تجديد التراث الذي يريده المشايخ


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 6486 - 2020 / 2 / 8 - 11:01
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

هل باستطاعة رجال الدين (تجديد) التراث الإسلاموي؟
السؤال مردود عليه بـ”لا“ المانعة والقاطعة، وأن من يطلب منهم ذلك كمن يطلب من الذئب أن يحرس الغنم؟
الأهم هو لماذا لا يستطيعون تجديد التراث الديني؟
ومن بإمكانه تجديده؟
وما هي الدوافع التي تحملهم على التجديد والمعوقات التي تمنعهم عنه؟
نتعرف أولا وباختصار شديد عن ما هية التراث.
التراث في أبسط تعريف علمي له هو السجل الكامل للنشاط الإنساني في مجتمع ما على مدى زمني طويل، بكلام آخر هو مجمل الأنشطة الإنسانية المحفوظة في الذاكرة الجمعية لشعب من الشعوب بحيث تعكس نفسها في حاضره، تفكيراً، وسلوكاً، وهذا السجل التراثي قد يتم التعبير عنه بقصيدة شعرية، أو وثيقة تاريخية، أو إبداعاً أدبياً، أو اختراعاً علمياً، أو مؤلفاً ثقافياً، أو لوحة تشكيلية، أو نحتاً فنياً، أو شكلاً معمارياً، أو أقصوصة أسطورية، أو مثالاً شعبياً، أو احتفالاً عامًّا، أو تقليداً عائلياً، أو عرفاً اجتماعياً..
التراث - باختصار - هو سجل لتراكمات تاريخية طويلة ومتعددة المشارب لأنشطة بشرية (ثقافية، أدبية، اقتصادية، اجتماعية، سياسية، معمارية..الخ)، وهو يشكل بكامل حمولته هوية كل مجتمع وخصوصيته التي تميّزه عن باقي المجتمعات. فنجد حتى الآن في المجتمع العراقي معالم تراثية من السومريين والأشوريين والفارسين … وفي المجتمع السوري معالم كنعانية وفينيقية وفي المجتمع المصري معالم فرعونية وأفريقية، وفي شمال أفريقيا معالم أمازيغية جنبًا إلى جانب المعالم الإسلاموية والأوروبية… إلخ، وجميعها متوارثة من الماضي البعيد والقريب، وتعبر عن الهوية الثقافية لها.

التراث الإسلاموي
التراث الإسلامي عطاء بشري صنعه الفرس لألد أعدائهم العربان الذين يعيشون في بيئة بدوية قاسية ويتسمون بالتوحش والإجرام، ويفتقرون إلى جميع مقومات الحضارة والتمدن. هذا التراث اعتمد منذ توليفه على قواعد دينية متضاربة ومتراكمة، لذلك تختلف باختلاف الأزمنة والأماكن. وهو تراث فقهي (كلامي)، يصطدم بأي تراث قبله أو بعده، وقد يلتزم أو لا يلتزم به المتأسلم، ويفضي إلى الكثير من الأفعال أو الطقوس التي قد يمارسها المتأسلم علانية أو خفية، أو قد لا يمارسها قط في حياته، أي أنه يحدث انفصامًا حادًّا في شخصيته. كما أنه لا يحظى بتراث مادي أو متاحف أو معالم أثرية موغلة في القدم كما هو الحال في الدول المجاورة كالعراق واليمن ومصر وغيرها. فهو يتشكل أساسًا من الأفكار التراثية النابعة من منتج لفظي لرجال الدين والفقهاء والكتاب والمفكرين والمبدعين، كل في عصره، وتزخر به آلاف المكتبات في مختلف البلدان والقارات، إضافة إلى تقديس الأشخاص وبعض الأماكن والمنجزات العمرانية الحديثة نسبيًا، وقد أفضى هذا التراث الفقهي إلى نشوء التراث الشعبي (الفلكلوري) معتمدًا على ما يشمله الأول من أساطير وخرافات. يتضح هذا التراث الشعبي الإسلاموي في السلوكيات الاجتماعية المتمثلة في العادات والأعراف والتقاليد السائدة في المجتمع ومدى تأثيرها في أفراده، وعلاقتهم الوطيدة بالممارسات الثقافية ونظرتهم إلى المستقبل، والربط بين حاضرهم وماضيهم. لقد أصبح المدلول الديني لدي العوام، ويدعمه رجال الدين بقوة، ينحصر في مجرد الاحتفالات التقليدية، والعادات الشعبية، وتقديس الأفراد والأماكن المشرفة والمنورة … إلخ، مع الارتباط عاطفيًا بآحداث الماضي، فكان ذلك من أهم الوسائل الفعالة في ترسيخ الهوية الثقافية للمجتمعات المتأسلمة. ونشأت إلى جانب الأيديولوجية السياسية للدين إيديولوجية عاطفية طاغية لدي المتأسلمين، تتبناها وتسهر على حمايتها مؤسسات نافذة ومؤثرة في مجتمعات جاهلة أو مجهَّلة، وخاضعة حتى النخاع للظلم والقهر والفساد والانحطاط المادي والمعنوي.
التراث (الفقهي) منذ نشأته بني في الأساس على خلق الأعداء من المتأسلمين وغير المتأسلمين، والحث على كراهيتهم والاعتداء عليهم وسلب ونهب ممتلكاتهم واغتصاب نسائهم وقتلهم بارتياح ضمير لا يزعزعه أدنى إحساس بالندم، لأنه أوامر إلهية ثابتة ولا تقبل الجدل!. المتأسلمون يؤمنون إيمانًا راسخًا بأن القرآن (الكريم) والسنّة النبوية (الصحيحة) هما المصدران الأساسيان للتراث الإسلاموي، مع أنهما فجرا - منذ بدايتهما - جدلًا علميًا وفكريًا وثقافيًا حول ما فيهما من تناقضات واختلافات ومغالطات لا إنسانية تتخطى في كثير من الأوقات حدود الجدل إلى القتال والقتل بين المتأسلمين أنفسهم!
إن جوهر الديانة الإسلاموية يشكل أيديولوجية فقهية وشعبية عاطفية كاملة وغارقة في السياسة، مما جعلها منذ نشأتها وحتى الآن لا هدف لها سوى السعي بإصرار إلى السلطة السياسية والهيمنية الدنيوية وإلى المكيافيلية اللا أخلاقية. إننا جميعًا نري كيف أن الدواعش وغيرهم من جماعات القتل والتدمير يأخذون الكثير من هذا التراث ليبرروا به أفعالهم الدموية! من هنا لا نجد لهذه الديانة من هوية أخرى غير تلك التي تظهر في مقاصدها هذه، والتي تلجأ تلك الجماعات على مر التاريخ إلى العنف لتحقيقها.
إن التراث الإسلاموي الفقهي والشعبي كأي تراث آخر صناعة بشرية، لا يجب أن يحظى بأدنى تقديس حتى وإن زعم أنَّ الوحي هو الذي فَجَّرَه، ذلك لأنه ليس بوحي بل هو عمل إنساني حتى وإن ارتبط بالوحي المزعوم. ولهذا فإن دراسته دراسة نقدية هادفة هي أمر مفيد يندرج ضمن سبل العناية به وتنقيته من المصائب والشوائب. إن أية ثقافات لديها الجرأة على القيام بنقد ذاتي لتاريخها والاستفادة من الدروس المستخلصة من تراثها، يمكنها أن تصوغ تراثها المستقبلي بروح خلاقة لمواكبة التغير دون التخلي عن أصالتها، وإن الذين يستوعبون تراثهم اكتشافاً ودراية ونقداً، يكونون أكثر استعداداً للحفاظ على التواصل من خلال التغيير.
بالرغم من حدوث طفرة هائلة في تطور الفكر الإنساني على مستوى العالم برمته، إلَّا أن التراث الإسلاموي مازال يراوح مكانه، ومازلنا نجد رجال الدين يحاولون تجريد التراث من المسؤولية مما يعانيه حاضر المتأسلمين من فساد وانحطاط وتخلف، ونسمع شيخ الأزهر في مؤتمر أعده هو في 27.1.2029 تحت عنوان "تجديد الفكر والعلوم الإسلامية"، يقول بغضب: "أرجوكم ابحثوا عن مشكلة غير التراث". وكأن "تجديد الفكر والعلوم الإسلامية" يتم بمعزل عن "نقد التراث". إن شيخ الأزهر ومن معه يتصورون أن نقد التراث يمثل عدوانًا أثيمًا أو مؤامرة جسيمة عليهم، لافتقادهم إلى أبعاد النقد التراثي، وإدراكهم أن المؤسسة الدينية القائمين على حمايتها سوف تتهاوى عروشها فوق رؤوسهم، لو حدث وقطع نقد التراث شوطًا حقيقيًا في مضمار التغيير الفعلي.
التغيير الذي يريده رجال الدين هو مجرد تجديد الأبعاد الجزئية للآراء الفقهية المجمَّدة، أي مجرد أنْ يتم الاختيار من بين التراث، بعض المقولات والآراء والفتاوى الأكثر ملاءمة لواقع حال المتأسلمين، أو تلك التي يرونها مناسبة لمتطلبات تجميل صورة الدين في أعين الآخرين.
التجديد ـ وفق هذا التصور ـ هو تجديد في حدود أفق الوعي والفهم والمعرفة لدي الأسلاف المزعومين الذين عاشوا قبل ألف عام، ولا يذهب بعيدًا عنهم، ومحسوبًا وفق ما تسمح به أقوالهم في منطوقها الصريح، لا وفق ما تؤدي إليه منهجيات البحث العلمي الحديثة في مجال الفكر والعلوم الإنسانية والاجتماعية التي من شأنها أن تعيد صياغة نسق التصور الفقهي لدي رجال الدين، بما يتلاءم مع العلمانية والحداثة.
بكلمات أخرى، يتصورون إمكانية تجديد التراث بالتراث نفسه أو من خلاله، فشيخ الأزهر قال صراحة في دفاعه عن التراث: ”التراث يدعونا للتجديد، مقولات التجديد موجودة في التراث“. وهنا يتضح أن شيخ الأزهر ـ وهو الممثل الحالي لوعي التأسلم السني (وضِمْنيّا، الشيعي أيضا؛ بحكم تماثل وتطابق البُنَى الذهنية) ـ يريد تجديدًا تراثيًا إنتقائيًّا، لا تجديدًا حداثيًّا شاملًا لا رجعة فيه.
يصر شيخ الأزهر على نفي مشروعية نقد التراث، ويؤكد أن المشكلة ليست فيه، ويدعونا للبحث عن أسباب مشاكلنا خارجه، ويتحدّث عن تخلف المتأسلمين الذين باتوا ـ كما قال نصّا: ء« لا يستطيعون صناعة "كاوتش" (إطار) سيارة، فضلا عن صناعة السيارة ذاتها، أو صناعة السلاح الذي نُضْطر لشرائه من الآخرين». هذا الربط الكلامي بين تجريد التراث من المسؤولية عن تخلف المتأسلمين وبين تخلفهم الصناعي يكشف عن طبيعة تصور المشايخ لماهية التطور والتقدم، الأمر الذي لا يختلف عن الرؤية التقليدية لعموم المتأسلمين الذين يتعمّدون الفصل بين عالمين يستحيل الفصل بينهما: عالم الفكر الواعي وعالم التقنيات الصناعية.
الوضع يختلف في التراث المسيحي حيث يتم تجديده مرارًا وتكرارًا منذ ظلمات القرون الوسطى، فهو روحاني في جوهره ولا علاقة له بالسياسة والشؤون الحياتية لأفراد المجتمعات المسيحية، وإذا أصيب بعوار السياسة يكون ذلك بسبب الأشخاص الذين لا يقرأون مفردات الزمن وتطور العصور. بينما من الصعب وقد لا تبالغ إذا قلنا من المستحيل أن يأتي هذا الهدف ثماره من داخل المؤسسات الدينية الإسلاموية المتعددة، خاصة وأن التراث الإسلاموي يواجه عقبة كأداء لاعتباره ثوابت مطلقة من الدين بالضرورة، رغم أنه مجرد أفكار نسبية نابعة من زمانها وبيئتها ومن أشخاص لا ندري عن حياتهم شيئًا حقيقيًّا وليس موثقًا على الإطلاق!، ومن ناحية أخرى نجد رجال الدين وهم مدفوعين بتلك الثوابت المزعومة إلى إقحام هذا التراث بكل متناقضاته ومصائبه في كافة شؤون الحياة دون استثناء، بقولهم: ”اسألوا أهل الذكر“، ويتجاهلون عن عمد أن شؤون الحياة غير الدينية لها أيضًا (أهل ذكر) آخرون متخصصون، ويجب عليهم أن يمارسوا أعمالهم في الحياة. رجال الدين يعترضون مثلا على زرع الأعضاء البشرية لإنقاذ المرضى من الموت، كما يعترضون على علاج مريض الفشل الكلوي لأن في ذلك اعتراض على قضاء الله وقره، كذلك يمنعون تداول أي عمل فني يتناول آل البيت أو المبشرين بالجنة أو الصحابة. ووصل الأمر بهم إلى أن (لبن الرضاعة الصناعي) لا يؤدي إلى أخوة في الرضاعة. ولدينا شيخ عثر قبل نحو أسبوع على دعاء للحيلولة دون وصول وباء (كورونا) من الصين إلى أرض المحروسة، وهناك مَن أفتي بجواز أن ترتدي المرأة صندلًا دون جوارب. وآخر يجيز للولد أن ينكح أمه بشرط أن يضع على إحليله قطعة من القماش أي يغطي قضيبه! وأخر يرى إجازة الخطيب ليرى خطيبته عارية كما ولدتها أمها!
ناهيك عن فتاوى إرضاع الكبير، وأكل لحم الزوجة بعد موتها أو نكاحها…… وهكذا نجد أهل الذكر المزعومين الذين يجب علينا أن نسألهم، لم يتركوا أمرًا من أمور حياتنا إلا وكان لهم فيه ألف رأي ومليون ذكر.
 على امتداد تاريخ الفكر الإسلامي الحديث أكد المتأسلمون على أن الحضارة الغربية لها جانبان: فكري روحاني ومادي صناعي، وأن ما يحتاجونه من الغرب هو المادي الصناعي فقط. لأن بإمكانهم تحقيق أعلى درجات التقدم والتطور مع بقاء الوعي التراثي/ الديني التقليدي حاكما لنسق الوعي العام، فظلوا في أماكنهم من التخلف؛ إذ لا يتحقق التقدم الفعلي دون تغيير نوعي في مجمل التصورات المنظمة لحركة الوعي العام. أي دون إحداث تطور نوعي في نظام الوعي، يتناول مجمل التراث الذي يشكل بمضامينه الراسخة في أعماق الوعي بسياقة المدمِّر نظام الوعي العام لعموم المتأسلمين والعربان على وجه الخصوص.
عندما يُدافع شيخ الأزهر عن التراث في تشكيله التقليدي، ويعتبر أن نقده عدوانا على الإسلامية، فهو إنما يدافع بذلك عن نفسه وعن من هم على شاكلته في واقع الحال، فنقد التراث وتفكيكه من الداخل بأحدث منهجيات العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة، يُصِيب مصالح المؤسسات الدينية وفي مقدمتها مؤسسة الأزهر ومصالح ممثليها والمنتفعين بها بالعَطَب التام أو الجزئي.
ويزيد الأمر خطورة بالنسبة للأزهريين وعموم المنتفعين، أن النقد الجذري ولتفكيك العلمي يستحيل أن يجري على أيديهم؛ لأنهم لا يملكون أدواته أصلا، وبالتالي، لن يكون لهم موقعا من الإعراب في سياق التجديد النوعي الذي يبدأ خطواته الأولى بنقد التراث في كل مناحيه وبكل مستوياته. وباختصار، لا يمكن أن يقوم هذا التجديد الحقيقي إلا على أنقاض التراث القديم، وبالتالي، لن يقوم إلا على أنقاض مصالح سدنة هذا التراث. رجال الدين يعرفون جيدًا أنه لا يمكن تجديد هذا التراث العفن دون إعمال معول الهدم في بنيانه الصلب، وتفكيك إمساكه المعقد بتلابيب الوعي لدي المتأسلمين.
من القادر على تغيير التراث؟
للأسف الشديد تخضع المجتمعات المتأسلمة لنظم سياسية ديكتاتورية طاغية، ولذلك فإن الشخص الوحيد الذي يمكنه تغيير التراث بشكل جوهري هو الحاكم، وهذا ما بدأة الآن طاغية آل سعود في مملكة أسرته لتغيير نسق الوعي التراثي في مجتمعه، وحظي على الفور بموافقة ومباركة وتعظيم أغلبية كبيرة من رجال الدين هناك والتزم الآخرون الصمت خوفًا على حياتهم.