مُؤامرات تونسية .


فريد العليبي
الحوار المتمدن - العدد: 6350 - 2019 / 9 / 13 - 15:25
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



قيل الكثير عن نظرية المؤامرة واخفاقها في تفسير التاريخ والسياسة والحرب الخ.. ولكن المؤامرات لا يخلو منها بلد وطبقة وشعب وأمة ، فهى أحداث وظواهر تستحق الالتفات اليها لفهم ما جرى ويجري ، حتى أن بعضهم يذهب الى القول أن نفى المؤامرة هو في حد ذاته مؤامرة .
ما يحصُل الآن في تونس وهي تستعد لانتخاباتها يمكن قراءته على ضوء ذلك ، حيث ملامح مشهد تتحكم فيه قوى خفية غالبا ، فالصراعات والتحالفات والأحداث المتسارعة تُخفي أكثر مما تُظهر .
والدليل الأول على ذلك هو ما راج حول الخميس الأسود ، فقد تم على مدى أسابيع انكار حصوله ، وبدا الحُكام متحابين متكاتفين يوم مواراة السبسي الثرى ، بل إن أحد المُتهمين بالتآمر عليه حيا ، سار وراء موكبه ميتا ، مشيا على الأقدام لمسافة طويلة ، تنفيذا لوعد قال إنه قطعه على نفسه أمامه . وأخيرا تكلم عبد الكريم الزبيدى وزير دفاع الرئيس الراحل ، وهو في قلب الحمى الانتخابية ليؤكد فرضية الانقلاب ، و يُلمح الى تلاعب الإسلام السياسي برئيس الحكومة ، وأنه كان قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على قصر قرطاج لولا فطنة المؤسسة العسكرية .
والدليل الثاني حكاية نبيل القروي ، التي بدت في ظاهرها مسألة قانونية صرفة ، فالرجل مُتهم بالتهرب الضريبي وكان لا بد من مثوله أمام القضاء وتنفيذ بطاقة إيداع في شأنه ، ومع مرور الوقت تبين أن قوى سمحت له بالوصول الى قلوب المطحونين والمسحوقين بالاستثمار في الفقر والمظلومية ، فأضحوا خزانه الانتخابي ، الذي سيغرف منه ما يحتاجه من أصوات ، و هي نفسها التي أغمضت عينها على توظيفه لامبراطوريتة الاعلامية الخيرية دون ملاحقة قضائية ، ثم دفعت غريمه الى رميه في السجن فجأة ، مما مكنه من تعزير موقعه ضمن نوايا التصويت ، وها هي الهيئة العليا للانتخابات تكتب خاتمة الحكاية بتمكينه من مخاطبة الناخبين من سجنه ، وسط اعتراض وزارة العدل .
وبدا كما لو أن خطة ما قد رُسمت لتسهيل صعوده الى السلطة بتقديم هدايا متلاحقة اليه ، وعزز هذا الاستنتاج الضغوط الأمريكية والأوربية المُعلنة ، التي عبر عنها البيان الصادر عن بعثة الاتحاد الأوربي لمراقبة الانتخابات في تونس ، المُطالب بتكافؤ الفرص بين المترشحين لرئاسة الدولة ، مع ذكر نبيل القروي بالاسم ، كما تجلت في تشكيك مركز كارتر الأمريكي في أسباب اعتقاله قبل وقت وجيز من بداية الحملة الانتخابية ، وتأكيده أنها لا تتعلق بعدم امتثاله للقوانين وإنما بمسائل أخرى ، في تلميح الى السياسة .
ولو دفعنا هذا التفسير خطوة الى الأمام لأمكن القول أن الإسلام السياسي الذي استثمر مبكرا في الفقر والمظلومية والدين ، قد وجد في الأخير من ينافسه في أرضه ، مُستعملا نفس أساليبه حتى أن قناة القروي السجين صرفت من مالها الكثير لاستجلاب ما قالت أنه شعرة الرسول ، واقامت لها الافراح ، بعد اتهامها قبل ذلك بالاعتداء على عقيدة التونسيين ، ببثها للشريط الإيراني برسيبوليس ، أما جمعيته الخيرية فقد نسجت على منوال الجمعيات الإسلامية وربما تجاوزتها في عطاياها .
و لا يمكن أن يكون هذا الذي ذكرناه إلا خاضعا لخطة مدروسة تتجاوز القروي وحلفائه والإسلام السياسي وتابعيه ، الى استراتيجيين دوليين ماكرين يعرفون من أين تؤكل الكتف التونسية فهندسة المشهد الانتخابي على هذا النحو وضمان مخرجاته تعني بقاء دار لقمان على حالها بما تعج به من أزمات وما تهب عليها من عواصف . ومن ثمة استعمال تونس بثرواتها وموقعها الاستراتيجي بما يتفق ومصالحهم، في ظل وضع عربي واقليمي وعالمي يُعاد فيه رسم الخرائط الجيواستراتيجية ، وأن هؤلاء الاستراتيجيين ينظرون الى الانتخابات التونسية باعتبارها وسيلة ناعمة تصلح لتحقيق ما يبتغون . ومن الخطأ النظر الى تلك الخطة في انفصال عن جذورها التي تعود من حيث التنفيذ الى بداية سنة 2011 عندما استعمل الإسلام السياسي لاغتيال الانتفاضة التونسية مبكرا بإغراقها في صراعات الهوية ودفن مطالبها الاجتماعية ثم ما كان من سياسة التوافق التي يُراد المحافظة عليها الآن بإخراجها في ثوب جديد بعد تآكل ثوبها القديم .
ومن المشكوك فيه نجاح تلك الخطة فأول من سوف يُطيح بها ويضع العوائق في طريقها هو الواقع نفسه ، فعندما يزداد البؤس الاجتماعي بمظاهره المختلفة فإن الحيل السياسية تعجز عن مواجهة ضحاياه ، والتونسيون لا يمكن بعد الآن اطعامهم الوعود الانتخابية ، فقد جربوا ذلك وأصبحوا يسخرون منه ، وهم يريدون أكثر من أي وقت مضى الشغل والصحة والتنمية ...