كيف تؤثر الثقافة في الاقتصاد

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 6362 - 2019 / 9 / 26 - 23:26
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تعرف الثقافة بأنها مجموعة القيم والمعتقدات والتفضيلات السائدة في أي مجتمع، وفي النهاية فإن هذه المعطيات هي محصلة الظروف المكانية والزمانية الخاصة بكل دولة. وكما أن الموروث الثقافي لكل فرد يؤثر بشكل كبير على مسار حياته كذلك تؤثر الثقافة على الأداء الاقتصادي للدولة كما سنوضح حالا.

والاقتصاديون عادة ما يعزفون عن التعرض لتأثير العوامل الثقافية على الإنتاجية والكفاءة الاقتصادية للمجتمعات والدول خوفا من تهمة العنصرية والتمييز العرقي. ولكن هناك الآن توجه أكاديمي يهدف إلى دراسة تأثير هذه العوامل على النمو الاقتصادي ومتغيرات الاقتصاد السياسي المعاصر. وهنأ تبرز مشكلة دقيقة ألا وهي كيفية التمييز بين تأثير العوامل الثقافية والعوامل الجينية حيث يؤثر كلاهما على السلوك والقرارات الاقتصادية للفرد بشكل كبير. وعادة ما يتم التغلب على هذه الإشكالية من خلال فهم الظروف المحيطة بالعينة موضع البحث باستخدام أدوات الاقتصاد السلوكي. ومن امثلة هذا نجد أن هناك من لديه الاستعداد بحكم تركيبته الجينية للتصرف برعونة واندفاع عند اتخاذ القرارات الاقتصادية. ولكن هناك أيضا من يتصرف بهذه الطريقة لأسباب دينية مثل هؤلاء الذين يكتفون بالتوكل على المقدس والأولياء في اتخاذ قراراتهم الاقتصادية كما حدث أيام شركات الأموال الإسلامية في مصر حيث صدق الآلاف إن المشاركات الإسلامية الحلال تتميز بالبركة ويمكنها إن تحقق عائدا يزيد عن 20% سنويا وكانت النتيجة أن خسروا أموالهم مع الريان وغيره بسبب الرعونة وغياب العقلانية.
فلو إن هؤلاء أعملوا عقولهم قليلا لأدركوا أن الريان يحتاج أن يحقق عائدا صافيا لا يقل عن 40% كي يمنحهم 20% لأنه لا يعقل أن يمنحهم ربحا أكثر مما يحصل هو عليه لأنه لم يفتح شركته لتوزيع صدقات في سبيل الله. ولأدرك هؤلاء أيضا أن نسبة ربح 40% لا تحققها حتى تجارة المخدرات!
الحالة الجينية الأولى يصعب علاجها، أما الحالة الثقافية الثانية فإنه يمكن التعامل معها من خلال نقد الثقافة السائدة بشكل موضوعي وعلمي والسعي للحد من تأثيراتها السلبية على الناس من خلال المنطق والنقاش والإقناع.

لقد أثبتت الدراسات الاكاديمية أن منهج الشك والتفكير النقدي والتأمل العميق يساعد طلاب الدراسات العليا بشكل فاعل على تجويد أبحاثهم والوصول إلى نتائج جديدة، بمعنى أن هذه المنهجية هي الطريق الوحيد لوصول تلاميذنا في الجامعة إلى الاكتشافات والاختراعات الجديدة عكس المنهجية اليقينية المتبعة في الأبحاث الدينية حيث يكون المطلوب من الباحثين إثبات ما هو مثبت من قبل وإضفاء المزيد من القداسة على ما يبحثون فيه وهو ما نسميه بالمنهج التبجيلي في البحث، وهي منهج لا يأتي بجديد لأنه يقوم على حرمانية النقد والتركيز على التلقين والحفظ دون أي تأمل.
وبالفعل فإن من لا يرزق ملكة التأمل تتسطح أعماقه ولا يمكن أن يكون مبدعا أو ملهما لمن حوله.

وباعتبار أن منهج الشك والسؤال والنقد غير مستحب في عالمنا العربي القائم على الثقافة الأبوية والقبلية في كل المجتمعات والمجالات كانت النتيجة تخلف مؤسساتنا الاقتصادية والإنتاجية وشيوع الفساد والهدر بها لأن العاملين بها محرومون من حق السؤال والنقد والمحاسبة. إذن أنها الثقافة.

نحن هنا نتكلم عن تفضيلات ثقافية ومناهج حياة لها تأثيرات بالغة على الأداء الاقتصادي ومستوى المعيشة في عالم يتبع نظاما رأسماليا يقوم على الطمع والأنانية والمنافسة الشرسة التي لا ترحم ولم يعد فيه مكان للقيم القديمة النبيلة التي يستحيل تطبيقها أو فرضها الآن بدون ميزانية أو قوة تساندها.

وأود هنا أن أطرح بعض الأمثلة حول التفضيلات الثقافية التي ترتضيها مجتمعاتنا وحكامنا بالأساس بشكل اختياري ودون أي تدخلات أو ضغوط من الخارج وكان لها أثار سلبية على أداءنا الاقتصادي بحيث أصبحنا لا نتنافس إلا على المؤخرة في كل المجالات والإحصاءات:

- هل كان للثقافة المحلية في العالم العربي وأصولها الدينية دور في تقبلنا للاستبداد وتعايشنا معه لقرون حتى اعتدنا عليه ونسينا أن تكلفته الاقتصادية باهظة، حيث ثبت لنا اقتصاديا أن تكلفة تنمية الشعوب أقل بكثير من تكلفة قمعها.
- ألا يدري حكامنا أن عدم ثقة الناس في نظام الحكم ومؤسسات الدولة تؤثر بشكل سلبي على سلوكياتهم وولاءهم ونوعية قراراتهم الاقتصادية مما يكون له تبعات سيئة على الأداء الاقتصادي للدولة وضياع فرص لا تعوض خاصة في مجال مواردنا البشرية النابغة التي تهرب إلى الخارج في أول فرصة تسنح لها؟
- هل كان لتفضيل بقاء المرأة في البيت والتضييق على تعليمها وعملها مردود جيد على التنمية البشرية في عالمنا العربي؟ في الاقتصاد لا نعتبر أن منظومة التنمية المستدامة كاملة إلا إذا شملت المرأة وخصتها ببرامج للتمكين الاقتصادي باعتبارها نصف المجتمع ومسؤولة عن نصفه الآخر ومن حقها أن تتمتع بنوع من الاستقلال المالي وأن تساهم في عملية التنمية لأسرتها ومجتمعها.
- هل كانت ثقافة التزمت الديني وعدم التسامح مع جارنا الآخر في الوطن لمجرد انتمائه لملة أخرى هي السبب في الحروب الأهلية المشتعلة في العديد من البلاد العربية حاليا ومعاناة شعوب عريقة كانت صانعة للحضارات مثل سوريا والعراق واليمن وغيرها؟ إن حجم الدمار وحجم الخسائر الاقتصادية التي لحقت بهذه الدول بسبب هذه الثقافة الدينية يفوق الخيال.
- هل استفدنا بشكل حقيقي من ظاهرة العولمة وتقارب الشعوب والثقافات كي نتحرر ولو قليلا من منظومة العقل الديني المنغلق عل ذاته وغير القادر على طرح أي أسئلة ولا يعمل إلا في إطار المعرفة الجاهزة المستقاة من النص المقدس بحيث انحصرت مهمة هذا العقل في توليد النصوص من النصوص السابقة كما كان يقول المفكر الكبير محمد أركون. العالم كله استفاد مما وفرته العولمة في عصرها الذهبي في مجالات تبادل المعلومات والثقافات إلا هذا العقل الديني المحصن ضد المعرفة والمتشبث بالماضي بينما الآخر ينظر إلى الأمام ويتطلع إلى المستقبل.

ولكن ولحسن الحظ فإن العوامل الثقافية ليست ثابتة لإن الأفكار والقناعات تتطور مع الزمن وتغير الظروف الاقتصادية، وقد تعلمنا في تاريخ الفكر الاقتصادي أن التحولات الاقتصادية الكبرى في مسيرة الشعوب لا تأتي من خلال تغير أو حدوث طفرة ما في طبيعتها الجينية ولكن حدث هذا دائما من خلال تحول ثقافي كبير كان له أثر إيجابي على طريقة التفكير والسلوك ومن ثم البنيان الاقتصادي للأمم.
وكمثال على ما سبق فإن الثورة الصناعية في أوروبا لم تتحقق إلا بعد التحول الثقافي الهائل الذي نتج عن عصر النهضة والتنوير والتحرر من نفوذ الكنسية.
وكذلك لم تبدأ الصين في التقدم إلا بعد حسم الصراع الثقافي الطويل والمضنى والمتقلب بين الثقافة الكونفوشيوسية وثقافة الموهيزم لصالح الأخيرة التي هاجمت الكونفوشيوسية ورأت أنها تضيع موارد الدولة في طقوس دينية مكلفة ولا معنى لها وتجافي المنطق والعقلانية.

ومن ثم فإن إيماننا كبير في أن التحول الثقافي الذي نحن بحاجة إليه حتما سيأتي ربما بعد اختفاء جيلنا والجيل الضائع الحالي وبعد اختفاء رموز الاستبداد العسكري والديني الملازمين لنا طوال السبعين عاما الأخيرة. نعتقد أنه بعد اكتمال الدورة المئوية وتفاقم المشكلة الاقتصادية بسبب الثقافة السائدة، ستأتي قيادات مستنيرة تقود شباب المنطقة الذي يحتاج فقط الى مثل أعلى وتعليم جيد والتحرر من المنظومات الثقافية الرجعية. ثورة المعلومات آتية وسوف تغير كل التوازنات الحالية وسوف تؤثر على سلوكيات الناس وطريقة تفكيرهم بشكل مذهل، إنها الطفرة الثقافية التنويرية التي نحتاجها والتي لن يستطيع أحد إيقافها. إنها مسألة وقت.

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي