-بنوك التنمية- مصدر للإستغلال


جهاد عقل
الحوار المتمدن - العدد: 6492 - 2020 / 2 / 15 - 21:33
المحور: الحركة العمالية والنقابية     


عندما بادرت الولايات المتحدة الامريكية قُبَيلَ إنتهاء الحرب العالمية الثانية، إلى عقد مؤتمر في منتجع "بريتون وودز" بولاية نيوهامبشير في شهر تموز 1944 باشتراك 44 دولة، كان هدفها وضع مخطط لتأسيس مؤسسات اقتصادية، تكون السيطرة عليها لها، كي تخدم سياساتها الهادفة الى فرض الهيمنة على الاقتصاد العالمي، ولاحقا تنفيذ سياسة العولمة وما يتعلق بها من أهداف لجني الأرباح، ونزع السيطرة القائمة من أيدي الإمبراطورية البريطانية الآفلة قوتها في تلك الفترة. بكلمات أخرى تنفيذ مخططها لما سُمي ب "الإمبريالية الاقتصادية".

كما هو معروف نتج عن هذا المؤتمر تأسيس "صندوق النقد (النهب) الدولي" ومن ثم "البنك الدولي" وبعدها "منظمة التجارة العالمية" وقد تم التعارف على هذه المؤسسات بإسم منظمات "بريتون وودز".



خدمت هذه المؤسسات وما زالت السياسة الأمريكية الهادفة للهيمنة على العالم واقتصاده من جهة وتنفيذ سياساتها الخارجية من جهة أخرى، القائمة على مأسسة مخططها النيوليبرالي بما سمي "الخصخصة والسوق الحر والتجارة الحرة" وغيرها من المخطط الرأسمالي الذي يخدم قوى رأس المال.

وجرى توزيع الادوار لهذه المؤسسات، بحيث تعمل وفق سياسات تمليها واشنطن، لحماية مصالحها لدى مختلف الدول، واستغلال أوضاعها الاقتصادية وأزماتها، (التي تكون لواشنطن اليد الطولى لإيجادها) من اجل تنفيذ سياساتها وبرامجها على الصعيدين السياسي التوسعي الإمبريالي، وعلى الصعيد الاقتصادي من فتح أسواق لمنتوجاتها وجني الأرباح وتقديم القروض عن طريق البنك الدولي بشروط وإملاءات تخدم مصالحها الرأسمالية أيضا. أما صندوق النقد الدولي فعمل وفق هذه السياسات بل وكان المؤسسة التي بواسطتها استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية الإطلاع على سير اقتصاد كل دولة من الدول وفرض سياساتها النيوليبرالية.



مصر كمثال، ديون بمبلغ 16 مليار دولار وبطالة وفقر

على الرغم من الإدعاء بأن هذه المؤسسات، ستعمل كرافعه لمساعدة الدول - خاصة النامية منها- للخروج من أزماتها وتطوير البنى التحتية والمشاريع الإنتاجية، والتغلب على البطالة والفقر، إلا أن الحقائق كانت وما زالت غير ذلك، بل هي تنفيذ السياسة الرأسمالية - الإمبريالية الامريكية وحليفاتها من الدول الغنية، ولتحقيق أهدافها، لتكون "الأمة الإرهابية الكبرى" في العالم على حد تعبير المفكر نوعم تشومسكي، التي تسيطر على الاقتصاد العالمي وتتحكم به، وبالرغم من إدعاءها بانها تعمل ضمن هذه المؤسسات على محاربة الفقر والبطالة ومن اجل الإزدهار الإقتصادي بواسطة تقديمها القروض للدول النامية وغيرها.

لكن الحقائق والنتائج تُظهر لنا غير ذلك، خاصة وأن هذه الدول التي حصلت على القروض غرقت في الديون وتفاقمت الأزمات الاجتماعية والاقتصادية لديها واتسعت البطالة والفقر وغيرها من القضايا الاجتماعية بل والسياسية، لأن ما جرى هو نهب خيراتها واستغلال أسواقها وفرض سياسات عليها لا تتلاءم وبنية مجتمعاتها واقتصادياتها.



يكفي أن نذكر هنا باستعراض خفيف ما حدث مع الجمهورية العربية المصرية، التي كانت تنعم بتوازن مالي وإقتصادي في زمن الرئيس جمال عبد الناصر، وما أدت إليه سياسة "الإنفتاح" للرئيس السادات ومن تلاه من الرؤساء، كان أنها تعاني اليوم من مديونية عالية وصلت الى مبلغ 106,3 مليار دولار، وارتفاع في البطالة والفقر الذي بلغت نسبته حوالي 33% وفي بعض المحافظات وصلت نسبة الفقر الى 80%، وفق تقرير صادر عن البنك المركزي المصري.

هذا المثال وغيره من الأمثلة في دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وشرق أوروبا، تؤكد حقيقة ما تحمله مؤسسات "بريتون وودز" من أهداف لتحقيق السياسة الإمبريالية الأمريكية بقيامها بنهب خيرات الشعوب.



معايير العمل و"المؤسسة المالية الدولية"

ضمن السياسات التي وضعها صندوق النقد الدولي بالتعاون والتنسيق مع "البنك الدولي"، جرى تأسيس عدة بنوك ومؤسسات تابعه لهما، تقوم على تقديم القروض للدول والكبرى شركات القطاع الخاص بكفالات تقدمها الدول، وفي ظل تشعب نشاطاتها، وقيامها بتقديم القروض وعدم ضمان حماية العمال العاملين في المشاريع التي تمولها، أصدر "الإتحاد الدولي لنقابات العمال" بواسطة مكتبه في واشنطن بتاريخ 29/1/2020 دليل إرشادي للنقابات بعنوان: "معايير العمل في بنوك التنمية متعددة الاطراف - دليل نقابي"، جاء في 63 صفحة.

يتضح أن هناك عدة مؤسسات وبنوك سميت بـ "بنوك التنمية متعددة الاطراف" تقدم القروض، وهي:"

- البنك الدولي

- المؤسسة المالية الدولية (ذراع قطاع الإقراض الخاص في البنك الدولي)

- بنك التنمية الإفريقي

- البنك الأوروبي للإعمار والتنمية

- بنك الإستثمار الاوروبي

- بنك التنمية الآسيوي"

جميع هذه المؤسسات المصرفية تعمل بالتنسيق بل وبإدارة "البنك الدولي" و "المؤسسة المالية الدولية" التابعة له وكذلك مع صندوق النقد الدولي، ولا يتسع هنا المجال لتقديم الأمثلة على كيفية تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في عملية تقديم القروض او فرض الـ"فيتو" عليها وهي الدولة الوحيدة التي تتمتع بهذا الحق في تلك المؤسسات.

يكشف لنا "الدليل النقابي"، عن العديد من الحالات والأمثلة التي تؤكد أن مؤسسات التسليف هذه لا تستغل الدول والشركات فقط، بل تكون قروضها مشروطه بانماط تشغيليه تضرب بحقوق العمال عرض الحائط.



نموذج اقتصادي يشجع على الإستغلال

كتبت النقابية شاران بورو، الأمين العام لـ"الإتحاد الدولي لنقابات العمال"، في مقدمة الكتيب الإرشادي عن ذلك الإستغلال ما يلي: "يُشَجع النموذج الإقتصادي العالمي الإستغلالي بنشاط أو يسمح بالهجمات على حقوق الإنسان وحقوق العمال ويقمع الأجور والحماية الإجتماعية". هذا القول شهادة، بل هو تأكيد صارخ وصريح على ما تقوم به هذه المؤسسات من إستغلال للعمال كما هو الامر للدول تنفيذا ورعاية للمصالح الإمبريالية عامة والإمبريالية الامريكية خاصة.

ويشير الكتيب الإرشادي النقابي الى عدم إلتزام هذه البنوك والمؤسسات العولمية بإتفاقيات وتفاهمات سابقة معها بخصوص ما سُميَ ب "ضمانات العمل"، التي تعني وضع بند إلزامي في بنود القرض يضمن " توفير معايير العمل الأساسية وظروف العمل الآمنه واللائقة للعمال في مشاريع القروض الممولة من بنوك التنمية."



وعليه تدعو النقابية شاران الى أنه:" حان الوقت لبناء إستراتيجية نقابية لضمان وإحترام الحكومات والشركات والمؤسسات الدولية، الحد الادنى لحماية العمال كجزء من عقدنا الإجتماعي."



المعايير الملزمة لمصارف التنمية متعددة الاطراف

حمل هذا الإصدار في طياته العديد من الإرشادات للنقابات والنقابيين المنضوين تحت لواء "الإتحاد العالمي لنقابات العمال" ومقره العاصمة البلجيكية مدينة بروكسل. تشمل كيفية متابعة الحقوق العمالية في ورشات ومشاريع التي تمولها بنوك التنمية متعددة الاطراف في مختلف دول العالم، وجاءت ضمن عدة فصول منها:

دليل سريع للإستخدام لضمانات العمل، وشرح لآلية "الإقراض للمشروع" مع تقديم أمثلة لمشاريع تم خلالها خرق وانتهاك حقوق العمل منها في بنغلادش وبولندا والأرجنتين والعراق وغيرها.

وشمل الكتيب الإرشادي أيضا فصل هام يتناول بالتفصيل قروض: "تمويل التنمية وحقوق العمال" وفصل آخر بخصوص: "ضمانات العمل" والإلتزامات بها والفرق بين ما هو معلن من قبل مؤسسات التسليف هذه والتطبيق الغير كامل، بل مواصلة استغلال العمل في هذه المشاريع وآليات تقديم شكاوى العمل.من ثم وضع آلية ومسار إرشادي للنقابات والنقابيين، والإشارة الى أنه في معظم عمليات الإعداد والمسح لتقديم التمويل للمشاريع من قبل البنوك "يتم التغاضي..عن قضايا العمل بسبب قلة الألفة من الإستشاري والمقترض الذي لا يعطي الأولوية لمعاملة عادلة للعمال."

حسب رأينا ليس في بعض الاحيان بل في جميعها وهذا ما يكشف عنه الكتيب من أمثلة لانتهاكات صارخة لحقوق العمال، بل وسبق وإطلعنا على الكثير من هذه الخروقات من معلومات نقلتها الاتحادات النقابية ، في العديد من المشاريع خاصة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وشرق أوروبا.



أما الفصل الأخير فهو بمثابة خارطة عمل جاءت تحت عنوان: "جدول أعمال النقابات العمالية لتحسين الضمانات" أي الحقوق العمالية، كما شمل الإصدار ملحق وثائق وعينات لإستمارات للنقابات لتقديم الشكاوى وكيفية إستعمالها في ملاحقة تظلمات العمال في المشاريع الممولة.



المطلوب ليس تفاهمات بل نضال عمالي كفاحي

في النهاية نحن نبارك إصدار مثل هذا الكُتَيب الإرشادي من قبل "الإتحاد الدولي لنقابات العمال"، الذي يحتوي على إرشادات هامة للنقابيين تفيدهم في مواجهة الخروقات لحقوق العمال ومتابعة قضاياهم، لكن واضح لنا حتى من طريقة صياغة الكُتيب بأن سياسة هذا "الاتحاد النقابي" أنه يتعامل مع موضوع الاعتداء على حقوق العمال من قبل هذه المؤسسات بـ "كفوف حريرية" بل وبطريقة الإستجداء، وضمن ما يسمى مناخ النضال النقابي للنقابات ذات التوجه "الإصلاحي" الذي يحمل طابع "التفاهمات" لا غير، وليس القيام بخطوات نضالية كفاحية، من خلال حشد القوى العاملة في هذه المشاريع كقوة مناضلة وصدامية ضارية، ذات طابع ثوري حقيقي، بهدف تغيير الواقع الإستغلالي الذي تتعرض له من قبل هذه المؤسسات التي ترعى مصالح القوى الرأسمالية في العالم على حساب تنفيذ سياساتها القمعية لحقوق الطبقة العاملة..