إنحلال الطبقات ونهاية التاريخ


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 6501 - 2020 / 2 / 28 - 23:20
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

إنحلال الطبقات ونـهايــة الـتاريـــخ (1/2)
ما يثير الإستهجان والسخط معاً هو أن الشيوعيين الذين أكد انهيار الإتحاد السوفياتي إفلاسهم قبل ثلا ثين عاماً ما زالوا يمتنعون عن البحث في أسباب الانهيار، وكان الإتحاد السوفياتي سندهم وقضيتهم مما لا يثير الإشتباه فقط بل يتجاوز ذلك إلى حد إدانتهم بالخيانة العظمى .
تهرّب الشيوعيين المفلسين من مواجهة إفلاسهم وإلقائهم لقضيتهم، قضية الشيوعية في سلة المهملات لن يمنحهم السكينة وسيظل السؤال الكبير يطاردهم ليل نهار .. لماذا انهار الاتحاد السوفياتي !!؟ كان الإتحاد السوفياتي في العام 49 أقوى دولة في العالم ثم بدأ الإتهيار في العام 53 حين أُرغم الحزب الشيوعي على إلغاء قرارات مؤتمر الحزب العام التاسع عشر في العام 52 وبالأخص الخطة الخمسية التي كانت ستنقل الإتحاد السوفياتي ليكون في العام 55 الدولة الأولى في العالم من حيث مجمل الإنتاج، أُرغم على ذلك خلافاً للنظام وللقانون .
الشيوعيون المفلسون لم يعلنوا بعد تخليهم عن الماركسية ولذلك عليهم رغم أنوفهم أن يعترفوا بأن انهيار الإتحاد السوفياتي إما كان ليكون إلا بسبب الصراع الطبقي كما تحكم القاعدة الأساس للنظرية الماركسية .
كيلا يعترف الشيوعيون المفلسون بحقيقة الصراع الطبقي سبباً للإنهيار يدعي بعض الجهلاء منهم أن الإنهيار إنما كان مؤامرة أميركية ولكأنما كان هناك قوة خفية أرغمت قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي على الإجتماع في سبتمبر ايلول 53 لتقرر ما لا يجوز إقراره وهو إلغاء الخطة الخمسية وسائر مقررات المؤتمر العام للحزب التاسع عشر في أكتوبر 52 . مثل هذا الإدعاء الجهول والسخيف لا يستحق الإلتفات إليه حيث لم يكن هناك أدنى تناسب بين القوى الكلية للولايات المتحدة مقارنة بالقوى السوفياتية، فما أرغم اليابان على الإستسلام في الثاني من سبتمبر ايلول 45 رغم امتلاكها لقوى حربية تزيد على ضعف قوى الولايات المتحدة ليس هو قنبلتا مجرم الحرب ترومان الذريتان على هيروشيا وناغازاكي في 6 و 9 أغسطس آب وقتل أكثر من 150 ألفاً من المدنيين في المدينتين، بل هو قبام الجيوش السوفياتية بالقضاء على كامل الجيوش اليايانية بما يزيد على مليون جندي ياباني في منشوريا خلال النصف الثاني من نفس الشهر . ويدعي البعض الآخر من الشيوعيين المفلسين بأن قيادة الحزب أساءت قراءة ماركس ولم تحسن إدارة الدولة لكن سوء الإدارة ليس قميناً بتغيير اي نظام اجتماعي . والبعض الأخير منهم يعود إلى دعاوى قادة الأممية الثانية، كاوتسكي وبليخانوف ليدعي من جديد أن الثورة الإشتراكية قام بها البلاشفة الروس في غير مكانها وغير زمانها وهو الإدعاء الذي تكذبه وقائع الحرب العالمية الثانية حيث قام الإتحاد السوفياتي بحماية الدول الرأسمالية الكبرى الثلاث، بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، من غول النازية والعسكرتاريا اليابانية وظهر على أنه أقوى دولة في العالم .
ومن ضروب الإفلاس أيضاً هو الإدعاء بأن البلاشفة لم يقيموا في الإتحاد السوفياتي غير رأسمالية الدولة !! لكن لماذا تنهار رأسمالية الدولة لتقوم بدلها رأسمالية غير دولاتية !!؟ هذا سؤال لا جواب عليه لدى مثل هؤلاء المتطفلين .
طبعاً مثل هذه المزاعم الجوفاء التي لم تقنع حتى أصحابها إنما تُزعم لتبرير حرون هؤلاء المفلسين عن الدخول في بحث علمي جاد وعميق في أسباب انهيار أكبر مشروع ثوري عرفته البشرية يبني مستقبلاً وضاءً لها .

أمام كل هذا الحرون، حرون الشيوعيين المفلسين عن الإعتراف بالصراع الطبقي سبباً لانهيار الإتحاد السوفياتي على الرغم من أن الندوة التي عقدها الحزب الشيوعي في العام 51 للبحث في "القضايا الإقتصادية للإشتراكية في الإتحاد السوفياتي" دارت أبحاثها حول الصراع الطبقي في الإتحاد السوفيلتي، فليس من تعليل لكل هذا الحرون المشتبه فيه بكل الأحوال سوى علة واحدة لا غير وهي أن إعترافهم بالصراع الطبقي سببا للإنهيار سيرتب عليهم قضايا لا قدرة لهم على مواجهتها وأولها تسمية الطبقة الإجتماعية التي تغلبت على البروليتاربا السوفياتية وقادتها الشيوعيين ولماذا تمكنت هذه الطبقة من هزيمة الشيوعيين الأمر الذي يؤكد إفلاسهم فيما قبل الإنهيار وهو ما من شأنه أن ينسف كل رصيدهم النضالي ويفرض عليهم أن يبحثوا عن برامج نضالية مختلفة يجهلونها تماماً بل وليست موجودة . لكل هذه الأسباب ولغيرها أيضاً يحرنون عن الإعتراف بالصراع الطبقي .

في الحقيقة أنه لدى الشيوعيين المعتمدين ماركسي واحد فقط في القرن العشرين، قرأه علينا تلميذه النجيب يوسف ستالين . كتب لينين في كتابة "الضريبة العينية" في العام 1922 يقول .. العدو الرئيسي للإشتراكية في الاتحاد السوفياتي هو البورجوازية الوضيعة (Petty Bourgeoisie) . كانت كل أحاديث القادة السوفييت عن هيكلة المجتمع السوفياتي تحكي عن تواجد طبقتين هما البروليتاريا الممسكة بالسلطة والبورجوازية الوضيعة وتشمل الفلاحين والعاملين في الخدمات والإنتلجنسيا وفي طليعة هؤلاء مختلف سرايا القوى النسلحة .
البورجوازية الوضيعة وعلى رأسها القوى المسلحة انتهزت الفرصة، بعد اغتيال ستالين من قبل رفاقه في القيادة، والدولة السوفياتية في أضعف بنيان لها بسبب الحرب الوطنية الطاحنة، قامت البورجوازية وطليعتها القوى العسكرية بالإستيلاء على السلطة وسلب الحزب كل سلطاته التنفيذية بل واستخدامة كناطق بلسان سيده (His Master’s Voice) وهو الجيش تقوده المخابرات (KGB) التي استمرت منذ العام 1934 تحيك مختلف المؤامرات ضد النظام الإشتراكي، بدلالة أن قادتها الأربعة إنتهاءً بلافرنتي بيريا كان مصيرهم الإعدام .

أما وقد نزلت بالبروليتاريا السوفياتية ضربة قاصمة في العام 53 سدت طريقها نحو الإشتراكية بعد أن كانت قد نقلت العالم إلى مسار جديد، مسار الشيوعية، بقيادة حزبها الشيوعي وعلى رأسه قائداها البارزان لينين وستالين، فكان من الطبيعي أن ينهار النظام الرأسمالي في السبعينيات بعد أن سدت ثورة التحرر الوطني كل منافذ تصريف فائض الإنتاج الرأسمالي، إنهار لكن ليس لجهة البروليتاريا التي كانت قد نزلت بها ضربة قاصمة في موسكو، بل انهارت لجهة البورجوازية الوضيعة أيضاً .
الشيوعيون المفلسون وكثيرون غيرهم ينكرون انهيار النظام الرأسمالي، لكن من لديه إلمام بالمبادئ الأولية للإقتصاد الرأسمالي يدرك تماماً أن إعلان رامبوييه (Declaration of Rambouillet) أول مؤتمر قمة للخمسة الكبار (G 5) في 16 نوفمبر 75 إنما كان ورقة نعوة للنظام الرأسمالي وإلا لما كانوا قد أعلنوا تضامنهم على تثبيت أسعار صرف عملاتهم الأمر الذي يعني بالضرورة أنه لم تعد هذه الدول الرأسمالية الخمس الكبرى تنتج من البضائع ما يكفي لتغطية عملاتهم التي كانت صعبة قبلئذٍ ؛ القصور في إنتاج البضائع يعني مباشرة انهيار النظام الرأسمالي، وهذا هو خلاصة النقد الماركسي للنظام الرأسمالي .

أن تنجح البورجوازية الوضيعة بأن تستولي على السلطة في حصن الإشتراكية وهو الاتحاد السوفياتي في خمسينيات القرن الماضي فذلك استدعى إلى أن تؤول السلطة في قلعة الرأسمالية وهي الولايات المتحدة إلى البورجوازية الوضيعة في السبعينيات . ولما كانت كافة دول العالم مستقطبة إلى أحد ذينك القطبين فذلك يحكم أن البورجوازية الوضيعة في هذه الدول قد ارتقت إلى سدة السلطة . وهكذا وقع العالم كاملاً في قبضة البورجوازبة الوضيعة، وهذا حادث طارئ جلل لم يتوقعه ماركس ولم يكن له صفحة في سجل التاريخ .

الحادث الطارئ الجلل في التاريخ تتطلب مواجهته معالجة استثنائية لم يعهدها المحللون السياسيون والإقتصاديون من قبل .
تبدأ هذه المعالجة الإستثنائية بالسؤال الإستثنائي التالي ..
ما هي البورجوازية الوضيعة ؟؟
والحكمة تقول .. يُعرف الشيئ بضده، فما هي طبقة البورجوازية الوضيعة بالقياس مع ضدها، طبقة الرأسماليين أو طبقة البروليتاريا ؟؟
التعريف العلمي للبورجوازية الوضيعة تبعاً لهذا التضاد هو أن البورجوازية الوضيعة ليست طبقة . دالت طبقات اجتماعية عديدة وظهرت طبقات أخرى في مختلف التشكيلات الإجتماعية باستثناء البورجوازية الوضيعة التي تواجدت في مختلف التشكيلات، في العبودية كما في الإقطاع كما في الرأسمالية كما في الإشتراكية .
قد يسيئ البعض االإعتقاد أن تواجد البور جوازية الوضيعة في مختلف التشكيلات الإجتماعية يحكم بأن هذه الطبقة تتواجد في مختلف التشكيلات الإجتماعية للضرورة الحيوية وعليه فهي طبقة شرعية مكتملة الخلقة والتكوين . هذا اعتقاد خاطئ والعكس هو الصحيح ؛ هي تتواجد في مختلف التشكيلات الاجتماعية لأنها خفيفة الوزن تناقضاتها مع قوى الإنتاج الحقيقية سهلة وضعيفة يتم تجاوزها بسهولة ودون مواجهات ثورية باستثناء فترة عبور الإشتراكية حيث يتعلق التناقض بنهاية وجودها وإلغاء تقسيم العمل، وهي بطبيعتها على استعداد لأن تبذل كل ما باستطاعتها وما وراء استطاعتها دفاعاً عن تقسيم العمل ولعل ذلك عائد من أنها لا تنتج أسباب حياتها ؛ إنها طفيلية تعيش على حساب غيرها، واستناداً إلى هذه الحقيقة لا تتصف البورجوازية الوضيعة بصفة الطبقة لأن شرعية وجود الطبقة في التشكيلة الإجتماعية هي مساهمتها في الإنتاج وزيادة ثروة المجتمع بينما الحال هو العكس تماماً فبمقدار ما تتوسع البورجوازية الوضيعة في انتاج الخدمات بمقدار ما يتناقص مجمل الإنتاج المادي . وصل النظام الرأسمالي قمة الإزدهار في نهاية القرن التاسع عشر عندما كانت البورجوازية الوضيعة في أدنى أوضاعها، وعندما كانت الخدمات الصحية والتعليمية محدودة جداًولا تستهلك جزءاً معتبراً من فائض الإنتاج أو فضل القيمة . وحين أخذت البورجوازية الوضيعة في التوسع خلال النصف الثاني من القرن العشرين وتستهلك الجزء الأعظم من فائض القيمة هجر الرأسماليون تجارتهم وأخذوا ينزحون من مراكز الرأسمالية الكلاسيكبة إلى الأطراف ؛ وأساء الإقتصاديون اعتبار هذه الظاهرة على أنها إحياء متجدد للرأسمالية باسم العولمة بينما هي في الحقيقة الظاهرة المباشرة لانهيار الرأسمالية في مراكزها، والنظام الرأسمالي لا يقوم في الأطراف إذ ثمة أسباب تاريخية وجيوسياسية لظهور النظام الرأسمالي في مراكزه الكلاسيكية دون غيرها