الحلقة السابعة..حراك الشعب السوري من الحلم بالتغيير إلى الكارثة


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 6357 - 2019 / 9 / 21 - 14:27
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الحلقة السابعة
حراك الشعب السوري من الحلم بالتغيير إلى الكارثة
الفصل الثاني
طبيعة النظام السوري وقابليته للإصلاح
10- الوضع الدولي يضغط على النظام للقيام بالإصلاح.
بداية لا بد من الإشارة إلى أن العالم قد تغير، وتغيرت بالتالي أنماط التفكير، التي كانت سائدة خلال مرحلة الحرب الباردة، والتي كانت تولد طلبا كبيرا على الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية. لقد صار العالم، في الفترة التالية للحرب الباردة، أكثر تقبلا لفكرة الحرية والديمقراطية، في ظروف صارت الرأسمالية أقرب للتماثل الداخلي، تعيش تناقضات وصراعات تطورية، وليس بنيوية. بكلام آخر لقد استعادت الرأسمالية العالمية تناقضاتها، وصراعاتها التقليدية على الموارد، وعلى الأسواق، بما تفرضه هذه التناقضات، وهذه الصراعات من تحالفات وتكتلات واستقطابات، ومناخات ملائمة. فإذا كانت الرأسمالية التقليدية قد جعلت من حرية العامل المؤشر الأبرز على انتصارها الداخلي، فإنها في مرحلتها العالمية سوف تجعل من حرية الشعوب، وديمقراطيتها، العلامة الأبرز على انتصارها العالمي. ويجب أن يكون واضحا أن الحرية، أو الديمقراطية، أو حقوق الإنسان، وغيرها من المفاهيم، والقضايا التي تعنيها الرأسمالية، هي تلك التي ترسم حدود المناخ الملائم لاشتغال رأس المال.
غير أن هذا المناخ السياسي العالمي بدأ يولد طلبا مباشرا على الحرية، والديمقراطية، في الدول العربية والإسلامية، خصوصا بعد الحادي عشر من أيلول، لأسباب إضافية، تبدو للوهلة الأولى مختلفة، ولا علاقة لها بالتحولات الجارية في بنية الرأسمالية العالمية. صارت هذه الأسباب معروفة تحت عنوان مكافحة الإرهاب. ومن سوء حظ المنطقة، أن القوة الدولية الحاسمة في ذلك هي الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك لما سوف تطلبه من تكاليف إضافية، بالنظر للقيمة الانفعالية السلبية للولايات المتحدة الأمريكية في الوعي السائد، لدى العرب والمسلمين، بالنظر لعلاقاتها الوطيدة مع الكيان الصهيوني في فلسطين، ودعمها الطويل للأنظمة الاستبدادية في المنطقة. بكلام آخر ينظر كثير من العرب إلى الولايات المتحدة كعدو، أو في الحد الأدنى فاقدة للمصداقية، خصوصا بعد الذي جرى في العراق، والديمقراطية الطائفية التي تعمل عليها هناك.
في هذا المناخ الدولي الذي أخذ يحاصر، ويضغط على النظام السوري، جاء التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود بضغط من سورية، وخصوصا بعد اغتيال رفيق الحريري، لتكمل القوى الدولية حصارها للنظام السوري، وتجبره على الانسحاب من لبنان، وهي مستمرة في ضغطها عليه لتجبره على الانفتاح، واتخاذ خطوات جدية على صعيد الإصلاح الداخلي. بطبيعة الحال، وهذا منطقي إلى حد كبير، تبغي القوى الدولية من ضغطها على النظام السوري تحقيق مصالحها الخاصة، وليس بالضرورة مصالح الشعب السوري، بل قد تكون متعارضة معها جوهرياً، خصوصا في تلك الجوانب المتعلقة بإسرائيل. مع ذلك، وهذا من سخرية القدر، أن يجد السوريون نوعا من التوافق الموضوعي بين مطالبهم في الحرية والديمقراطية، والمطالب الأمريكية
في تغير الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، لصالح أنظمة ديمقراطية تختارها لهم أمريكا.
ومما يؤسف له، أن النظام السوري، الذي راهن كثير من السوريين عليه، في عهده الجديد، يصم أذانه باستمرار عن المطالب الوطنية بضرورة الإصلاح، تحوطا ومنعا للتدخلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري، وتمتينا لوحدته الداخلية في وجه التدخلات المحتملة، والتي كنا، في أكثر من مناسبة، قد نبهنا إلى جديتها وخطورتها، وأنها أخذت تتحول من وضعيتها الاحتمالية إلى وضعية التأكيد. مع ذلك استمر النظام في تمنعه عن إجراء أية اصلاحات جدية في بنيته، وألية اشتغاله، وهو يكاد يفقد أية فرصة للقيام بذلك. على السلطة البعثية في سورية أن تغير نمط تفكيرها، وان تعيد تشكيلها بصورة مختلفة، في ظل ظروف، وشروط جديدة تتغير باستمرار. وإذا كان جزء من شروط وظروف البيئة الاستبدادية في سورية، أعني الشق الخارجي، قد أخذ يتغير، فإن على السلطة، وعلى القوى الوطنية والديمقراطية السورية، أن تعيد النظر في الظروف والشروط الداخلية المولدة والداعمة للاستبداد. ومما لا شك فيه أن السلطة السورية تتحمل مسؤولية خاصة في هذا المجال. الوعد بالتغيير لم يعد يقنع الشعب السوري، فهو يريد أفعالا حقيقية، تعيد للمواطن حريته، وكرامته، وحقه في حياة سياسية طبيعية. انه يتطلع إلى ما يؤسس لدولة الحق والقانون، دولة المؤسسات، لا الأجهزة، دولة ديمقراطية يصنعها بنفسه، تشكل خياره الوطني، وليس خيارا مفروضا عليه.
في ضوء ما تقدم يمكن القول أن سورية، في بداية عهد بشار الأسد، لم تقطع مع المرحلة السابقة من حكم الأسد الأب لها، لكنها قد بدأت تشهد جملة من التغيرات رغم جزئيتها وسطحيتها، يمكن أن تؤسس، لتغيرات أكثر عمقاً، في حال متابعتها. إنها محكومة بالتغير، وبقدر ما تبكر في وعي ضروراته، ومتطلباته، بقدر ما تقلل من تكاليفه المباشرة، وغير المباشرة. وبالفعل لقد حدثت على هذا الطريق جملة من المتغيرات لا بد من رؤيتها:
1-لقد اعترفت السلطة، وعلى الضد من طبيعتها "الكاملة" التي ادعتها طوال العقود الثلاثة الماضية، بأنها تعاني من نقص شديد، هو فيها أزمات متداخلة متراكبة، لا بد من تجاوزها، فكان الخطاب الإصلاحي خطاب للسلطة، قدمته في صيغة التطوير والتحديث تارة، أو في صيغة التغيير من خلال الاستمرارية تارة أخرى. ومع أن هذا الخطاب لم يستقر ، وليس متسقاً، إلا أنه كان محكوماً بالاستقرار بعاملين أساسين، تجعل احتمال انتقاله من دائرة تداوله التكتيكي، إلى دائرة الخيارات الاستراتيجية ممكنا، وإلا الانفجار سوف يكون مرجحاً.
العامل الأول يتعلق بالمتغيرات الخارجية، التي عصفت بالبيئة العالمية، والإقليمية، المولدة للطلب على الأنظمة الاستبدادية، والدكتاتورية.
والعامل الثاني يتعلق بضرورة استيعاب المتغيرات في البنية المجتمعية الداخلية الناتجة عن انتشار التعليم، والانخراط في النشاطات الاقتصادية المختلفة، وتحديدا تحول الكثير من رموز البرجوازية البيروقراطية، في جيلها الثاني إلى مواقع البرجوازية التقليدية. باختصار لم يعد من الممكن العيش بالطريقة السابقة، لا السلطة، ولا المعارضة، الجميع ينشد التغيير لكن كل على طريقته.
2-في هذا الإطار اتخذت السلطة جملة من التغييرات في البنية التشريعية، والقانونية السائدة، وأصدرت قوانين جديدة، تركز في مجملها على ما اعتبرته أولوية في رؤيتها الإصلاحية، أعني الإصلاح الاقتصادي، والإداري. وسمحت بإنشاء البنوك الخاصة، والجامعات الخاصة، واتخذت إجراءات للحد من تأثير القوانين الاستثنائية السائدة المفعول، في ظل إعلان حالة الطوارئ، والحكم العرفي، على المجال الاقتصادي، وتسعى لتحسين بيئة المناخ الاستثماري في سورية.
3- اتخذت إجراءات هامة على صعيد تحسين الواقع المعاشي للمواطنين، فزادت دخولهم الاسمية أكثر من 65% خلال الأربع سنوات المنصرمة الأولى من عمر العهد الجديد، وتتحدث السلطة عن خطة لزيادة دخول المواطنين الاسمية مائة بالمائة بحدود عام 2010.
4- تراجعت كثيراً قمعية السلطة، سواء لكونها وظيفة رئيسة من وظائف السلطة المستبدة، أم لكونها وظيفة سيادية للدولة. وإذا كانت الأولى تؤشر إلى متغير إيجابي في واقع السلطة، فإن الثانية تؤشر إلى متغير، قد يكون كارثياً على وجود الدولة ذاته. وما نشهده من حراك اجتماعي وسياسي معارض، وعلني، يؤشر بلا شك إلى أن السلطة لم تعد كتيمة، بل أخذت تبدي بعض النفاذية. في هذا الإطار أخذ حزب البعث يفكر بمراجعة منطلقاته الفكرية، والسياسية، في خطوة لافتة.
5- اتخذ حزب البعث، في مؤتمره العاشر الأخير، جملة من التوصيات الهامة، تتعلق بالوضع الداخلي، منها إمكانية النظر في تعديل الدستور، والحد من نطاق سريان حالة الطوارئ، وحل مشكلة المواطنين الأكراد غير المجنسين، وإلغاء المرسومين رقم 4 ورقم 6 سيئي الصيت، وكذلك إلغاء القانون رقم 53 المتعلق بأمن الحزب، وتعديل قانون المطبوعات، وقانون الإعلام، وإصدار قانون للأحزاب وغيرها، وجميعها كانت في مقدمة مطالب المعارضة السورية. بطبيعة الحال تبقى العبرة في التطبيق، وهو لا يسير كما تريد المعارضة، وكما تحتاجه سورية.
من نافل القول، أن سورية تهددها مخاطر كثيرة، داخلية وخارجية. غير أن هذه المخاطر ما كان لها أن تكون بهذا الوضوح والجدية، والخطورة، لو كان البناء السياسي، والاقتصادي، لسورية سليما معافى. ليس من باب المغالاة أبدا القول بأن الكيان السياسي السوري صار مهددا في وجوده. وإن البحث العلمي الجاد في الأسباب التي قادت سورية إلى هذه الوضعية، سوف يقود مباشرة إلى طبيعة النظام السياسي الاجتماعي القائم في سورية على الاستبداد، والشمولية، في رعاية سلطة أمنية قاهرة.
من الناحية العلمية تتحدد خيارات المجتمعات الحرة، كمحصلة لجميع القوى المجتمعية وتعبيراتها السياسية، والمدنية، والأهلية، وهذا يضمر في ذاته ضرورة التنوع في أشكال الوجود الاجتماعي، وفي تعبيراتها الفوقية، السياسية، والثقافية، والأيديولوجية وغيرها. وهو يفترض أيضاً إمكانية الاختلاف في وجهات النظر، وفي السلوك، تجاه طبيعة القضايا، والمخاطر التي تواجه البلد، وفي كيفية التصدي لها. بكلام أخر، إن خطاب الوحدة الوطنية، الأثير على قلب الحكام السوريين، هو خطاب ينبغي أن يتوجه بالضرورة نحو بنى وقوى مجتمعية مختلفة بحكم مصالحها، ولا بد من خلق الظروف المناسبة لها كي تعبر عن وجودها، وتدافع عن مصالحها، في إطار القانون، ورعاية المؤسسات.
غير أن واقع الوحدة الوطنية في سورية في الظروف الراهنة يتحدد سلباً، يتجلى ذلك من خلال السلبية المفرطة التي يبديها المواطنون، سواء تجاه المخاطر التي تواجه بلدهم، أو في حياتهم الاجتماعية، أو السياسية، أو في مجال العمل . تنتشر في سورية ظاهرة الفقر بوتائر متسارعة، والفقر الذي يعاني منه السوريون، هو فقر مركب: فقر مادي، وفقر روحي، فقر في أسباب العيش، وفقر في الحرية، وفقر في الحياة العامة، وفقر حتى في الكرامة الشخصية، والوطنية. نعم يشعر الكثير من السوريين بالغربة في وطنهم، وهم موحدون في ذلك، موحدون أيضاً في الخوف، موحدون أيضا تحت مظلة القمع الطاغي، والمعمم، الذي يتعرضون له منذ أكثر من أربعة عقود من السنين.
لقد نجح الاستبداد إلى حد كبير في القضاء على روح المواطنة، والوطنية، لدى جماهير الشعب، منذ أن قضى على روحهم السياسية، والمواطن لا يكون كذلك إلا بروحه السياسية. السوريون في ظل الاستبداد المستمر هم مجرد رعايا، يكرسون وقتهم للبحث عن أسباب وجودهم البيولوجية، ولا يجدونها إلا بشق الأنفس.
لقد نجح الاستبداد أيضا، في تهديم منظومة القيم الوطنية، من خلال سياسة الفساد والإفساد، التي انتهجها منذ عام 1970. يخطئ من يظن أن الفساد المنتشر في سورية هو مجرد ظاهرة، يمكن أن يوجد مثيل لها في أي بلد، حتى في بعض الدول المتقدمة، بل هو سياسة رسمية. إنه نهج، وأسلوب في الإدارة، له منظومته الخلقية، والمفاهيمية، وأدواته، وأساليبه.
السوريون في ظل الاستبداد، موحدون في السلبية واللامبالاة، موحدون في الغربة عن الوطن، موحدون في الخوف، وموحدون في الفقر المادي والروحي، وموحدون في الفساد، والإفساد. مع ذلك لم تنعدم إرادة النهوض لدى السوريين، رغم ضعفها وقلة حيلتها، وكان يمكن تجنب انفجار الأزمة في شهر آذار من عام2011، لو بادرت السلطة لإعلان نيتها بتغيير سياساتها، وانها سوف تشرع بإصلاحات جدية، وعميقة في بنية السلطة والنظام السياسي، وفي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلد بصورة عامة. على هذا الطريق، وكمؤشر على المصداقية والجدية، كان حري بها إصدار عفو شامل عن جميع سجناء الرأي، وإغلاق ملف السجن السياسي نهائيا وإلى الأبد، ورد المظالم إلى أهلها. هذا الاجراء كان مهما من ناحيتين: من جهة فهو يعيد الحقوق إلى أهلها، ومن جهة ثانية فهو يكسب السلطة بعضا من المصداقية في نظر الشعب.
وفي خطوة موازية تالية، كان لا بد من إلغاء جميع القوانين الاستثنائية المخالفة للدستور، أو تعديلها لتتوافق معه، ومنها إعلان حالة الطوارئ، والأحكام العرفية، وما بني عليها من إجراءات، وأحكام، ومحاكم.
وفي خطوة موازية ثالثة، كان لا بد من الشروع في تنظيم الحياة المدنية، والأهلية، والسياسية في البلد، وتنظيمها بقوانين عصرية للأحزاب، وللنقابات، وللجمعيات الأهلية، وغير الحكومية.
وفي خطوة موازية رابعة، كان لا بد من تحرير الإعلام، وتعديل قانون المطبوعات، والنظر في إلغاء وزارة الإعلام، والاستعاضة عنها بمجلس وطني للإعلام، وميثاق شرف إعلامي.
وفي خطوة خامسة موازية، كان ينبغي البدء بتحول تدريجي، سلمي، آمن، من نظام الدولة الأمنية الشمولية إلى النظام الديمقراطي، بدءا بتعديل الدستور، والشروع بتعميم الحياة الديمقراطية في النقابات، والأحزاب، والمنظمات الأهلية، وفي غيرها من أشكال الوجود الاجتماعي، بحيث يمكن الوصول في مدى زمني مرئي، من خمس إلى عشر سنوات، إلى إمكانية تبادل السلطة عبر صناديق الاقتراع.
وفي خطوة سادسة موازية، كان لا بد من الشروع بإصلاح الاقتصاد، وتحويله من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد ربحي، ويكون ذلك من خلال خلق بيئة ملائمة للاستثمار، وإصلاح القطاع العام في ضوء معايير السوق، واقتصاره على المجالات الاستراتيجية، أو على البنية التحتية، أو على تلك المجالات التي تطلب استثمارات كبيرة، ليس بمقدور القطاع الخاص تأمينها.
وفي خطوات أخرى موازية كثيرة، كان لا بد من الشروع في إصلاح الإدارة، والقضاء، والتعليم بمختلف مستوياته، وتحسين الواقع المعاشي للناس وغيرها.
بكلام آخر، كان لا بد من برنامج وطني شامل للإصلاح، تشارك في إعداده، وتنفيذه جميع القوى الوطنية والديمقراطية في البلد. بغير ذلك كان السير حثيثا نحو مزيد من التأزم، والانفجار واضحاً وملموساً، وهذا ما حصل للأسف.
بحسب القول المأثور >، فكيف إذا كان الزمن العالمي، وكذلك الزمن في منطقتنا، يتغيران بوتائر سريعة جداً. بمعنى آخر إن لم نسارع لملاقاة التغيرات العالمية، وحجز موقع لنا في العالم المعاصر، في ضوء مصالحنا الوطنية فسوف نرغم على ذلك، في ضوء مصالح الآخرين. غير أن الثمن عندئذ قد يكون باهظا، ندفعه من وجودنا، ومن دورنا، ومن مصالحنا الوطنية، وهذا ما دفعناه ولا نزال ندفعه منذ عام 2011.
وإذ رفضت القوى الوطنية الديمقراطية المعارضة السورية في الداخل، أي تدخل للقوى الخارجية في الشأن السوري، لإدراكها أن ما تطلبه أمريكا، والغرب عموما، من سورية، ليس أكثر من تحقيق مصالحا، وهي مصالح لا تتفق بالضرورة مع مصالح الشعب السوري، والكيان السياسي السوري. وبناء على ذلك، فقد امتنعت القوى الوطنية الديمقراطية الحقيقية في سورية، عن تشبيك مطالبها، وتحركاتها مع القوى الخارجية، قبل انفجار الأزمة الراهنة، وكثير منها لا يزال يرفض اليوم أي تشبيك معها. هذا لا يعني أبدأ أنها لا تريد الاستفادة من المتغيرات العالمية لجهة الحد من الطلب على الأنظمة الاستبدادية، لتسريع التحولات باتجاه الحرية والديمقراطية في سورية.
من جهته المجتمع السوري لم يعد يقبل بالصمت، خصوصا، وأنه يتعرض للتهديد في وجوده، ومصيره. لقد بدأ يفكر بصوت عال، ويحاول إنعاش حياته المدنية، من خلال مختلف أشكال التنظيم المدنية والأهلية. فأغلب الأحزاب في سورية بدأت تعمل بصورة علنية، وشرعت النخب الثقافية السورية تعبر عن آرائها بحرية أكبر، وتفتق الحراك الاجتماعي عن أشكال للعمل المدني لافتة، مثل لجان الحوار، أو لجان العمل الوطني الديمقراطي، أو لجان احياء المجتمع المدني، التي أخذت تنتشر في مختلف المحافظات السورية. وأكثر من ذلك أخذت المعارضة تبادر في طرح رؤاها، ومشاريعها للتغيير الوطني الديمقراطي، في هذا السياق جاء إعلان دمشق، وإعلان حمص، وأخيرا إعلان البلازا، وتجري حوارات مكثفة لتوحيد جهودها، ونشاطاتها، بما يساعد على إنجاز التغيير الوطني الديمقراطي المنشود على يد الشعب السوري، وفي ضوء مصالحه. بكلام آخر لو أتاح النظام لهذا الحراك الثقافي، والسياسي المجتمعي، أن يتطور ويتنظم، لكان كفيلا بالحؤول دون انفجار الأزمة الراهنة. لكن حرف " لو " في توجهه إلى الماضي لا يفتح أية خيارات، بل خيار واحد هو خيار انفجار الأزمة، وهذا ما حصل للأسف الشديد، في شهر آذار من عام 2011. إنه الاستبداد في عجزه عن مواجهة ضرورات التغيير، وتجاوز ذاته، فكان انفجار ازمته محتوماً.
هنا لا بد من طرح السؤال الآتي: هل كان النظام كتلة صماء؟ ألم يمكن من الممكن المناورة ، في خطاب سياسي مدروس، على تفكيكه خلال زمن قد يطول قليلا لكن بثمن أقل؟
من جهة أخرى، ثمة أسئلة عديدة تتعلق بوجود مخاطر حقيقة تتعلق بانهيار الدولة، بما يعني الارتداد إلى البنى الأهلية، وبالتالي تمزيق المجتمع إلى كيانات طائفية سوف يصعب توحيدها لاحقا على أسس وطنية؟ هذه أسئلة مشروعة جدا ما كان ينبغي أن تتجاهلها القوى الوطنية الديمقراطية، وقوى التغيير في الشارع، تحت أي ذريعة كانت، لأن في تجاهلها تعبير عن تجريبية مدمرة ، وقصور سياسي لا يخدم طموح الشعب السوري إلى إنشاء نظام ديمقراطي، يؤسس لبناء دولة مدنية ديمقراطية عادلة.
جوابا على السؤال الأول ما كان همسا في دوائر السلطة المغلقة، يتعلق بعدم استعدادها وقبولها للتضحية بكل المكاسب المادية، والاجتماعية التي جنتها بطرق مختلفة، اغلبها غير مشروعة من اجل الدفاع عن نظام هو في النهاية آيل للسقوط. أضف إلى ذلك ومن موقع الحرص على بقاء النظام، وتجنبا للتكاليف الباهظة للنهج الأمني العسكري ضد الحراك الشعبي، الذي أخذ يتصاعد ويأخذ أبعادا كبيرة، ضغط بعض ممن يمكن تسميتهم جوازا بعقلاء النظام(فاروق الشرع مثلاً)* من أجل إجراء اصلاحات حقيقية في المجال السياسي، وملاقاة الحراك الشعبي في بعض مطالبه، التي صارت السلطة تصفها بالمشروعة. وهذه الدوائر بدأت تدرك اليوم أهمية الإصلاح للمحافظة على بعض المكاسب المادية والأدبية التي جنتها، حتى لو خرجت من السلطة بعد حين، في إطار مشروع إصلاحي حقيقي تشارك فيه. في هذا الاطار جاء اعداد الدستور الجديد لعام 2012، الذي شكل خطوة مهمة على طريق الاصلاح، لجهة إلغاء المادة الثامنة من الدستور السابق، وتحديد مدة الترشح إلى موقع الرئاسة بدورتين، عداك عن النص على كثير من الحريات الشخصية والعامة. ومن ضمن الاجراءات الأخرى الاصلاحية التي اتخذها النظام إصدار قانون للأحزاب، وقانون ينظم الحق بالتظاهر، وقانون لتنظيم الاعلام، وغيرها كثير، لكنها للأسف بقيت دون تطبيق، رغم الكثير من جوانب القصور فيها.
11- قول في الدستور السوري الجديد( دستور 2012)(20)
لقد سار بشار الأسد على خطى والده الراحل حافظ الأسد الذي حكم سورية بـ "السوط والجزرة"، طيلة ثلاثين عاماً، في ظل دستور فصله على مقاسه، وها هو الابن اليوم يفصل دستورا جديدا على مقاسه أيضاً. لقد نجح الرئيس الأب في تمرير دستور لنظام استبدادي بامتياز، دون أن

يواجه أية اعتراضات تذكر في حينه، واليوم أيضا ينجح الرئيس الشاب بفرض دستور جديد مفصل على مقاسه، لكن بوجود معارضة كبيرة له.
وبحسب إفادة قدري جميل أحد أعضاء لجنة إعداد الدستور، التي شكلها بشار الأسد فقد كان " القصر " يتدخل لحسم خلافات أعضائها بشأن بعض المواد ، وخصوصا تلك المواد المتعلقة بفصل السلطات، وصلاحية الرئيس، وطريقة ترشحه وانتخابه، ومدة رئاسته وغيرها من مواد، وذلك بتوجيه اللجنة لإجراء تصويت عليها، فتفوز بالنتيجة إرادة الرئاسة، نظرا لأن أغلبية أعضاء اللجنة تأتمر بأوامرها. لكن السؤال هو كيف سوف يقنع الشعب المتمرد عليه، والمعارضة السياسية بدستوره الجديد؟!.
كما في الدستور القديم، فإن الرئيس بموجب الدستور الجديد، يتمتع بصلاحيات تنفيذية، وتشريعية واسعة، فلا يوجد مجال من مجالات الحياة السياسية، والاقتصادية، والأمنية، والاجتماعية، إلا وله الصلاحيات المطلقة للتدخل فيها، سواء عبر التشريع، أم عبر الأوامر والتعليمات الإدارية. فهو الذي يسمي رئيس الوزراء، والوزراء، ونوابهم، ويقبل استقالتهم، أو يقيلهم، (المادة97)،. وهو الذي يحيلهم إلى المحاكم أيضاً(المادة 124). وهو الذي يحدد السياسة العامة للدولة مع مجلس الوزراء الذي هو يعينه بطبيعة الحال(المادة 98). وله الحق أن يترأس اجتماعات مجلس الوزراء، وطلب تقارير من رئيس الوزراء، أو الوزراء(المادة 99). وله الحق بالاعتراض على القوانين التي يصدرها مجلس الشعب (المادة100). وهو الذي يصدر المراسيم، والقوانين، والأوامر، وفقاً للقوانين(المادة 101). وهو الذي يعلن الحرب، والتعبئة العامة، ويعقد الصلح، بعد موافقة مجلس الشعب ً( المادة102). وهو الذي يعلن حالة الطوارئ ويلغيها بحسب القانون(103). وهو القائد العام للجيش والقوات المسلحة، ويصدر جميع القرارات، والأوامر اللازمة، لممارسة هذه السلطة(المادة 105). وهو الذي يعين الموظفين المدنيين، والعسكريين، وينهي خدماتهم(المادة 106). ويخوله الدستور الجديد سلطة التشريع خارج دورات انعقاد مجلس الشعب، وأثناء انعقاده أيضاً (المادة 113)، وله أن يحل مجلس الشعب متى أراد (المادة 111). ومن حقه أن يتخذ الإجراءات السريعة التي تطلبها الظروف، لمواجهة أي خطر يهدد الوحدة الوطنية، أو سلامة واستقلال البلد، أو يعوق مؤسسات الدولة عن العمل( المادة 114) دون ذكر لهذه الإجراءات. وله أن يشكل اللجان، والهيئات، والمجالس الخاصة، ويحدد مهامها وصلاحياتها ( المادة 115).وهو رئيس مجلس القضاء الأعلى ( المادة133)، ويسمي أعضاء المحكمة الدستورية (المادة141) . وهو فوق كل ذلك غير مسؤول عن الأعمال التي يقوم بها، إلا في حالة الخيانة العظمى (المادة117). في الواقع لم يترك الدستور الجديد أية صلاحية أعطيت لأبيه الراحل حافظ الأسد في الدستور القديم (دستور 1973) إلا ومنحت له بموجب الدستور الجديد (دستور 2012).
من الواضح بموجب الدستور الجديد أن لا معنى لفصل السلطات، واستقلالها، ولا معنى للمساواة بين السوريين، بل لا معنى للحياة السياسية، طالما أن الحزب الذي يمكن أن يفوز بالانتخابات( وهو احتمال ضعيف جدا في ظل النظام الحالي)، لا يستطيع تشكيل الحكومة. ومع أن المادة الثامنة من الدستور نصت على أن النظام السياسي في الدولة يقوم على " التعددية السياسية، وتتم ممارسة السلطة ديمقراطيا عبر الاقتراع"، إلا أن الدستور لم ينص على أن الحزب الفائز هو الذي سوف يشكل الحكومة، بل الرئيس.
في خطابه الثالث بعد تمرد قطاعات واسعة نسبيا من الشعب عليه، وصارت تملأ الشوارع، تجاوز بشار الأسد ما كان قد تحدث عنه عندما قال : " إذا كان المطلوب تعديل بعض مواد الدستور فهذا يحتاج إلى مجلس الشعب، أما إذا كان المطلوب إعداد دستور جديد، فهذا يحتاج إلى جمعية تأسيسية"، الأمر الذي لم يحصل فتم الاكتفاء بتعيين لجنة لإعداد دستور " جديد " على المقاس المطلوب، متجاهلا وجود معارضة، ومتجاهلا وجود أزمة تعصف بالبلاد أصلا. والغريب في الدستور الجديد هو أنه اشترط على من يترشح لمنصب الرئيس أن يكون سوريا بالمولد، ومن أبوين سوريين بالمولد، وأن يكون مقيما في الجمهورية العربية السورية لمدة عشر سنوات متواصلة( المادة 84)، في حين اكتفى الدستور السابق بان يكون المرشح إلى الرئاسة "عربيا سوريا متمتعا بحقوقه المدنية والسياسية"( المادة 83). في الدستور الجديد وبحسب منطوق المادة 84 لا يشترط بالمرشح أن يكون عربياً حصرا ، كما كان الحال في الدستور السابق وهذا شيء إيجابي ، لكن الشروط التي وضعت تستثني من حق الترشح من لم يولد أبويه سوريان قبل نحو ستين عاما على الأقل هذا إذا كان عمر المرشح أربعين عاما، وهذا تمييز فج تجاه قسم من السوريين. ومن الواضح أيضا أن جميع السوريين المقيمين في الخارج لأسباب مختلفة سوف يفقدون الحق بالترشح إلى منصب الرئيس بدلالة عدم استمرارية الإقامة في البلد لمدة عشرة سنوات متواصلة.
وقد تجاهل الدستور حقوق الأقليات القومية، ولم يأتي على ذكرها، رغم أنه أشار في مقدمته إلى وجود مكونات للشعب السوري، وأشار في مادته التاسعة إلى وجود تنوع ثقافي في البلاد، لكنه تجاهل ذكر هذه المكونات، والتي هي مكونات قومية، وليست ثقافية فحسب، ولها بالتالي حقوق قومية، كان ينبغي الاعتراف بها دستورياً . لقد عان الأكراد السوريون كثيرا من تجاهل حقوقهم، رغم أنهم شركاء حقيقيون في الوطن، ولهم دورهم في تطوره، وهم اليوم مساهمون مع بقية السوريين في التمرد على النظام الاستبدادي القائم.
حافظ الدستور الجديد في نص المادة الثالثة منه على أن " دين رئيس الدولة هو الإسلام "، وهذا يتناقض مع مبدأ الحقوق المتساوية للمواطنين، وتحابي معتنقي الديانة الإسلامية على حساب معتنقي الديانات الأخرى. وأكثر من ذلك فهي تشكل إهانة لجزء مهم من الشعب السوري، أعني المسيحين السوريين، ومن في حكمهم ولكثير من السوريين المسلمين.
ثمة الكثير من مواد الدستور الجديد غير مقبولة، وثمة الكثير غيرها يحتاج إلى قوانين تطبيقية، وبحسب خبرة الشعب السوري مع هذا النظام ، فهو لن يصدر هذه القوانين كما فعل والده، حتى لا تفقد تلك المواد الدستورية مصداقيتها، خصوصا تلك المتعلقة بالحريات العامة والخاصة. أضف إلى ذلك فقد أعطى النظام لنفسه مهلة ثلاث سنوات لتكييف القوانين المخالفة للدستور الحالي( المادة 154)، بما فيها القوانين التي أصدرها في سياق الأزمة، وما أكثرها، ومن خبرة السوريين مع والده فهو لن يلغيها، ولا يجعلها متوافقة مع الدستور، وسوف تظل تحمل اسم " القوانين الاستثنائية "، وهذا ما حصل بالفعل.
باختصار، فإن الدستور الجديد ليس دستورا عصريا، بل مفصلا على مقاس بشار الأسد. مع أن النظام نجح بتمريره رسميا عبر الاستفتاء العام عليه، في السادس والعشرين من شهر شباط لعام 2012 ، بالطريقة ذاتها التي اعتاد أن يمرر بها جميع الانتخابات، والاستفتاءات، فإن أغلبية السوريين من عرب، وأكراد، وقوميات أخرى، إضافة لمعتنقي جميع الأديان غير الإسلام، إضافة إلى اللادينيين لم يشاركوا بالاستفتاء على هذا الدستور في اليوم المحدد، بحسب مصادر من داخل أجهزة النظام المعنية بالاستفتاء.
12- قراءة في قانون الأحزاب في سورية(21)
أقر مجلس الوزراء السوري مشروع قانون لتشكيل الأحزاب السياسية في سورية، وهذا بحد ذاته علامة على بدء تغير سورية، بفضل الانتفاضة الباسلة للشعب السوري. لقد حرمت سورية على مدى نحو ستة عقود من الحياة السياسية الطبيعية، هيمنت خلالها على السلطة طغمة أمنية مالية قل نظيرها، متسترة تحت عباءة حزب البعث، وجبهته الوطنية التقدمية. أن تقر السلطة بضرورة إصدار قانون للأحزاب ينظم الحياة السياسية في البلد هو بحد ذاته خطوة في الاتجاه الصحيح، إنها علامة على بدء تفكك النظام الأمني الحاكم، لكنها تبقى، مع ذلك، خطوة ناقصة لأنها جاءت من قبل السلطة ذاتها، ولم تشرك فيها قوى التغيير المستجدة في سورية، ولا المعارضة الوطنية الديمقراطية.
يقع مشروع القانون في نحو ثمان وثلاثين مادة، ينص في مادته الثانية على حق مواطني الجمهوري العربية السورية بتأليف الأحزاب السياسية، والانتساب إليها، وذلك بهدف تنظيم وتمثيل السوريين سياسيا، وتنمية الوعي السياسي، وتكوين قيادات قادرة على تحمل المسؤولية العامة(المادة الثالثة). وتبقى غاية أي حزب هي الوصول إلى السلطة وفقا لقانون الانتخابات العامة(المادة الرابعة).
في "المادة الخامسة" يحدد القانون شروط، ومبادئ تشكيل الأحزاب السياسية، ولذلك فإن هذه المادة تتميز بأهمية خاصة. في الفقرة ألف منها ينص القانون على ضرورة الالتزام بأحكام الدستور، ومبادئ الديمقراطية، وسيادة القانون، واحترام الحريات، والحقوق الأساسية، والإعلانات
العالمية لحقوق الإنسان، والاتفاقيات المصادق عليها من الجمهورية العربية السورية. ومن المفهوم أن الدستور المطلوب احترام أحكامه ليس الدستور الذي كان ساري المفعول عند صدور قانون الأحزاب( دستور 1973)، الذي عده قانون الأحزاب لاغيا وفق أحكام المادة (36) منه. من هذا المنطلق كان من الضروري أولا إعداد دستور جديد يشكل مرجعية لقانون الأحزاب، وغيره من القوانين الناظمة للحياة السياسية العامة. ثم أن يلزم القانون مسبقا ضرورة احترام الاتفاقيات المصادق عليها من قبل الجمهورية العربية السورية في ظل النظام الاستبدادي، دون الحق بمراجعتها فيه نوع من الإجحاف.
من جهتها الفقرة (د) من هذه المادة والتي تنص على عدم جواز " قيام الحزب على أساس ديني، أو قبلي، أو مناطقي، أو فئوي، أو مهني، أو على أساس التمييز بسبب العرق، أو الجنس، أو اللون" ،تثير بعض الإشكالات، تتعلق أساسا بتشكيل أحزاب قومية عربية، أو كردية، أو غيرها. فالتمييز العرقي المشار إليه في هذه المادة يحتاج إلى توضيح، بحيث لا يفسر في غير صالح تشكيل أحزاب قومية.
من جهة أخرى فإن هذه المادة تتعارض مع وجود حزب البعث ذاته لكونه حزبا عربياً، وتتعارض معه وفق منطوق الفقرة (و) والتي تنص على " ألا تنطوي وسائل الحزب على إقامة تشكيلات عسكرية، أو شبه عسكرية، علنية، أو سرية، أو استخدام العنف بأشكاله كافة، أو التهديد به، أو التحريض عليه". كما ان حزب البعث هو الحزب الوحيد المسموح له العمل في الجيش، والقوات الأمنية المختلفة، وهو الحزب الوحيد الذي يستخدم قوات شبه عسكرية( الشبيحة، أو الكتائب العمالية، أو البعثية المسلحة). ويتناقض وجود الحزب مع الفقرة(ز) من هذه المادة والتي تنص على أن " لا يكون الحزب فرعا، أو تابعا لحزب، أو تنظيم سياسي غير سوري"، لأنه حزب قومي، وله فروع في أكثر من بلد عربي.
"المادة السادسة" من القانون التي تنص على انه لا " يكتسب أي تنظيم صفة الحزب، ولا يحق له ممارسة أي نشاط سياسي، ما لم يتم استكمال شروط تأسيسه، وإجراءاته"، تثير إشكالات كثيرة تتعلق أساسا بوضعية الأحزاب تحت – التأسيس. من المعلوم أن الحزب السياسي يبدأ بفكرة لدى شخص، أو عدد من الأشخاص، ومن ثم يتم الترويج لها من خلال العمل الدعاوي والسياسي. هذه المرحلة من حياة كل حزب قد تستمر سنوات قبل أن يصل الحزب إلى الوضعية التي يسمح القانون بترخيصه. لذلك، من الأهمية بمكان، وضع نص في القانون يشرعن الأحزاب تحت التأسيس، والتي يمكن أن تبدأ عملها بتقديم علم وخبر إلى لجنة الأحزاب، وتعطى مهلة سنتين على الأقل لاستكمال شروط الترخيص.
فيما يتعلق بلجنة الأحزاب( المادة 7) ينبغي أن يشكلها مجلس القضاء الأعلى، أو مجلس الشعب، ويكون أعضاؤها غير حزبيين. من جهتها المادة(9) الفقرة (د) سوف تثير مشكلات عديدة، خصوصا، وان الكثيرين من الذين عملوا في السياسة في المراحل السابقة في سورية قد تم اعتقالهم، ومحاكمتهم، وصدرت بحقهم أحكاما جائرة. إن الالتزام بمنطوق هذه الفقرة سوف يعني حرمان كثير من السوريين من حق تشكيل الأحزاب. لذلك لابد أولا؛ من إلغاء مفاعيل جميع الأحكام التي صدرت بحق النشطاء السياسيين السوريين خلال العقود الماضية، وتسوية أوضاعهم، وهذا بحد ذاته من المطالب الرئيسة للمعارضة الوطنية الديمقراطية، وللحراك الشعبي.
بدورها الفقرة (ب) من المادة(11) سوف تحتاج إلى تدقيق لجهة تحديد المقصود بـ " النسيج الوطني السوري" حتى لا تفسر بأنها تعيق تشكيل أحزاب على أساس قومي، وتحديدا أحزاب كردية، ومن في حكمها. ثم لماذا تمنع الأحزاب من استثمار أموالها إلا في مجال النشر والطباعة (الفقرة ج من المادة 14)، مع انه من المفيد فتح جميع المجالات الاقتصادية، وغير الاقتصادية، أمام الأحزاب للاستثمار، وعلى أن تحمي القوانين ذلك، شريطة أن لا يستخدم الحزب هذه الاستثمارات لتحقيق مكاسب سياسية مباشرة، وان لا يكون موجها لخدمة أعضاء الحزب فقط. ينطبق الأمر ذاته على المادة(27) المتعلقة بالنشاط الإعلامي للحزب، ينبغي عدم الحد منه، وتقييده بصحيفة واحدة، بل فتحه ليشمل جميع وسائل الإعلام المكتوبة، والمرئية، والمسموعة.
قد تكون المادة (37) من القانون المشار إليه والتي تنص على إلغاء " جميع الأحكام المخالفة لهذا القانون"، من أكثر المواد إثارة للجدل نظرا للالتباس المتعمد فيها. السؤال هو: ما هي هذه الأحكام المخالفة لهذا القانون التي ينبغي إلغاؤها؟ فإذا فسرت كلمة "الأحكام" بالمعنى الواسع للكلمة، فهذا يعني ببساطة سقوط جميع القوانين والتشريعات الناظمة للحياة العامة، وفي مقدمتها الدستور الحالي(دستور 1973)، خلال العقود الماضية التي كانت تقوم على شرعنة الاستبداد، وتجريم العمل السياسي المعارض. وتعني أيضاً إلغاء جميع الأحكام القضائية التي
صدرت عن المحاكم الاستثنائية، وغير الاستثنائية بحق المعارضين السوريين.
خلاصة الأمر إن وجود قانون ينظم الحياة السياسية هو أفضل من عدمه، وإن القانون الحالي يعد بمجمله قانونا جيدا يحتاج إلى بعض التعديلات ليلائم الواقع السوري، ولكي يكون قانونا عصريا، وهو في كثير من مواده يتعارض مع وجود حزب البعث ذاته، لذلك فهو المعني قبل غيره بتعديل وضعه لينسجم مع نصوص القانون الجديد. ورغم صدور هذا القانون، وترخيص عدد من الأحزاب على أساسه، خصوصا أحزاب جبهة النظام التي عدها القانون مرخصة حكما بموجبه، فقد بقي أداة من ادواته لضبط الحياة السياسية. وفي كل لحظة يخرج بها الحزب المرخص عن هوامش الحرية التي حددها له النظام، من قبيل أن يتخذ موقفا معارضا جدياً، ولو جزئيا، يقوم النظام بحله، وقد حصل ذلك مع عدد من الأحزاب التي شاركت في مؤتمر الانقاذ الذي انعقد في دمشق في أيلول من عام 2012.
13- قراءة في قانون الانتخابات العامة والمحلية في سورية(22)
تسعى السلطة السورية للتكيف مع مطالب الشعب السوري المنتفض، المطالب بالتغيير نحو نظام سياسي ديمقراطي تعددي تنبثق السلطة فيه من صناديق الاقتراع، لذلك فقد عكفت على إعداد مجموعة من مشاريع القوانين الناظمة للحياة العامة والسياسية، وهي في طريق إصدارها تباعاً. في هذا السياق جاءت موافقة مجلس الوزراء على مشروع قانون الانتخابات العامة، والمحلية في جلسته التي عقدها بتاريخ 27/7/2011. يقع القانون المشار إليه في ثمان وستين مادة موزعة على عدد من الفصول، ينظم كلا منها جانباً من جوانب العملية الانتخابية. من حيث المبدأ يعد القانون كنص جيدا بالمقارنة مع القانون السابق، الذي كان معمولا به منذ عام 1974، فهو يؤمن ضمانات جيدة لتأمين نزاهة الانتخابات في حال طبقت فعليا، خصوصا، لجهة إشراف القضاء عليها، ومن خلال تمكين الأحزاب، أو المرشحين أنفسهم بالرقابة عليها، وكذلك رجال الصحافة والاعلام. مع ذلك فإن القانون يتضمن ثغرات كثيرة، ناجمة بالأساس عن عدم استشارة المعارضة وقوى التغيير المستجدة بشأنه، وعدم أخذ رأيها أساسا به، حاله حال قانون الأحزاب الذي أقره مجلس الوزراء بجلسته بتاريخ 24/7/2011. هذا يعني ببساطة أن ما تصدره السلطة من قوانين تنظم عملية التغيير فيها تعكس وجهة نظر السلطة فقط، وتبدوا واضحة رؤية حزب البعث فيها، إذ تكرس إعادة إنتاج سلطته، أو تعطيه مزايا لا تتوفر لغيره.
فعلى سبيل المثال عندما يخصص القانون ما نسبته خمسين بالمائة كحصة للعمال والفلاحين(المادة 19) فهذه ميزة لحزب البعث يستفيد منها لانتخاب أناس لا علاقة لهم بالفلاحين أو بالعمال، عداك عن أنها من بقايا أيديولوجية شعوبية اندثرت. وينطبق الأمر ذاته على الانتخابات المحلية، حيث أضيف إلى العمال والفلاحين الحرفيون لترتفع نسبة تمثيلهم إلى ستين بالمائة.
في الندوة الوطنية(مجلس الشعب أو البرلمان) وهي المعنية بالتشريع وإصدار القوانين ،سورية بحاجة إلى عقول تفكر، وحساسيات وطنية مرهفة، تعبر عن مصالح البلد ككل، وعن مصالح الناس، كماهي بحاجة إلى رجال قانون، وتشريع، لصوغها في قوانين، وتشريعات مختلفة، لا إلى تكملة عدد. ينبغي أن يشكل البرلمان ملتقى الأحزاب والقوى السياسية، التي يفترض بها أن تعبر عن مصالح العمال والفلاحين، وغيرهم من فئات الشعب، لا منبرا للتصفيق للكلام المنمق. إن العمال والفلاحين وغيرهم من فئات الشعب، يمكنهم أن يدافعوا أكثر عن مصالحهم من خلال نقاباتهم الحرة، بل من واجبهم أن يشكلوا قوى ضغط على جميع السلطات، وعلى الأحزاب السياسية، في سبيل تحقيق مصالحهم الخاصة. من هذا المنطلق فإن تعريف العامل والفلاح والحرفي في المادة الأولى من القانون ليس ضروريا، كما إن تحديد من يحق له الانتخاب بأنه كل " مواطن عربي سوري "(المادة4) سوف يثير مشكلات مع المواطنين السوريين من غير العرب. وتتكرر في المادة الخامسة، الفقرة الثالثة، من القانون ذات المشكلة المتضمنة في قانون الأحزاب، والمتعلقة بحرمان كثير من السياسيين الذين صدرت بحقهم أحكام من المحاكم الاستثنائية خلال مرحلة إعلان حالة الطوارئ، من حق الانتخاب.
في الفصل الثالث، المادة /17/، التي تحدد المحافظة كدائرة انتخابية تحتاج إلى دراسة معمقة وتفكير هادئ ورصين. من المعلوم أن من وظائف القانون الانتخابي ليس فقط تامين نزاهة الانتخابات، بل والمساهمة في صهر البنية المجتمعية على قاعدة المواطنة. من هذا المنطلق فإن إجراء الانتخابات على أساس القوائم الحزبية، والنسبية، واعتبار سورية ككل دائرة انتخابية واحدة هو الأفضل لظروف سورية. بهذه الطريقة لن يسمح للبنى الأهلية المختلفة بالتعبير عن نفسها، وبالتالي تجاوزها مع مرور الوقت. إضافة إلى انه يرغم الأحزاب على تقديم أفضل ما لديها من برامج ورؤى وأشخاص.
في المادة/23/ من القانون أعطيت ميزة للوزراء للترشح وهم في مناصبهم، مع انه من الأفضل أسوة ببقية الذين يشغلون مناصب عامة رفيعة، أن يستقيلوا قبل الانتخابات، وان لا يسمح لهم بالترشح بالدائرة التي ينتمون إليها. كثير من الوزراء يغلب عليهم الطابع التكنوقراطي، وقد يفتقرون إلى الشعبية الانتخابية، ولذلك فإن اعتماد النسبية، والقوائم الحزبية، يمكن أن يساهم بحل هذه المشكلة وغيرها من المشكلات المشابهة. أضف إلى ذلك تجاهل القانون وضعية المحافظ، إذ أبقا تعيينه من صلاحية السلطة التنفيذية، وتحديداً سلطة الرئاسة، مع أنه كان يستحسن أن يكون منتخبا كغيره من السلطات القيادية المحلية الأخرى.
كما في حال قانون الأحزاب فإن القانون الانتخابي يتعارض مع وضعية حزب البعث في كثير من بنوده، وعليه بالتالي تسوية حالته في ضوء أحكام القانون الجديد. إضافة إلى ذلك ينبغي أن يخرج من جميع مؤسسات الدولة إلى الحياة المدنية، وينبغي تحرير النقابات والمنظمات الأهلية من سيطرته، لأن وجوده فيها يشكل ميزة انتخابية بالنسبة له، تحابيه على حساب بقية الأحزاب. أضف إلى ذلك فإن القانون في مادته السابعة والستين يطالب بإلغاء جميع النصوص المخالفة لأحكامه، هذا يعني إلغاء الدستور الحالي(دستور 1973) وكذلك جميع القوانين الاستثنائية التي صدرت في ظل إعلان حالة الطوارئ. قد يكون من المفيد، وهذا ينطبق أيضاً على قانون الأحزاب، فصل جميع الأحزاب، والنقابات، والمنظمات الأهلية، عن الدولة ومؤسساتها، واعتبارها بمثابة المنحلة، وإعطاء مهلة كافية لإعادة تأسيسها من جديد، بدون مزايا مسبقة. وإذا كان إقرار القانون الانتخابي الجديد يشكل خطوة في الاتجاه الصحيح، فإن هذه الخطوة تبقى ناقصة لأنها لم تأتي نتيجة حوار شامل، خصوصا مع قوى التغيير المستجدة، والمعارضة الوطنية الديمقراطية.
اللافت أن النظام أصدر قوانين الأحزاب، والانتخابات وغيرها من قوانين قبل أن يعد الدستور الجديد، الذي من المفروض ان يكون هو المرجعية الأساس في اصدار كل القوانين التنفيذية له. ومع ذلك بغض النظر عن كون الدستور ذاته والقوانين الأخرى المكملة له، كاملة او ناقصة، تبقى العبرة في تنفيذها وكعادته لم يتقيد بها، ووضعها عمليا على الرف. فجميع الانتخابات التي جرت في سورية كانت مزورة، وبحسب العديد من المصادر المعنية بها من داخل النظام، لم تتخطى نسبة المشاركة فيها العشرة بالمئة ممن يحق لهم الانتخاب، لأن الجميع كان يعلم ان النتيجة معروفة سلفا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*-يبدو ان اغتيال خلية الأزمة جاء في هذا السياق. تم تشكيلها في بداية انتفاضة السوريين في عام 2011 وضمت في عضويتها، وزير الدفاع في حينه العماد داوود راجحة، ونائبه العماد آصف شوكت، ورئيس مكتب الأمن القومي اللواء هشام بختيار، والعماد حسن تركماني، معاون نائب رئيس الجمهورية، واللواء محمد الشعار وزير الداخلية. http://www.bbc.com وكذلك http://www.arabic21.com
20-دستور الجمهورية العربية السورية الصادر عام 2012، http://www.costituteproject.org تاريخ الدخول 28/10/2018.
21-قانون الأحزاب في سورية، المرسوم التشريعي 100(4/8/2011)،www.discover-syria.com تاريخ الدخول 28/10/2018.
22-قانون الانتخابات العامة والمحلية في سورية،www.syriamoi.gov.sy تاريخ الدخول 28/10/2018