أمريكا وإيران والعراق


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 6458 - 2020 / 1 / 7 - 23:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لا شك فى أن تصاعد المواجهة الأمريكية الإيرانية فى العراق بعد اغتيال أمريكا لسليمانى والمهندس يمثل تصعيدا خطيرا مع احتمال مواجهة عسكرية لا يمكن التنبؤ مسبقا بالنطاق الذى يمكن أن تتوسع إليه. ويزيد من تعقيد الوضع أن هذا يأتى على خلفية الثورة الواسعة للشعب العراقى ضد النظام العراقى وحلفائه، مما يطرح على التقدميين العرب واجبا ثقيلا لتقديم تحليل لمثل هذا الوضع المعقد وتحديد البوصلة الثورية.
لا شك فى أن التناقض الأساسى الذى يواجه الشعب العراقى وكافة الشعوب العربية وشعوب المنطقة، بل والعالم، هو التناقض بين مصالح المواطن فى كل بلد من تلك البلدان فى الحياة الحرة الكريمة والتنمية المستدامة ومقاومة الاستغلال والاستبداد، وبين السعى الإمبريالى الغاشم بقيادة أمريكا للهيمنة على العالم ونهب ثرواته وعسكرته وفرض هيمنتها الاقتصادية السياسية العسكرية، بالتحالف مع حلفائها الداخليين من أنظمة تابعة.
وتمثل إيران نظاما مركبا يستدعى فهمه السياق التاريخى والسلوك السياسى له منذ الثورة الإيرانية حتى الآن. لقد مثلت الثورة الإيرانية والإطاحة بالشاه عميل الإمبريالية آخر موجة من أنظمة الثورات الوطنية المعادية للاستعمار بعد موجة الثورات القومية العربية منذ أيام الناصرية، وإن ارتدت تلك الثورة المسوح الدينية وليس الدفاع عن القومية. ونجح النظام الثورى الإيرانى حتى الآن ولأربعة عقود من الثورة فى مواجهة التحدى الإمبريالى. وما كان هذا ممكنا لولا نجاح النظام، الوحيد بين الأنظمة البترولية الريعية فى المنطقة، فى الاستفادة من تحويل الريع البترولى إلى صناعة متقدمة ومتكاملة تشمل الصناعات الثقيلة والخفيفة، كما بنت صناعات عسكرية متقدمة، واقتحمت مجال التكنولوجيا المتقدمة فى مجال الذرة والصواريخ وغيرها. ولم يكن هذا ممكنا من غير بناء دولة ناصرية الطراز ببناء قطاع عام قوى والسيطرة على التجارة الخارجية وتحويل العملة وتأميم البنوك. وقد مكنها هذا التقدم من تحقيق اكتفاء ذاتى غذائى بنسبة 96%، واكتفاء ذاتى صناعى بنسبة 81%، واكتفاء ذاتى إجمالى بنسبة 90%. والطبع لم يكن هذا ممكنا دون بناء جيش قوى يحمى كل هذا البناء ويرد العدوان الخارجى سواء فى مرحلة صدام حسين أو فيما تلاه من تهديد ووعيد.
إلا أن هذا الوجه التقدمى لم يكن الوجه الرئيسى الوحيد للنظام الإيرانى، إذ ارتبط ارتباطا وثيقا بوجهين متخلفين خطيرين: أولهما هو الاستبداد الداخلى على غرار الأنظمة القومية العربية المعادية للاستعمار وكذلك لقواها الديمقراطية الجماهيرية فى الداخل، وهو ما عرفناه فى انظمتنا الوطنية المعادية للاستعمار من ناصرية وبعثية وغيرها، والثانى هو استمرارها فى العمل بالميراث الرجعى لنظام الشاه فى محاولة فرض الهيمنة الإقليمية على الدول المحيطة، وما عرف بمبدأ تصدير الثورة بدلا من الاكتفاء بالتعاون الديمقراطى مع القوى الوطنية المحلية. ولعل آخر دليل على هذا الجانب الأخير هو فخر النظام الإيرانى بنفوذه وسيطرته على خمس عواصم عربية هى بغداد ودمشق وبيروت وغزة وصنعاء، والاستناد إلى صنع ما هو أقرب إلى التابعين السياسيين له من الحلفاء فى معركة العداء للاستعمار، والتراص معهم بشكل ديمقراطى وندىّ.
ويتضح بقوة أثر هذين الوجهين المتناقضين فى سلوك النظام الإيرانى منذ الاحتلال الأمريكى للعراق عام 2003. بالطبع كان مثل هذا الاحتلال تغيرا جيوستراتيجا هاما من شأنه تهديد النظام الإيرانى وإضعافه، وهو ما واجهه النظام الإيرانى بدعم كل صور مقاومة كل فصائل الشعب العراقى ضد الاحتلال الأمريكى، فقدم الدعم السياسى والعسكرى الضخم لكل الأطراف التى واجهت الاستعمار الأمريكى من وطنيين وبعثيين وإسلاميين وكل الفصائل، وكان له دور فاعل فى تحويل العراق إلى جحيم أمام المحتل الأمريكى، وإجباره على توقيع اتفاق عام 2007 للانسحاب من العراق تدريجيا حتى عام 2011.
وبالطبع لم يكن هذا الانسحاب لصالح استعادة الاستقلال الكامل للعراق، بل لصالح صفقة تم إبرامها بين أمريكا والنظام الإيرانى لتقاسم النفوذ بما يضمن الهيمنة الأمريكية الاقتصادية فى مجالى البترول وعقود إعادة الإعمار، وتقاسم النفوذ السياسى مع إيران، واستمرار حكم الدستور والعرف الطائفى لتقاسم القوى فى العراق. بجانب هذا تم الاتفاق على وقف كل الدعم العسكرى الإيرانى للأعمال العسكرية ضد التواجد الأمريكى فى العراق، بما فيه التواجد الرسمى تحت مسمى قوات تدريب الجيش العراقى أو التواجد غير الرسمى من خلال المنظمات العسكرية التابعة له مثل بلاك ووترز.
ويتضح هذا بشكل جلىّ من خلال العلاقة بين ثانى رئيس وزراء للعراق بعد الاحتلال، نورى المالكى، القوية مع كل من أمريكا وإيران. وبهذا أصبح النظام الإيرانى شريكا فى نظام الحكم العراقى بما فيها وقف كل المساعدات العسكرية وغيرها عن القوى التى عادت النفوذ الأمريكى فى العراق، والتواطؤ على فساد النظام الداخلى ونهبه لثروات الشعب العراقى لصالح قلة فاسدة قلبُها النظام العراقى الحاكم. كما أن إقرار الدستور والعرف على تقاسم النفوذ الشيعى السنى الكردى للنظام فى العراق مع إعطاء نصيب الأسد للشيعة ساهم فى السلوك الانتقامى للشيعة من السنة والسلوك العدوانى الذى يتضمن تهجيرا قسريا بحيث يمكن إغلاق مناطق على الشيعة وحدهم، وغيرها من السلوكيات المعادية للسنة. لم يترك هذا للسنة قوة سياسية يمكنهم الالتجاء إليها، مما ساهم فى زيادة دعمهم للمقاومة السنية لأمريكا وزيادة شعبية تنظيم القاعدة.
فى تلك الظروف تمأسس الفساد فى العراق ووصل إلى مستويات غير مسبوقة فى كل البلدان. لعل من الدلائل المريرة على هذا هو ما أقدم عليه ترامب من مصادرة مليارات الدولارات لرؤساء الوزارات العراقيين الناتجة عن فسادهم، فصادر 68 مليار دولار تخص نورى المالكى، و54 مليارا تخص أياد علاوى، و14 مليار تخص عبادى، وكأن نهب ثروات الشعب العراقى هو قدره والفارق هل اللص هو رؤساء الوزراء أم رئيس الولايات المتحدة! كما أدى التردى السياسى إلى استباحة أمريكا للعب الدور الرئيسى فى دعم تنظيم القاعدة وتنظيم داعش الذى يمثل انشقاقا عنه، سواء خدمة لمخططها للتفتيت العرقى للمنطقة أو للانتقام من النظام الإيرانى.
وصل تنظيم داعش بعد الاستيلاء على الموصل (والذى تم بصفقة مع القادة الفاسدين للفرق الحارسة للموصل لانسحاب القادة والجند مع ترك الأسلحة لداعش، فيما تردد أن الثمن دُفِع من خلال سفارة غربية فى العراق؟!) إلى الإعلان الرسمى عن دولة عاصمتها الموصل عام 2014. إلا أن التنظيم بعد أن أحس بقوته اندفع حتى بما يضر حلفاء أمريكا فهاجم بترول السعودية على الجنوب والأكراد فى الشمال وكليهما حليف قوى لأمريكا. رغم هذا أعلن العسكريون الأمريكيون، بل وأوباما شخصيا، بأن الهدف هو "احتواء داعش" “containment of ISIS” وليس مواجهته جذريا من أجل القضاء عليه!
عند هذا الحد كان هناك اتفاق بين كل من أمريكا وإيران على مواجهة محددة لداعش رغم اختلاف الدوافع والمدى الذى يود كل طرف منهم الذهاب إليه، بما فيها من صفقة لاحتواء الفساد المستشرى فى العراق وبالذات فى الجيش، بما يتضمن من إزاحة أكبر بؤرة للفساد وهو رئيس الوزراء نورى المالكى. لعبت إيران دورها أيضا فى الإطاحة بالمالكى بدعوتة لزيارة إيران لكى يكتشف أنها دعوة بدون عودة حتى تستقر الأمور، مع التوافق الأمريكى الإيرانى على الإتيان بعبادى رئيسا للوزراء. ومن الطريف ما أعلنه عبادى عن اكتشافه عن دلالة على حجم الفساد فى الجيش حيث اكتشف وجود كتائب وهمية على الورق فقط بدون جنود وتذهب مرتباتهم إلى قادة تلك الكتائب من لواءات وقادة الجيش العراقى!
وفى هذا السياق لم تكتفِ إيران بالتعاون لاستعادة فاعلية الجيش العراقى، بل أنشأت كتائب الدفاع الشعبى الشيعية فى العراق، كما دفعت بفصائل الحرس الثورى الإيرانى لمعاونة العراقيين ضد داعش. نجح هذا التحالف بدعم من مقاومة الشعب العراقى الذى سرعان ما أدرك أهداف داعش، وتم القضاء على تنظيم داعش فى العراق ليتحول إلى جيوب سرية محدودة وتنتهى دولته (وليس موضوعنا هنا توافق هذا مع انتهائه فى سوريا واستعادة عاصمته الرقة فى سياق يحمل الاتفاقات والاختلافات مع السيناريو العراقى).
نأتى لما نراه أهم طرف فى تلك المعادلة، صاحب كل المستقبل على أرض العراق، ألا وهو الشعب العراقى، الذى عانى من الاحتلال والتدمير الأمريكى كما عانى من التحالفات الفاسدة التى حكمت العراق بكل داعميها. وكانت المفارقة الضخمة بين استعادة موارد الاقتصاد العراقى لعائد متزايد من بيع الملايين من براميل النفط مع نهب عائدها فى ظل معاناة قاسية للشعب العراقى جميعه من تدهور المرافق العامة من مياه وكهرباء مع بطالة عنيفة وإفقار متزايد. أدى ذلك، خصوصا فى ظل كون العراق محاطا بانتفاضات الشعوب العربية بانتفاضات وثورات شعبية ضد مستغليها، أدى إلى عدد من الهبات والانتفاضات الهامة وصولا للثورة الأخيرة التى مثلت ذروة ونقلة كيفية، حيث تجاوزت إلى حد بعيد حدود الطائفية وضمت قطاعات واسعة من جمهور الشيعة جنبا إلى جنب مع السنة، استمرت تطالب بتغيرات جذرية للحكم الطائفى الاستغلالى الفاسد، وكل داعميه سواء من أمريكا أو ضلوع إيران فى الدفاع عن هذا النظام الفاسد.
كان خطأً جذريا للنظام الإيرانى أنه قد أخذ جانب النظام ضد الشعب العراقى، وما أصبح واضحا من مساندة التنظيمات الشيعية المرتبطة بإيران (باستثناء قوى لتنظيم مقتدى الصدر) ضد المنتفضين وما تردد عن كونهم الطرف الثالث فى مقاومة الجماهير واغتيال قيادات الحراك.
ونحن ندرك تخوف بعض القوى العراقية، ومنها قوى تقدمية، من تقليص النفوذ الأمريكى فى العراق حيث يرونه دعما للعراق فى مواجهة النفوذ الإيرانى، إلا أن هذا خطأ بالغ. مما له دلالة عميقة على مدى تعقيد الوضع أنه بعد اغتيال سليمانى والمهندس وأثناء الجنازات العادية والرمزية فى مختلف أنحاء العراق وإيران حاولت القوات المدعومة إيرانيا فى العراق الدخول بنعوش لفرض تشييع جنازات رمزية لهم داخل ساحات الاعتصام، وفشلوا فى مواجهة الرفض الشعبى رغم ما قيل عن استخدامهم للأسلحة البيضاء وغيرها!
إننا فى هذا الوضع الملتبس لابد وأن نحدد موقفا واضحا للجماهير العربية:
• إن الأولوية القاطعة هى الرفض الكامل لكل محاولات أمريكا لزيادة نفوذها فى المنطقة باعتبارها فى قلب أول المستغلين للمنطقة، وبالطبع نتضامن مع جوانب المقاومة الإيرانية المختلفة للنفوذ الإمبريالى ولا نقلل من حجم التأثير الإيجابى للدعم الإيرانى على مقاومة نفوذ داعش والنصرة وغيرهم فى العراق وسوريا.
• لاشك أن ظاهرة مواجهة حزب الله لإسرائيل ونجاحه فى طردها مرتين أعوام 2000 و2006 لم يكن ليتم لولا الدعم الاستراتيجى الضخم لحزب الله المقاوم، وهو ظاهرة إيجابية وطنية لا شك فيها، رغم أن هذا لا ينفى جوانب التناقض بيننا وبين سياسات هامة لحزب الله، إلا أن هذا الموضوع يحتاج لمعالجة مستقلة ويخرج عن سياق هذا المقال.
• إن هذا الموقف لا يعنى على الإطلاق عدم اتخاذ موقف نقدى واضح من الجوانب السلبية التى أوضحناها فى السياسات الإيرانية تجاه العراق بالذات فى أثناء الثورة الحالية التى تجتاحه، فجماهير العراق فى انتفاضتها وثورتها الحالية هى قوة هائلة حالية وكامنة مستقبلية لمواجهة كل الأعداء الخارجيين والداخليين لمصالح الشعوب العربية.
النصر للشعوب العربية، والموت للإمبريالية وحلفاءها.
دكتور محمد حسن خليل
7 يناير 2020
الحزب الاشتراكى المصرى