الشجرة المحتارة بين الغباء والحضارة!


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 6452 - 2020 / 1 / 1 - 17:30
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

في يوم 31.12.2019 طالعتنا الصحافة في ليبيا والعالم بالخبر التالي: « قام رجال الحرس البلدي بضبط وأحضار مايسمى بشجرة الكريسمس بمحلات بمدينة طبرق وهذه الشجرة لاتمت لديننا الحنيف بصلة وهي من شعائر أعياد النصارى وقد نهانا ديننا الحنيف بعدم التشبه بالنصارى أو حتى مجرد تهنئتهم بأعيادهم ونطلب من التجار أن يتقوا الله وأن لايستهينوا بمثل هذه الأمور .
حفظ الله بلادنا وسائر بلاد المسلمين .
وحده الاعلام بفرع جهاز الحرس البلدي البطنان».
https://www.alhurra.com/a/شجرة-عيد-ميلاد-ضبط-إحضار-ليبيا-شرق-خليفة-حفتر/527274.html
وسوف يرى القارئ الخبر مرفقًا العديد من الصور الفوتوغرافية الملوَّنة عالية الجودة لشجرة هزيلة جدًا صنعت من البلاستيك، مزينة بشكل ردئ للغاية، ويحيط بها ثماني رجال أشداء، ثلاثة منهم بزي مدنيٍّ وخمسة آخرين بزيٍّ عسكري نظيف ويحملون رتبًا عسكريةً عليا، وقد بدى على الجميع الفخر والاعتزاز والتباهي والتبجُّح والعظمة والزهو والتكبُّر مما يشير إلى خلو حياتهم العملية والشخصية بما يدعوهم لذلك، فتقوم به هذه الشجرة !
ومن ناحيتها تؤكد الهيئة العامة للجمارك في مملكة آل سعود، عبر حسابها الرسمي على "تويتر"، منع دخول "شجرة الكريسماس" إلى المملكة، مع اقتراب احتفالات نهاية العام الميلادي، كما تشدد هيئة الأمر بالمعروف (الغير معروف) والنهي عن المنكر (اللا نهائي) هناك، في ختام كل عام ميلادي، على المواطنين داخل المملكة والمؤسسات والفنادق والمطاعم والشركات، بضرورة منع أي مظاهر للاحتفال بأعياد الميلاد.
https://arabic.sputniknews.com/mosaic/201812151037504480-قرار-سعودي-شجرة-الكريسماس/
بينما يختلف الوضع في دول الجوار، حيث تزيِّن أشجار الميلاد الضخمة المحلات التجارية في الإمارات والكويت والبحرين. وقد أقامت أبوظبي شجرة مزينة بالمجوهرات بلغت قيمتها 11 مليون دولار (نعم، 11 مليون دولار)، كما تملأ الألعاب النارية في رأس السنة سماء جارتها دبي!
https://raseef22.com/article/86215-رحلة-البحث-عن-الشجرة-المحرمة-رأس-السن
أمَّا دول العربان الأخرى، فمازالت تدور في فلك اللت والعجن والقيل والقال تجاه هذا الأمر وغيره الكثير، ممَّا يضع المواطن أمام خياره الشخص وليذهب أصحاب الخيارات الأخرى إلى الجحيم!
أخذوا من المسيحيين الذين ينعتونهم بالنصارى كل شيء، حتى ملابسهم ووسائل تنقلهم واتصالاتهم وأسلوب حياتهم، ولم تبقي سوى هذه الشجرة في حيرة بينهم، شأنها في ذلك شأن الأشياء الأخرى التي انفصلت في يوم ما عن محيطها وبيئتها، وحاولت الدخول إلى عالمهم، ولان عالمهم يسود فيه ثقافة الغباء المقدس، فإن وجودها يحدث على الفور نوع من الخوف منها والسرية في الإقبال عليها، مما يزيد التعلق بها ومحبتها وازدياد أهميتها. حدث هذا مع دخول التليفون والسيارة والتليفزيون والأقمار الصناعية والإنترنت وغيرها.
ونقرأ تبريرهم لعملية ضبط وإحضار هذه الشجرة الهزيلة، أنها لا تمت بصلة لدينهم الحنيف … إلخ. صحيح أن نبيهم الكريم وصحابته وخلفاءه الراشدين وسلفهم الصالحين لم يحظوا بمثل هذه الأشياء في حياتهم. ولكن ما ذنب خلَفًِهم التعساء والمساكين في ذلك، ما ذنب هؤلاء والعالم من حولهم يتقدم ويتطور ويقترب من الإنسانية وهم مازالوا يغرقون في الجهل والغباء كل يوم ؟
ما ذنبهم أن نسي إلههم أن يقول لهم ما سوف ينتظرهم في القرون التالية، ولم يصل علمه للغيب إلى معرفة منتجات النصارى الكفار التي سوف تغزو بيوتهم وتسيطر على نفوسهم وجيوبهم، وتطغى على قلوبهم ومشاعرهم. وترك لهم فترة واحدة في تاريخهم الموغل في القدم ليقتدوا بها ويحاربوا من أجل العودة إليها.
ولكن لو أن نبيهم الكريم كان موجودًا بينهم الآن، ألا نجده يسرع قبلهم إلى استعمال كل منتجات النصارى، من التليفون المحمول والسيارات الفارهة، وأن يغرق من أخمص قدميه حتى قمة رأسه في الشبكة العنكبوتية ويلتقي بالشيخ جبريل داخلها، ليبرر له ما يفعله وما يريد أن يفعله، ويكتب لأمته عبر تويتر والفيسبوك وغيرهما من مواقع التواصل الاجتماعي، عمَّا يجب أن يفعلوه وما يجب عليهم ألا يفعلوه من دونه. فلا شأن لهم بما يفعله هو!
الذين أمروا بضبط شجرة الكريسماس متلبسة بالاعتداء على ديانتهم وتهديد ثقافتهم، وربما وجودهم بالكامل، والذين قاموا بضبطها وإحضارها والذين هللوا وكبروا لذلك وأيضًا الذين سكتوا على ذلك، يفتقدون جميعًا إلى أي شئ يمكنُهم التباهي به، حتى أنهم يفتقدون إلى مجرد الإحساس بالعظمة والزهو في حياتهم، إنهم لا يعانون من الجهل المقدس فحسب، بل يعانون أيضًا من العدم واليأس والقنوط، وليست لديهم أدنى إمكانية للخروج ممَّا يعانون منه. أمّا الذين ينعتونهم بالنصارى، فلم يصنعوا صناعتهم لأحد غيرهم، ولم يطلبوا من أحد استعمالها، ولا يهمهم إن عاش غيرهم في العراء أو في الخيام أو عاشوا في القصور أو في الأبراج المشيدة، ولا يأبهون بما إذا كان بإمكان الآخرين صناعة مثلها أم لا. إنهم يساهمون بعلمهم ومبادئهم في تطور الإنسانية ورقيها، ويحترمون كل من يشاركهم في تطورها ورقيها، كل ما يهمهم هو حسن الجوار، وأن يعبد الآخرون ما شاؤوا أو يكفروا بما شاءوا، وإذا كانوا لا يستطيعون التحلي بالتسامح والمحبة واحترام أنفسهم واحترام الغير؛ باختصار أن يتصفوا بصفات الإنسانية إن كانوا أناسًا بالفعل، فعليهم أن يحتفظون بغبائهم وجهلهن ومصائبهم لأنفسهم، ولا ينقلوها إلى غيرهم!
لا شك في أن الإنسان السوي يحزن عندما يرى جاره وقد توقف به الزمن عند الماضي السحيق، فغرق في الجهل والعدم واليأس والقنوط، ويحزن أكثر عندما يجده يتباهى بجهله وغبائه ويزهو بيأسه وقنوطه، ويسعى جاهدًا ومجاهدًا لفرض ما يتباهى أو يزهو به على الآخرين دون خجل أو وجل.
قليل من الخجل والوجل قد ينقذ شجرة الكريسماس، كما أنقذ غيرها، من أيدي البلهاء والسفهاء، ويضعها في المكان الصحيح من مشاعر الإنسان إذا أراد - في يوم ما - أن يكون إنسانًا بالفعل.