دعوة إلى والتر بنيامين


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 6499 - 2020 / 2 / 25 - 18:48
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

"مثل شخص لم يغرق في تحطم سفينة، يعتلي بين الحطام صارياً ينهار. لكن من هناك أعلى الصاري لديه فرصة لأن يرسل إشارة تقود إلى إنقاذه".
من رسالة لوولتر بنيامين إلى صديقه غيرهارد شولم في عام 1931. واردة في مقالة حنة آرنت عن بنيامين في كتابها: أناس في ازمنة مظلمة، ص 172.

في الفكر العربي، التاريخانية مذهب عمل أو دعوة إلى العمل، على ما يقول معتنقها والداعي الأبرز إليها عبدالله العروي، وليست منهجاً للتفكير في التاريخ وكتابته مثلما ظهرت في أوربا القرن التاسع عشر. وما تقوله التاريخانية كمذهب عملي هو أنه لن يصلح أمرنا، نحت المتأخرين، بغير ما صلح به أمر غيرنا من المتقدمين، أي أوربا والغرب. لكن عدا أن ذلك ينسخ بنية تاريخانية معكوسة ظهرت ردا على مسألة التأخر والتقدم ذاتها، وتقرر أنه "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، فإن في الاقتداء بأوربا المتقدمة أو بامبراطوريتنا الفاتحة في أزمنة ماضية، ما يجعل من التاريخية في صيغتيها مذهباً للمنتصرين، لمن يشكل التاريخ لهم ما يقترب من سيرة انتصار، وبما يحيل المهزومين إلى حيث لا يرون ولا يذكرون. هذا ما رآه وولتر بنيامين في زمنه المضطرب بين حربي أوربا "العالميتين". المثقف اليهودي الألماني الذي قضى منتحراً عام 1940 على الحدود الفرنسية الأسبانية بعد أن تقطعت به سبل لجوء ثان إلى أميركا أعقب لجوءاً أول لثماني سنوات في باريس، دافع من جهته عن تاريخ المهزومين. في نص فريد من آخر ما كتب، عنوانه: في مفهوم التاريخ، ويعرف كذلك بأطروحات في فلسفة التاريخ، يقول: "...إذا تساءل المرء بمن يتمثل معتنقو التاريخانية فعلاً، فالإجابة المحتومة هي: بالمنتصر. ولما كان كل الحكام ورثة لأولئك الذين سيطروا قبلهم، فإن التمثل بالمنتصر يعود بالنفع على من هم في الحكم".
هذا شيء يتعرف عليه المرء في تجربتنا التاريخية المعاصرة، حيث ما يمكن تسيمتها بالتاريخانية الموضوعية للمثقف، "التقدمي" تعريفاً، تفضي إلى التمثل بـ"الدولة" والقطاعات الاجتماعية التي تدين بها، هذا حين لا تفضي التاريخانية المعكوسة إلى نزعة تقليدية، تعول من أجل صلاح آخرنا على ما هو مكنون في الدين والتراث من روح امبراطورية. في تجاربنا اليوم ما يؤسس لشيء مغاير: الصراع من أجل العدالة، هنا والآن، إلى جانب من المهزومين وفي مواجهة المنتصرين.
بنيامين لم يكن مفكراً نسقياً. كتب في شؤون كثيرة، كان جامعاً للكتب والاقتباسات، جمع مواد هائلة من أجل تاريخ لباريس في القرن التاسع عشر، وكتب عن الرأسمالية وعن التكنولوجيا، وعن الصور والأفلام، وعن غوته وبودلير، وعن المتسكع وراوي القصص، وعن برلين، وفكر في نفسه كناقد للأدب أساساً، لكنه لم ينجز كتباً ولم يقدم مذهباً. هل هناك صلة بين لا تاريخانيته ولا نسقيته؟ لا ريب في ذلك في رأيي، وإن لم تكن صلة مفهومية حتماً. النسق أو المذهب إدخال أو بث لروح واحدة في أفكارنا المتشابكة والمتناقضة، مع ما يحتمله ذلك، بل ما يحتمه، من تعسف. تجنب التعسف ممتنع بقدر ما إن العالم متعدد والمذهب روح واحدة. وهو، بناء المذهب، فعل سلطة في كل حال، يخضع الكثرة للواحد. التاريخانية كذلك بث لروح أو لعقل بلغة هيغل في التاريخ، تدخل إليه الوجهة والمقصد والوحدة، وهي فعل سلطة بدورها. النسق والتاريخ سلطتان تطلبان السيادة والنصر. وتتركان سير ومصائر المهزومين إما كبقايا لا شأن لها، أو كثمن لا بد من دفعه من أجل التقدم أو الحضارة.
ولأنه تفكيره غير نسقي فإن بنيامين مفكر مُلهِم وليس مفكراً قائداً. يساعدنا على التفكير ولا يوجهنا، أو يُسهِّل لنا أمر الانتساب إليه. ليس هناك مثقفون بنيامينيون. من شأن ظهورهم أن يكون خيانة، وليس وفاء، للمثقف المكتئب، الذي كان بالكاد يتدبر أمور حياته.
في أوقاتنا المضطربة والدموية هذه تلهمنا حساسية جامع الكتب والاقتباسات. وبعد تحطم الثورات العربية وتحطم العديد من مجتمعاتنا معها، تلح الحاجة إلى حماية تاريخ المقهورين، أولئك الغائبين أو المنسيين. ومعها حاجتنا المشتركة إلى التعلم وإلى الفكر.
فكر بينامين في نفسه كماركسي ومادي تاريخي، ولكن مازجت تفكيره عناصر صوفية، ليس المرء مضطراً لمجاراتها. يتكلم على زمن مسياني مثلاً، بينما قد نفضل الكلام على زمن ثوري أو لحظة تولد وانبثاق. حنة آرنت التي تُجلُّ بنيامين تتكلم مثلاً على جديد متأصل في شرطنا كمولودين في العالم، كل منا هو بداية ومبادرة وإبداع تظهر في فعله. لا تطابق فكرة آرنت عن الانولاد natality والبداية كلام بنيامين عن الزمن المسياني، لكن اليهودية الألمانية مثل بنيامين، التي لجأت مثله إلى باريس مثله ولكن نجحت خلافاً له في الهجرة إلى أميركا، وجدت طرقاً أكثر علمانية للتعبير عن أفكارها. والمفارقة أنها طرق أقل ماركسية كذلك.
ألح قليلا على هذه النقطة لأنه يبدو لي أن العناصر الصوفية في فكر بينامين مرشحة لأن تمارس جذباً على بعضنا، في هذه الأزمنة التراجيدية المضطربة حيث يفقد المرء صوابه أو يكاد، بقوة تنافس العناصر العقلانية إن لم تتفوق عليها.
في "راوي الحكايات" يميز بنيامين بين راويين: الراوي الذي يمكث طويلاً في بلده، ويسمع من الناس، كالحرفي في محله؛ ثم الرواي كثير الأسفار الذي يجول كثيراً، ويرى الكثير. الأول عميق الخبرة، والثاني واسع الخبرة. الحكاية المروية وثيقة الصلة بالخبرة، وهي تروى ولا تكتب في كل حال، وهي في هذا تختلف عن الروايات والقصص القصيرة المكتوبة. قد يضيف من له خبرتنا المعاصرة الراوي الذي اختبر أقاصي التجربة الإنسانية من تعذيب واغتصاب وجوع وألم ويأس ولوعة وقتل. الراوي هنا حارق الخبرة إن جاز التعبير، ليس عميقها أو واسعها. ليس الحرفي أو الرحالة، بل "الناجي" الذي أوشك على الهلاك. وقد يكون أقرب مثال معروف لها في مجالنا قصص السجن وحكاياته.
مات بنيامين قبل الهولوكوست فلم تطرق أسماعه حكايات خبرات حارقة في معسكرات الاعتقال النازية. هذه الخبرات هي ما أطاحت بالمخطط التاريخاني الذي يسوق المعاني والكلمات إلى أبواب المنتصرين، وهذا بعد أن يفصلها عن معاناة الخاسرين ومحن حياتهم. وهي ما تدعو إلى الدفاع عن استقلال الحاضر بوصفه ساحة الصراع من أجل حياة كريمة للمهانين المحرومين من حياة تعاش، ومساحة لقاء المعاناة والمعنى، وليس لحظة عابرة لا تكف عن تسليم نفسها إلى روح سارية في التاريخ قبلها، هي ما تعطيها المعنى. كل لحظة هي ساحة للمعركة، وفي كل لحظة المقاتل مدعو لأن يكون عادلاً وكريماً.