضًا هذياناته وهلوساته. وفي مسرحية اجتماعاته مع ”العرائس الخشبية“ العاملة تحت أصابعه، يتم وضعهم بعيدًا عنه كي يتمكن من تحريكهم والتحكم في حركاتهم. يضعهم تحت عينيه، كيلا يطمع أحد منهم في التعالي عليه. تنحرف وتتألم رقابهم لتتركز أنظارهم عليه في خشوع وخضوع، الأعين لا ترتجف، الشفاه ارتسمت بابتسامة صفراء أو بلهاء، والأفواه مقفلة حتى لا يدخلها الرصاص، لا شيء سوى سيادة الرئيس أمامهم ونهم البحر خلفهم. لا يشغل أذهانهم إلَّا كيفية الحفاظ على مناصبهم، وكيفية أن تظل جيوبهم عامرة بالمال. إنهم ليسوا أهل ثقة بقدر ما هم خدَّام، أو مجرد ”عرائس خشبية“ تحركها أصابع ”الضباع“ الذين يقفون وراء سيادة الرئيس، ويغذونه بالقرارات والتوجيهات والتعليمات. وهو من جانبة لا يكف عن إصدارها لمن لا يفقهون ولا يتحركون ساكنًا. إنهم لا يعملون ولا يقدرون على العمل، لأن من لا يعمل لا يخطئ، ومن لا يخطئ لا يتعرض للإزاحة والأباحة، فالضباع لا ترحم الجِيَف، ونَهَم الجوع يرضيها دائمًا بالجِيَف.
إن حكام الدول المتخلفة في جميع المجالات، يقعون سريعًا في فتنة السلطة ورونق الجاه، لذلك لا بد من تقديسهم وإطلاق أياديهم بحرية للتصرف في كافة شؤون الدولة، فلا يحاسبهم أحد على مواردها وتوجهاتها المالية، يشتري ويبيع في الأصول ويتصرف في الأموال كما يحلو له، تحت شعارات دينية وسياسية مرونته وزئبقيته، وإن تجرَّأ أحد على التساؤل (بينه وبين نفسه) عما يفعلون يُعَد خائنًا ويُعرِّض الأمن القومي للخطر، ومن ثم يجب إيداعه السجن مدى الحياة أو حرمانه من الحياة بتصفيته معنويًا أو جسديًا!
أولئك السادة الحكام لا يثقون بأنفسهم ولا بعرائسهم الخشبية أو بغيرهم، بحكم ما بهم جميعًا من جهل وتخلف وعجز عن العمل السياسي، ولقناعتهم بأنهم لا يتمتعون بأدنى خيال سياسي أو كفاءة مطلوبة للحكم، فهم جاؤوا إلى السلطة بأساليب ملتوية وحقيرة، وقد تم اختيار عرائسهم بناء على مدى خضوعهم وانصياعهم لنهج سيادة الرئيس، وتتويج فخامته التليدة وتبجيل عظمته الفريدة وإظهار عبقريته المجيدة، لذلك وغيره لا يضع أولئك الحكام كل ثقتهم إلاَّ في بني جلدتهم وحدهم، ولا يثقون، بل ويتجاهلون ويحتقرون، أهل العلم والمعرفة والخبرة، فيوكلون عملية السيطرة على مواطنيهم إلى أحد أضلعهم القوية، ليمسك بالخيوط التي قد تفلت من بين أيديهم، هذا الضلع هو عادة أحد أبنائهم الذي يرون فيه خليفة لهم، فيحمِّلونه أسرارهم ويدعونه يتحَكَّم في كل شاردة وواردة من شؤون البلاد.
والإبن الذي يقاطع العلم والمعرفة منذ نعومة أظفاره، يجب أن يكون أشد قسوة وتوحش من والده، وأن يحيط نفسه بثلة من الضباع الضارية، يرأسها شيخ متمرس وعتيد في عالم الضباعة والصياعة والولاء والغباء، بحيث يكون الأب الروحي والمعلم الأكبر وكل شيء بالنسبة له، فيسمع كلامه وينفذ تعليماته ويحترم أراءه. شيخ الضباع هذا يعمل في الظلام أو وراء الكواليس كما يقال، فيصدر القرارات ويبتكر التوجيهات التي تبدو وكأنها صادرة من سيادة الرئيس، وسيادة الرئيس لا يعرف عنها شيئًا، ولماذا صدرت، وما هو الهدف منها؟ إنه لا يحب الإزعاج، ويتأفف من التفكير ويفزع من العمل الجاد، كل ما يفرح قلبه ويسعد نفسه المظاهر الاحتفالية، والتجمعات المنتقاه بعناية والمسيطر عليها من قبل الضباع!
شيخ الضباع يكرة نفسه وبلده والعالم بأسره، ولديه أجندة خاصة به، أجندة شخص معتل نفسيًا (سيكوباتي)، يلعب دور الإنسان العاقل، ولديه قدرة كبيرة في التأثير على السذج والتلاعب بأفكارهم وفي مقدمتهم من هم أعلى منه، ويتلذذ بإلحاق الأذى بمن هم أدنى منه، خاصة بأي شخص لا يروق له. وهو عذب الكلام، يعطي وعوداً كثيرة، ولا يستطيع أن يفي منها بشيء. ويتسم بالسطحيه وانعدام الشعور بالخجل، وبالفقر العام فى الانفعالات، ويفضل البعد عن العلاقات الشخصيه. وأنه نشأ وترعرع في أحضان عادة المكر والغدر والاحتيال. إنه الشخصية المناسبة لمنظومة حكم الضباع، الذين يعانون من الشعور بالضعف الذاتي والتفكك والفشل تجاه الضغوط الخارجية المستمرة، فيتحولون بفشلهم في الخارج إلى ترسيخ فشلهم في الداخل، ويصبحون آلية للتدمير الذاتي وتدمير البلاد والعباد. إن الفشل في الخارج مدعاة قوية للانقضاض على الداخل وترسيخ الفشل في التعامل معه.
قرارات سيادة الرئيس وتوجيهاته ما هي إلاَّ علامة الفشل في التعامل مع القضايا الخارجية والداخلية، وتبدو وكأنه هو وحده الذي يتحمل المسؤولية عن هذا الفشل، وفي المحصلة لن يتحمل هو أو غيره أي فشل على الإطلاق، فالجميع في حمايته. إنه الإله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. أهم شيء يقوم به الضباع هو خلق قنوات من أعلى القطيع إلى أسفله لامتصاص الغضب من الفشل، وضبط حركته!
سيادة الرئيس ومجموعة الضباع العاملة وراء الكواليس لا يرون سوى شهوة التملك والتسلط والتوحُّش، التي ما أن يراها المرء حتى يعمى تمامًا عن العواقب، بحكم ما فيه من قسوة القلب ومرض النفس، فهم يرون أن البلد وما فيها ومن عليها أملاكًا خاصه لهم، من حقّهم تقسيمها فيما بينهم ووضع شعبها بكامله تحت أسنانهم. إنهم السادة الذين لا يحاسبون على أفعالهم مهما كانت مدمِّرة ماديا أو معنويًا، والآخرون عبيدًا، يخضعون عنوة أو بالرضا لتدميرهم، هم يملكون المال والحرية والكرامة الإنسانية والآخرون يتسولونها، يتسولون منهم حياتهم بكاملها، فينعمون عليهم بالفتات وليس بدون مقابل. لذلك لا بد وأن يدسوا أنوفهم في كل شيء ويضعون أعينهم على كل شيء وكل شخص.
وفي السياسة الخارجية، يتعامل الضباع مع الدول الفاعلة في المجتمع الدولي بنفس أسلوب الهدايا والتملق والخنوع، إعتقادًا منهم بأن الجميع أغبياء أو أن أعينهم ستستحي عما يفعلونه في داخل بلادهم.
المشكلة ليست في وجود أولئك الضباع بقدر ما هي في الفريسة التي تستسلم لهم خوفًا وتتماهي معهم نفاقًا وتتباهي بهم غدرًا.