ذكريات ...


طارق حجي
الحوار المتمدن - العدد: 6368 - 2019 / 10 / 3 - 18:30
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

منذ 15 سنة كنت مدعواً على العشاءِ فى قصر الوجبة فى العاصمة القطرية عشاءً ثلاثياً أي لثلاثة أشخاص : أمير قطر يومها حمد بن خليفة وزوجته الأثيرة من بين أربع زوجات موزة بنت ناصر المسند وكاتب هذه السطور. فى الدقائق الأولي قلتُ ما يلي للأمير : وصلت أمس لقطر. وصباح اليوم تمشيت لمدة ساعتين فى الدوحة. ولأن الوقت كان فى شهر نوڤمبر ، فلم يحل القيظُ بيني وبين المشي فى شوارع مدينة قد يستحيل المشي لمدة طويلة فى شوارعها فى الصيف. وقلت للأمير : مررتُ أثناء المشي على مكتب تمثيل حركة طالبان ومكتب تمثيل حركة حماس ومكتب تمثيل إسرائيل وسفارة إيران ومكتب تابع للقاعدة العسكرية الأمريكية (العُديد) والتى هى أكبر قاعدة عسكرية أمريكية خارج الولايات المتحدة ، كما أشار مرافق لي لمبني وقال : هذا مكتب جماعة الإخوان ... ثم قلتُ للأمير : هذا المزاييك الغريب وراءه رؤية ، فما هى هذه الرؤية ؟ كان رد الأمير أول ما أسمعه منه مباشرة ، وقد ذهلت ، لأنه على نقيض زوجته لا يجيد الحديث إطلاقاً ، بل وقد يكون من أسوأ من قابلت فى ترتيب الأفكار والكلمات. وفهمت أنه يتباهي بوجود "جميع من ذكرتهم" وهو ما إعتبره فى رده دليلاً على أهمية قطر. وربما تكون زوجته قد شعرت بأن رده كان مهلهلاً فتدخلت بهذه العبارة : فى الماضي كانت الغلبة للسمك الكبير ، أما الآن فإنها للسمك الصغير السريع ! وكان ما وصلني من حمد و موزة هو الآتي : نحن أثرياء جداً جداً جداً ، ولابد أن يكون دورُنا فى المسرح العالمي عاكساً لثراءنا ! يومها عدتُ لغرفتي وكتبت هذه الكلمات : غريبة أن يظن قادة قطر أنهم بثروتهم سيشترون مكانة عليا لهم فى مسرح السياسات الدولية. فهذا مستحيل. وأقصي ما سيستطيعون تحقيقه أن يكونوا "مخلباً" لطرفٍ أو لأطرافٍ ما. فدولة بلا تاريخ ولا ثقافة ولا مساهمة من أي نوع فى مسيرة الحضارة لن تشتري بالمال أي شيءٍ أكثر من أن تكون "مخلباً" لطرفٍ أو لأطرافٍ. وهذا هو ما حدث بالحرف : فقطر مخلب لتنظيم الإخوان الدولي بجانب خدمات أخرى لأطراف غير الإخوان. وبعد أن كتبت هذه الكلمات ألقت ذاكرتي أمامي طيف رجل عظيم وهو يحدثني ونحن فى طائرته الخاصة من "أبو سنبل" ل "لندن". وأعني سير پيتير هولمز الذى كان منذ ربع قرن رئيس أكبر شركة بترول فى العالم (وقتها) وهى شركة "شل". كان پيتير هولمز (وهو خريج جامعة كامبريدج العريقة) يتقن اللغة العربية الفصحي وعددٍ كبيرٍ من اللهجات الخليجية. فى الطائرة من "أبو سمبل" ل "لندن" أسهب هولمز فى الحديث عن صداقاته مع الملك فهد والسلطان قابوس وشيوخ الإمارات بوجهٍ عامٍ وحاكم دبي راشد بن مكتوم بوجهٍ خاص. وكان كلامه فى أغلبه إيجابياً. فهو مثل أبناء الطبقة الأعلي من الأرستوقراطيين الإنجليز لا يقدح فى أحدٍ ، وبتعبير أدق "لا يقدح فى أحدٍ بشكل مباشر". يومها سألته عن أمير قطر (خليفة) وعن إبنه الذى سيخلعه فى صيف 1995 (حمد). ضحك وتخلي عن حرصه الإنجليزي فى إنتقاء مفرداته وقال لي : قابلته عشرات المرات ، ومنذ اللقاء الأول إبتكرت وحدة لمعدل الغباء هى : حمد-1 ، حمد-2 ، حمد-3 ! بعد هذا الحوار أُتيحت لي فرص لقاء عددٍ من كبار المسؤولين فى العالم. وعندما كنا نلتقي بواحدٍ من هؤلاء لا يتميز بالذكاء ، فقد كان پيتير هولمز يهمس فى أُذني بهذا السؤال : أنا أُعطيه "حمد-4" ، ما رأيك ؟ ... وعندما أتذكر پيتير هولمز أُذكر نفسي بكم كنت محظوظاً بمعرفة والتعامل مع أشخاص مثله. وپيتير هولمز كان سنة 1956 موظفاً صغيراً فى شركة شل السودان. وعندما لمس المسؤولون فى شل العالمية إختلافه وتميّزه أرسلوه لأهم ثلاث جهات متخصصة فى قياس الذكاء ، وجاءت النتيجة من المؤسسات الثلاث بأن معدل ذكاء پيتير هولمز هو أعلى معدل سبق تسجيله على مستوى العالم. هذا "الشاب" (نحن الآن فى 1956) والذى درس التاريخ واللغات والفلسفة ولم يدرس هندسة البترول والجيلوجيا والجيوفيزيقيا ، ومع ذلك سيصبح فى تسعينات القرن العشرين أعلي وأهم إسم فى عالم البترول على مستوى العالم كما كان مستشاراً مقرباً للملكة إليزابيث وكانت (لأسباب عديدة منها إتقانه للغة العربية) تعهد له بمرافقة ملك السعودية وصديقيه سلطان عُمان و سلطان بروناي عند زيارة أيّ منهم لبريطانيا. ويبدو أن المواهب تورث ، فقد إلتقيت بواحدة من بناته الثلاث (سارة هولمز) فى لندن منذ سنوات وعرفت أنها من أهم المراجع فى العالم بخصوص عددٍ من مجالات الأحياء البحرية وبالذات سمك القرش !