في نقد العقل الأيديولوجي

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 6307 - 2019 / 8 / 1 - 23:26
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

سعدت بمساهمات كل الاخوة الماركسيين الذين علقوا على مقالي الأخير على موقع الحوار "أكبر مشكلة تواجه الاقتصاد العالمي" حيث اتسمت تعليقاتهم باللياقة والعلمية ولكنني انزعجت من مساهمة بعيدة تماما عن منهجية علم الاقتصاد والواقع والمنطق السليم. ولأنني تعلمت وأنا باحث صغير من أحد استاذتي الألمان بوجوب ألا نلتزم الصمت عندما نرى معلومات مغلوطة يتم نشرها على أنها حقيقة، لأن الأمانة العلمية تقتضي الرد والتصويب وإشراك الآخر عسى أن يعدل عن رأيه أو يوضح ما قصد فربما يكون هناك سوء فهم من جانبي. وقبل أن أذكر أمثلة على بعض ما ورد من هذا المعلق أود أن أؤكد على بعض الأساسيات البسيطة التي يعرفها كل الباحثين والأكاديميين وقراء هذا الموقع الرائد وهي:
- أن هدف أي بحث هو استنباط الحقيقة من المعلومات المتوفرة من مصادر موثوق فيها. ولا يكفي وجود معلومات موثقة بل لابد من فهمها وامتلاك أدوات تحليلها.
- أن للحقيقة في العلوم الإنسانية جوانب عدة بعضها مطلق وبعضها نسبي، وقد تأخذ الطابع الشخصي بدلا من أن تكون موضوعية لأننا بشر ونميل الي الإيمان بما نحبه ويوافق هوانا وخلفيتنا الاجتماعية والثقافية، وكثيرا يكون هذا على حساب الحقيقة لأن كل أشكال الإيمان والاعتقاد والأيديولوجيات مشحونة بالعواطف ولا تزيد نسبة الحقيقة فيها عن50%.
- ولكل الاعتبارات الإنسانية والعاطفية السابقة فإننا نشجع طلبة الدراسات العليا على الاعتماد في أبحاثهم على الإحصاءات والبيانات المنسوبة لنشرات ومجلات ودوريات علمية، مع إبداء الآراء الشخصية بشكل واضح ودون محاولة إلباسها ثوب الحقيقة عنوة.
- ليس من العار أو العيب أن يغير الانسان رأيه أو قناعاته في سعيه من أجل الحقيقة لإن التغيير هو وحده الحقيقة المطلقة في هذا الكون وهو سنة الحياة على هذه الأرض.
-وأخيرا فإن الفارق الجوهري والكبير بين منهجية البحث العلمي والمنهج الأيديولوجي والعقائدي هو أننا في المنهج العلمي نبحث عن النواقص والعيوب في النظريات القائمة بهدف إفشالها والإتيان بنظريات أفضل على النقيض من المنهج الأيديولوجي والعقائدي المتطرف الذي يدعي العصمة والقداسة واحتكار الحقيقة وأنه فوق النقد ولا مجال للخطأ في استنتاجاته.
أضف إلى هذا أن الخلاف والجدل في المنهجية العلمية لا يعالج بتبادل الشتائم والاهانات وإنما بالحجج العلمية والمنطق والشواهد من الواقع المعاش، أما في المنهجية الأيديولوجية المتطرفة فإنه من السهل جدا الانزلاق إلى أساليب الإرهاب الفكري وشخصنة الخلاف والاهانات والاقتتال والسعي لاغتيال الآخر سواء معنويا أو ماديا. وهذا بالمناسبة هو سبب اندلاع كل الحروب الأهلية في عالمنا العربي المنكوب الذي تدمره عقول أعمتها أيديولوجيات رجعية ومتخلفة.
لهذه الفوارق الهيكلية بين المنهجين تتقدم العلوم كل يوم بينما لا تبارح الأيديولوجيات المتصلبة والمتشنجة وغير العقلانية مكانها مفضلة الموت على التغيير.

وعودة إلى مقالي المشار إليه والذي كنت أعالج فيه مشكلة اقتصادية بحتة إلا أن المعلق المحترم شاء كما هي عادته إقحام موضوعات لا صلة لها بالمقال، وكانت هذه العقلية المؤدلجة التي تحدثت عنها هي السمة الواضحة في تعليقاته وهي تعليقات تصلح كحالة عملية لبيان آلية عمل العقل الأيديولوجي المتطرف من حيث انفصاله عن الواقع والمبالغة المجافية للمنطق وعنفه وميله للعدوانية ونظرته الفوقية للآخر وتسفيهه، وإن استدعى الأمر اهانته وتحقيره وكأننا في خناقة وليس في حوار علمي. واليكم بعضا من تعليقاته وقد وضعت خطا أسفلها وتعقيبي عليها بدون خطوط:

أن الإقتصاد الأميركي هو أضعف اقتصاد في العالم حيث تضطر أميركا لأن تستدين كل عام ترليون دولار وهي لا تستطيع سداد أي من ديونها.
ليس مسموحاً أن تطبع الولايات المتحدة المزيد من الدولارات
التصنيف الحقيقي الرأسمالي للإنتاج الأميركي هو ..
3 ترليون دولار بضاعة
1 ترليون دولار أسلحة
وتنفق 15 ترليون دولار على إنتاج الخدمات التي لا تستبدل بدولار واحد
ذلك يعني أن ديون أميركا تساوي 800% من مجمل إنتاجها القومي حيث الأسلحة ليست بضاعة وتتم مبادلتها لمعادلات سياسية وليس لتلبية حاجة إنسانية
قريباً وقريباً جداً سينهار الدولار وستفرى العيون الزلقة إذاك"

وكان ردي بتصرف بسيط من أجل الملائمة:

"إذا كان الاقتصاد الأمريكي هو الأضعف في العالم فكيف يكون الدولار هو عملة الاحتياطي العالمي وعملة التسويات الدولية؟ إننا جميعا ضد أمريكا السياسية خاصة سياسة إدارة ترامب الحالية في الشرق الأوسط تجاه القضية الفلسطينية والتي تتسم بالعنصرية والعنجهية والانحياز الأعمى لإسرائيل. كما أن أمريكا تستفيد بشكل واضح من سلطتها في إدارة الدولار وبدأت في إساءة استخدام هذه الصلاحية في ظل افتقاد المجتمع الدولي للإرادة السياسية لمواجهة هذا التعنت الامريكي كما أوضحت في مقال سابق لي عن نظام التحويلات المالية الدولية. وبالرغم من كل هذا نرى أنه لا ينبغي أن تعمينا كراهيتنا لهذه السياسات الامريكية عن رؤية الحقائق الاقتصادية.
فأمريكا هي السلطة الوحيدة في العالم التي تستطيع طباعة الدولار ومن ثم فإن القول بانه غير مسموح لها أن تطبع الدولار كما يدعي المعلق كلام غير علمي ولا يعكس فهما لمبادئ علم النقود والبنوك لأن التوقف عن طباعة الدولار سوف يؤدي حتما الى شلل الاقتصاد العالمي. كل البنوك المركزية في العالم لابد أن تطبع عملتها المحلية بشكل مستمر على الأقل من أجل الاحلال والتبديل هذا غير الاحتياجات التمويلية الأخرى ومتطلبات النمو الاقتصادي.
إذا كان كلام المعلق صحيحا بأنه لا توجد أي قيمة تبادلية لقطاع الخدمات فإن التعليم والخدمات الصحية والنقل والإنترنت ومراكز الأبحاث العلمية......الخ لا قيمة لها! وتماشيا مع رأيه يكون من الأفضل إغلاق الجامعات والمدارس والمستشفيات والمطارات والموانئ وتسريح الشرطة والجيوش.....الخ وأن نركز على إنتاج الرز والسكر والزيت والمكرونة والاحذية.....الخ.
وأود هنا أن ألفت انتباه المعلق إلى حقيقة هامة وهي أن ماركس الذي يستشهد به دائما لم يكن عاملا ولكنه كان مفكرا ثوريا بالأساس ولم يقم في حياته بإنتاج أي بضاعة وإنما قدم للعالم خدمات معرفية لا تقدر بثمن وبحسب نظرية المعلق العجيبة تكون خدمات ماركس للبشرية بلا قيمة!
أضف الى هذا أن التوسع في انتاج البضاعة كما يطالب دائما ليس مطلبا جيدا بالمرة لأنه يسبب أضرارا بالغة بالبيئة.
يا أخي العزيز لا يوجد نظام اقتصادي حديث يقوم على إنتاج البضائع فقط، الحاصل الآن أن قطاع الخدمات في كل الاقتصادات الحديثة يمثل النسبة الأكبر من مكونات الناتج المحلي الإجمالي. ففي أمريكا وانجلترا وفرنسا وألمانيا يسهم قطاع الخدمات ب 80% والزراعة ب١% فقط والصناعة بأقل من 20%. في الصين والهند ومصر يسهم قطاع الخدمات بنسبة 55% وفي روسيا ب70%. وأصبح مقياس التقدم الاقتصادي هو مدى مساهمة التقنيات والتكنولوجيا الحديثة وليس الصناعات التقليدية في الناتج المحلي الإجمالي لأننا نعيش عصر اقتصاد المعرفة والاتصالات والإنترنت. ولذلك أصبحت أمازون وجوجل ومايكروسوفت والفيس بوك...الخ أكبر بكثير في قيمتها الرأسمالية من كل الشركات الصناعية الكبرى. وفي أمريكا مرة أخرى تصل نسبة مساهمة القطاع الزراعي على الرغم من ضخامته إلى ١% فقط"

واليكم تعليق آخر لنفس الزميل السابق وأرجو أن تلاحظوا كم الاهانات في هذا التعليق ومع هذا يقول في نهايته أن طبيعته الشيوعية ترفض الشتائم!!! كما انني لم أعرف من هو الأخ عامر سليم الذي قال عنه المعلق إنه "لم يرتدع" وعن ماذا لم يرتدع وما هو دخله بالمقال:

المؤدلجون وكارهو الشيوعية وذوو العقول الضيقة يكرهون الحقائق
اميركا تنتج بضائع بقيمة 4 ترليون فقط والباقي هو انفاق على الخدمات
تنفق أميركا على الجيش 700 مليار دولار فما الذي ينتجه الجيش ؟
لا شيء، لا شيء على الإطلاق
سداد الديون لا يتم إلا بالبضاعة
ولذلك فإن نسبة الدين إلى الإنتاج الحقيقي في أمريكا هو 400%
وهنا أتساءل عمن ذي العقل الخشبي !!
أنا عندما أقول الثورة الإشتراكية لم تمت وما زالت على الأبوب يشتمني كتبة البورجوازية الوضيعة
أنا أول من قال بانتهاء النظام الرأسمالي وعلى المخالفين أن يعللوا قيمة الدولار في العام 70 تساوي 40 دولارا في العام 2012 وهم الذين يقولون بتغول النظام الرأسمالي
أنا أقول بالحقائق والحقيقة يحرسها جيش من الأكاذيب كما قال المعلم ستالين
لقد ثبتت عمالة تروتسكي لمكتب التحقيقات الفدرالي ولم يرتدع عامر سليم
الشتامون وأعداء الشيوعية سيتجاوزهم التاريخ وكانهم فضل الحياة
طبيعتي الشيوعية ترفض الشتائم لكن الحقائق القاسية يفهمها العض على أنها شتيمة لأن أناهم غليظة".
الصين هي من يحدد قيمة الدولار
الصين هي من يدفع معاشات الجيش الأميركي
الصين توظف في أميركا 2.4 ترليون دولار
ماذا لو قررت الصين سحب أموالها من أميركا ؟
عندئذ لن يبقى من أميركا إلا الحطام

هل لاحظتم المبالغة والمغالطات التي لا حصر لها والعنف في التعليقات السابقة؟ وقد كان ردي كما يلي:

"بالنسبة للصين فأنا لم أبالغ في نقدي لنموذجها الاقتصادي الذي أنا على دراية جيدة به لأنني كنت أحد الباحثين المشاركين في وحدة ال Economist Intelligence Unit
الانجليزية لفترة ٥ سنوات وهي وحدة رائدة في الشؤون الاقتصادية الدولية. وباختصار شديد فإن نموذج النمو الاقتصادي الصيني هو نموذج للديون الثقيلة والخطيرة حيث تمتلك الحكومة الصينية حوالي 150 ألف شركة تنتج كل شيء وتصدر لكل دول العالم ولكنها تعاني من سوء الإدارة المالية وكلما تعرض إنتاجها للتباطؤ أو الخسارة تقوم الحكومة من خلال سيطرتها على القطاع المصرفي بدعمها بدفعة جديدة من القروض. وفي يناير الماضي ومع تباطؤ معدلات النمو في الصين لحوالي ٦% لأول مرة منذ نحو 30 عاما كان معدل النمو خلالها ١٠%في المتوسط قامت الحكومة بضخ ما يعادل 470 بليون دولار لدعم شركاتها حسبما ورد في نشرة بلومبيرج. وبهذا الدعم القياسي الجديد تصل نسبة ديون الشركات المملوكة للدولة إلى أكثر من ٢٠٠% من الناتج المحلي الإجمالي وهي نسبة خطيرة والأخطر من هذا أن حوالي ٧٠% من قيمة الديون الجديدة تذهب لسداد مستحقات الديون القائمة.
والصين تعتمد بشكل أساسي في صادراتها على أمريكا ثم أوروبا وتستثمر فائضها التجاري مع أمريكا في الأوراق المالية هناك خاصة أذون الخزانة وهو ما يجعلها رهينة للحكومة الأميركية باعتبار أن أمريكا تسيطر على نظام المدفوعات والتسويات الدولية بالدولار. ولذلك فإن الصين لا يمكنها بسهولة بيع استثماراتها في أمريكا لأن هذا سيعني أن تقوم أمريكا بالإضرار بشكل بالغ بمحرك النمو الرئيس للصين وهو صادراتها.

أما بالنسبة لمشكلة الديون السيادية فهي مشكلة يعاني منها العالم كله. وهي الآن تتجاوز حد الأمان المتعارف عليه اقتصاديا وهو 70% من الناتج المحلي بحيث تصل في بعض الدول الأوربية إلى 200% وفي الصين الوضع أصعب من هذا كمآ ذكرت في تعقيب سابق. أما في أمريكا فإن ديون الحكومة الأمريكية تصل إلى حوالي 23 تريليون دولار أي ما يعادل 100% من الناتج المحلي وليس 800% كما ذكرت. وتركيبة هذا الدين معقدة جدا حيث يعود حوالي ربعه للحكومة الفيدرالية نفسها لأنها تقرض مؤسسات تابعة لها وحوالي 35% يعود لمستثمرين أمريكان، أما نصيب الصين فهو يبلغ حوالي 2 تريليون دولار واليابان ١ تريليون فقط. ولذلك فإن الإدارة الأمريكية تعاقب الصين تجاريا الآن وهي مطمئنة تماما أن الصين لا تشكل خطرا عليها. والصين بالفعل في غاية القلق.
لقد حاولت مرات عديدة أن أكون موضوعيا في حواراتي المتعددة مع المعلق وأن اخترق سياج العقل الأيديولوجي المتطرف ولكنني فشلت.
وأخيرا أرجو ألا أكون قد أثقلت عليكم بهذه الأمثلة التي أردت من خلاها إظهار استحالة تغيير بنية العقل العقائدي المتطرف واكتشفت أيضا أنه كلما حاولت أكتر النفاذ الى هذا العقل كلما ازداد انغلاقا وشراسة وعدوانية والسبب في هذا أنه عقل عدمي تنحصر خياراته في إما أن ينتصر على الآخر أو يصفيه وإما أن ينتحر.

وأود أن أختم مقالي بمثل انجليزي يقول:
Minds are like parachutes, they -function- only when they are open.

أي أن العقول مثل الباراشوت "المظلة" لا تعمل إلا أذا كانت مفتوحة.

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي