أعياد الدكتور سينوت حنا


حمدى عبد العزيز
الحوار المتمدن - العدد: 6543 - 2020 / 4 / 22 - 00:21
المحور: سيرة ذاتية     

كان يوم الخميس الذي يسبق عيد القيامة المجيد أو عيد الميلاد من كل عام .. هو اليوم الذي يتوجه فيه كل من عبد المجيد الدويل ، سعد قنديل ، علي عبد الحفيظ ، تيسير عثمان (رحمة الله عليهم) ، وكذلك مجدي شرابية وعبد المجيد أحمد وكاتب هذه السطور ..إلي مدينة دمنهور ..
يأتي منا من يأتي مسافراً من قريته البعيدة أو قريته القريبة ، ويأتي من يأتي مسافراً من مدينته البعيدة أو مدينته القريبة إلي حيث عيادة الدكتور سينوت حنا لنجد كل من ثروت سرور ، وفاروق الحديني ، وزهدي الشامي ، وآخرين من رفاق العمر قد سبقونا إلي العيادة (حيث أنهم كانوا يقيمون في مدينة دمنهور ، وكانوا هم الأقرب إلي حيث العيادة التي تطل علي مبني فرع عمر أفندي في دمنهور)
كل من ذكرت وغيرهم ممن لم تسعفني الذاكرة إلي ذكره من الرفاق والأصدقاء يتوجهون إلي حيث كانت هناك حجرة صالون خاصة في العيادة منعزلة عن حجرة الكشف وصالة الإستقبال وحجرة انتظار المرضي ..
كان الدكتور سينوت حنا قد خصص هذا الصالون للقاء رفاقه وزملائه ، لنقضي هذا اليوم مع الدكتور سينوت حنا ، في ساعات تمتد بالدردشات والنقاشات إلي أن ينقضي النهار ..
باستثناء من غيبهم الموت (نهائياً) ، أو حالت (مؤقتا) ظروف المرض أو السجن دون التجمع في عيادة الدكتور سينوت .. كان هذا طقسنا ، وظل منذ السنوات الأخيرة السبعينيات وحتي وحتي أوائل الألفية الثانية ..
كانت ظروف كل منا (والتي تتنوع مابين الظروف الجغرافية ، والأمنية والمستجدات التنظيمية والسياسية) تباعد بيننا لفترات ، ذهب منا من ذهب بأفكاره يساراً أو يميناً ، واختلفنا ، واتفقنا .. لكن عيادة الدكتور سينوت حنا كانت هي نقطة تجمعنا طوال تلك السنوات ..
كان هذا اليوم - دون أن نصطلح علي ذلك - هو عيد لنا بمايحمله لنا العيد من معنا ، فقد كان يوم نتقاسم فيه البهجة والدفء الإنساني حول أكواب وفناجين القهوة وقطع الكعك والبسكويت التي كان يقدمها لنا الدكتور سينوت حنا ، كما لو كان يعيش العيد عيدين .. عيد في خميس ماقبل الأعياد معنا في دمنهور ، وعيد في إجازة الأعياد مع الأسرة والأهل في الأسكندرية ..
الدكتور سينوت حنا كان مناضلاً من أنقي وأخلص من عاصرت من مناضلي اليسار المصري ، وكان علي درجة كبيرة من الثقافة العميقة الموسوعية الشاملة ، وعلي درجة من العمق الفكري ، والعقل الجدلي المرتب ذو القدرة علي تحليل الظواهر والأحداث ، وطبيعة العلاقات التي تحكمها علي نحو بارع ونافذ يستخلص الدروس ، ويضع حلول مواجهتها بذكاء وبعد نظر شهد له كل من عاصره سواء من قيادات اليسار ، وكوادره ، أو من الفعاليات التي تعاملت معه من كل التيارات السياسية المصرية ..
وكان صديقاً لكثير من كبار مثقفي مصر والعالم العربي ، وهو مالم ويعرفه الكثيرون ممن رافقوه لأنه (كما عرفته عنه ولمسته فيه كتلميذ جمعتني به أبوة حقيقية وصداقة شخصية) .. كان من النوع الذي يكره الأضواء ولايتحدث كثيراً عن جوانب مسيرته الشخصية ..
كان صديقاً شخصياً للكاتب الروائي السوداني الطيب صالح ، والراحل احمد حمروش السكرتير السابق لمنظمة تضامن الشعوب الأفروآسيوية ، وعبد الرحمن الشرقاوي ، وللأديب الكبير الراحل يوسف إدريس ، وعبدالله الطوخي ، وعبدالمعطي المسيري ، ومحمد صدقي ، وأمين يوسف غراب والدكتور عبد الوهاب المسيري ، وصلاح حافظ ، وعبدالرحمن الأبنودي ، وغيرهم من كتاب ومفكري وأدباء أجيال الستينيات والسبعينيات العظيمة ..
لم يكن أحد من هؤلاء يصدر كتاباً أو عملاً ، أو يعقد نشاطاً إلا ويرسل نسخة من أول إصداراته ، أو دعوة حضور إلي الدكتور سينوت حنا ..
وصالون العيادة المذكور آنفاً كان مقصداً دائماً لكبار أدباء ومثقفي البحيرة ، شهدت كأحد - متردديه الدائمين - مناقشاتهم وأحاديثهم الأدبية والفكرية ، بل أن هذا الصالون كان بمثابة الترانزيت الذي يمر عليه الشاعر والكاتب الراحل نجيب سرور قبل أن يصعد لزيارة شقيقه ثروت سرور الذي كان يقطن أعلي عيادة الدكتور سينوت في نفس العمارة ..
شهدت في هذا الصالون مناقشات أستاذي وصديقي الرائع الناقد الأدبي والمترجم الكبير سيد إمام الصاخبة بإثارته لروح الجدل فيمن حوله ، وأحدث قصائد صديقنا وزميلنا الشاعر الكبير صلاح اللقاني ، واستمعت فيه إلي آراء وإبداعات الصديق الراحل إبراهيم العشري الروائي والقصاص والمناضل السياسي ، وكان هذا الثلاثي هو من يقود الحركة الأدبية والثقافية الصاخبة في محافظة البحيرة علي مدي سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ، وكانوا مصدر إلتفاف العديدين من الأدباء والمبدعين ، وتتلمذت علي أيديهم أجيال من مثقفي مدينة دمنهور ..
ومالايعرفه الكثيرون عن الدكتور سينوت حنا أنه كان عضواً بلجنة المسرح التي كان يرأسها وقتها الراحل أحمد حمروش ، كما كان الدكتور سينوت حنا فناناً تشكيلياً موهوباً ، وكان يعلق إحدي لوحاته أعلي مقعده في حجرة الكشف علي المرضي ..
(ذات يوم في أوائل ثمانينيات القرن الماضي كنت معه في عيادة الأسنان وكانت العيادة في فترة الإستراحة ، وكانت هناك مناقشة بيننا حول قضايا الفن والأدب .. فأخذني من يدي وادخلني حجرة الكشف وقت راحته ، وشرح لي تفاصيل عناصر اللوحة ، وتوزيع وتدرج الألوان ، والضوء والظلال في لوحته البديعة بدقة في نقاش بيني وبينه حول طريقته في الرسم واستخدام الألوان) ، وإن كان قد توقف عن ممارسة الرسم منذ أن شارك في تأسيس حزب التجمع وتولي هو مسئولية أمين لجنة محافظة البحيرة بالإجماع في أول تشكيل للحزب ، وهي المسئولية التي رفض تولي غيرها في الحزب بالرغم من إلحاح الراحل خالد محيي الدين وكل مؤسسي التجمع علي الإنضمام لمواقع أعلي ، بل رفض تولي عضوية الأمانة العامة للحزب بالرغم من كونه يستحقها بشكل أوتوماتيكي بحكم لائحة التجمع الداخلية وقتها ، واشترط لاستمراره أميناً للجنة محافظة البحيرة أن يكون ممثلها في الأمانة العامة للحزب المرحوم محمد متولي الشعراوي الذي كان يشغل موقع الأمين المساعد بلجنة الحزب بالبحيرة ..
كان أهم مايميز الدكتور سينوت حنا هو ذلك الإنضباط الحياتي والسياسي الشديد ، وامتلاكه لقدرة تنظيمية هائلة وحس سياسي شديد الدقة ، دفعت بعض من لايعرفونه جيداً إلي تفسير ذلك علي اعتبار أنه نوع من النزوع البيرقراطي ..
ولكن رغم هذا كان الدكتور سينوت حنا - بالنسبة لمن اقترب منه وعاشره إنسانياً - شخص في منتهي الرهافة الإنسانية ، يتعامل مع عامة الناس ومع زبائنه في عيادة الأسنان الخاصة به بمنتهي الود والإخاء الإنساني الشديد لدرجة ..
ويتعامل مع رفاقه علي نحو يكاد يقترب في ندرته كنموذج للرقي والتواضع والمودة إلي حدود المثالية
، وكان بالرغم من امتلاكه لهذه القدرات التي كانت تجعله منه شخصاً مطلوباً لاستحقاق أرفع المناصب القيادية السياسية علي المستوي القومي ، إلا أنه كان يرفض كل هذا ، إكتفاء بالنضال في المحيط المحلي لمحافظة البحيرة إلي أن أجبرته شيخوخته وظروفه الصحية للاعتكاف في منزله في مدينة الأسكندرية إلي أن توفي قبل أن ينتهي العقد الأول من هذا القرن ..
رحم الله الدكتور سينوت حنا الذي كان بمثابة معلمي الأول ، وأبي الروحي وصديقي الذي عرفته في نهايات صباي وبدايات شبابي إلي أن صرت رجلاً يعول أبناء ، ذلك الذي لايمكن أن يفك طوق مديونيتي وممنونيتي له من عنقي سوي الممات ..