تطور هام في نظام التحويلات الدولية

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 6267 - 2019 / 6 / 21 - 00:35
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

كما هو معروف فقد قامت إدارة ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران والذي وقعت عليه إدارة أوباما والصين وروسيا والمجموعة الأوربية بحجة أن الاتفاق لم يكن جيدا كما قرر ترامب إعادة فرض العقوبات التجارية والمالية على إيران من جديد.
ومنذ حوالي عشرة أيام صرح وزير خارجية ألمانيا أثناء زيارته لإيران للمساعدة في حل خلافاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية صرح بأن نظام أوروبا للتحويلات الدولية الجديد والمسمى اختصارا INSTEX والذي تحدثت عنه كل من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا في يناير الماضي سوف يكون جاهزا قريبا جدا لمساعدة إيران في الحصول على احتياجاتها الضرورية من الغذاء والدواء فقط من أوروبا دون الحاجة لاستخدام نظام SWIFT الأمريكي.

نقول إنه في يناير الماضي عندما ورد هذا الخبر بإن الدول الأوروبية الثلاث تقوم بتطوير نظام التحويلات الأوروبي والذي سيكون منافسا لنظام SWIFT الذي تسيطر أمريكا من خلاله على كل المدفوعات والتسويات الدولية بالدولار، لم يأخذ أحد الخبر بجدية لمعرفتنا كاقتصاديين مدى الصعوبات الفنية التي تنطوي عليها مثل هذه المبادرة في ظل سيطرة أمريكا على كل المؤسسات المالية والمصرفية في العالم ومنها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وامتلاكها لأكبر بنوك وبورصات العالم وشركات إعادة التأمين الكبرى وأسواق المشتقات المالية والعقود الآجلة للسلع والمعادن الاستراتيجية بالإضافة الى ميزة كون الدولار عملة الاحتياطي الدولي الأساسية لكل دول العالم وعلى راسها الصين.

وكما هو معروف فإن الولايات المتحدة أنيط بها إدارة أنظمة التحويلات والتسويات الدولية بالدولار بعد إلغاء اتفاقية بريتون وودز في السبعينيات من القرن المنصرم ووقف خاصية تحويل الدولار إلى ذهب وتحويله إلى عملة إلزامية. وسارت الأمور على ما يرام في أسواق المال الدولية لفترة طويلة من وقتها وهو ما أدى إلى زيادة ثقة الدول والشركات والبنوك العالمية في الدولار حتى أصبح عملة الاحتياطي الدولي الرئيسية لكل دول العالم وقد استفادت أمريكا من هذا كثيرا وبأشكال مختلفة خاصة فيما يتعلق بتغطية العجز المالي في ميزانيتها الفيدرالية من خلال بيع سندات وأذون خزانة لتمويل هذا العجز بآجال مختلفة لكافة الدول. ولكن إدارة ترامب حاليا بدأت تسيئ استخدام سلطتها في التحكم في شؤون الدولار من خلال فرض عقوبات مالية وتجارية على إي أفراد أو حكومات أو شركات أو بنوك مارقة من وجهة نظر الحكومة الأمريكية وكلنا يعلم كيف هدد ترامب الصين والهند وإيران ودول الاتحاد الأوروبي وحتى جيرانه كندا والمكسيك بحروب تجارية وفرض رسوم جمركية عالية على صادرات كل هذه الدول ما لم تفتح أسواقها للصادرات الأمريكية، كما أنه يسعى الآن لتدمير عملاق الاتصالات الصينية شركة هيوواوي كما أوضحنا في مقال سابق.

وسواء كان ترامب على حق أم لا فإن أسلوبه المتعجرف في التعامل مع الدول الأخرى أدى إلى تراجع الثقة في الإدارة الأمريكية واتجاه التكتلات الاقتصادية الكبرى الى البحث عن بديل لنظام SWIFT الأمريكي وعدم التركيز على الدولار في تكوين احتياطياتها الأجنبية.
وكان أول من بادر بهذا الصين حيث أنشأت بنكا للتنمية مشابه في أهدافه للبنك الدولي كما حاولت ولازالت تحاول إنشاء نظاما جديدا للتسويات والمدفوعات الدولية ولكنها لم تنجح حتى الان لأسباب عديدة منها عدم ثقة معظم دول العالم في عملة الصين المحلية ونظامها السياسي والقضائي وسيطرة الحكومة المركزية على كل مفاصل ومؤسسات الدولة خاصة البنوك وانعدام الديموقراطية والشفافية وهي مخاطر عالية جدا لا تقبلها الدول الأخرى بسهولة.
ولكن عندما تأتي مبادرة إنشاء نظام جديد للتحويلات المالية الدولية من كتلة الاتحاد الأوروبي فإننا أمام تطور يستحق اهتمام العالم كله خاصة أمريكا التي تراقب ما يحدث عن كثب وسط تأكيدات أوربية بأن هذه الآلية تم تطويرها لأغراض إنسانية من أجل إيران فقط كما أسلفنا وليس القصد منها الالتفاف على الحصار الامريكي الخانق على إيران.
ولكن هناك إحساس بالمرارة والامتهان لدى أوروبا والصين وروسيا مما تقوم به إدارة ترامب من حروب تجارية حول العالم وقيامها بالانسحاب بشكل أحادي من الاتفاق النووي مع إيران فقط من أجل إرضاء اسرائيل والسعودية والامارات. وهناك تأييد قوي لما تحاول كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا أن تفعله رغم أن الوقت لا يزال مبكرا جدا في رأينا لميلاد أي نظام للتحويلات الدولية يمكن أن يكون بديلا كاملا للنظام الامريكي. ولكن سعي أوروبا في هذا الاتجاه سيكلل حتما بالنجاح لأن العالم كله بحاجة لنظام آخر إلى جانب النظام الأمريكي والأمر يحتاج فقط الى بعض الوقت والتنسيق بين التكتلات الاقتصادية الكبرى خارج أمريكا وهي التي ذاقت الأمرين من إدارة ترامب وتعلمت درسا لن تنساه أبدا وهو أن سياسة الرهان بلا حدود على أمريكا هي سياسة خطيرة وغير مسؤولة وذات عواقب وخيمة لإن نسخة أخري من ترامب يمكن تصل الى البيت الأبيض مرة أخرى في ظل تنامي النعرات القومية في أميركا والعالم.
ونود هنا أن نؤكد أن عملة اليورو وأوروبا وحدها هي القادرة على النجاح في هذه المبادرة وليس اليوان أو الصين لأن عنصر الثقة بين الدول والمستثمرين والبنوك والمؤسسات الدولية هو العامل الحاسم لنجاح أي نظام جديد للتحويلات المالية عبر الحدود.
ومن الأهمية أن نذكر هنا أن أوروبا تمر الآن بمنعطفات سياسية حادة في كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وهي ذات الدول صاحبة المبادرة ومن أخطر هذه المنعطفات هو اتجاه المحافظين في بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي بأي ثمن وهو ما يطلق عليه BREXIT و ترامب يمارس الآن كل أنواع الضغوط على المحافظين للخروج من الاتحاد لإضعافه أكثر وأكثر وضرب نظام INSTEX في مقتل قبل أن يولد. وبالإضافة إلى هذا فإن ما أسفرت عنه انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة من تقلص حصة الأحزاب المحافظة وصعود الاحزاب الليبرالية والخضر وبقاء نفوذ أحزاب اليمين المتطرف، كل هذه التطورات من شأنها تعقيد المشهد الأوربي وتعقيد مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وربما تأخير إطلاق نظام المدفوعات الدولية الجديد ولكننا نعتقد بقوة أنه سيولد حتما لأن العالم كله بحاجة ماسة له.

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي