هل ستصمد الصين أمام ترامب؟

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 6253 - 2019 / 6 / 7 - 00:06
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

هناك قول شائع في أمريكا هذه الأيام بإن أمريكا لا تستحق أن يرأسها ترامب بسبب أكاذيبه وفضائحه التي ما أن تنتهي إحداها حتى تبدأ الأخرى ولكن في ذات الوقت فإنه الرئيس الذي تستحقه الصين بسبب اعتمادها على أساليب الغش وسرقة حقوق الملكية الفكرية للشركات الأمريكية والعالمية والإفادة منها دون أن تنفق شيئا على البحث العلمي والتطوير. والمعنى أن الصين لا تختلف كثيرا عن ترامب.

وحتى نوضح السبب من وراء هذا الاتهام للصين لابد أن نعود للوراء قليلا حيث شهد الاقتصاد الصيني ازدهارا كبيرا منذ التحاقها بمنظمة التجارة العالمية منذ نحو 20 عاما حيث تمتعت الصين بالمزايا التفضيلية التي تمنحها هذه المنظمة للدول الآخذة في النمو ومنها الصين في اتفاقياتها التجارية مع الدول المتقدمة وهي مزايا تدور حول الرسوم الجمركية وآجال الدعم التي تقدم للمنتجات الوطنية الناشئة بما يمكن الدول الآخذة في النمو من حماية صناعاتها وتصدير منتجاتها للدول المتقدمة.

الآن وبالرغم من أن الصين أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة إلا انها لا زالت تطالب بأن تعامل على أنها دولة آخذة في النمو. ومن الناحية الفنية فإن متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الصين يبلغ حوالي 8000 دولار، بينما يبلغ نظيره في أمريكا حوالي 58 ألف دولار، أي سبع أضعاف. والصين تعتبر بهذا دولة آخذة في النمو ولكن أمريكا لا تقر بهذا وترى أن القوة الاقتصادية والعسكرية المتنامية للصين تخرجها من تصنيف الدول الآخذة في النمو.
ومنذ وصول ترامب الى الحكم وهو يسعى إلى تحقيق نوع من التوازن التجاري بين أمريكا والصين حيث تزيد صادرات الصين إلى أمريكا عن وارداتها منها بمعدلات كبيرة. ففي عام 2018 بلغت صادات الصين الي أمريكا حوالي 540 بليون دولار مقابل 120 بليون دولار فقط لأمريكا بفائض يبلغ 420 بليون دولار لصالح الصين. وفي الثلاث أشهر الاولى من العام الجاري بلغت صادرات الصين إلى أمريكا ما يعادل 106 بليون دولار مقابل 26 بليون لأمريكا بفائض تجاري 80 بليون دولار الصالح الصين.
وتصدر الصين إلى أمريكا بشكل رئيسي أجهزة الكومبيوتر والتليفونات المحمولة وشاشات العرض والأدوات المنزلية والملابس. وأهم صادرات أمريكا للصين الطائرات والسيارات وفوق الصويا واللحوم.

وتقوم الصين باستثمار فائضها التجاري في أدوات الدين الأمريكية مثل أذون الخزانة وفي سوق الأسهم والسندات. وحاليا تمتلك الصين حوالي ٢٥% من الدين العام الامريكي المستحق للأجانب وقد سبق أن أوضحت طبيعة الدين الامريكي في مقال سابق لي.
هذا العجز في ميزان التجارة الخارجية الأمريكي مع عدد كبير من الدول من أهمها الصين واليابان والهند وكندا يثير حفيظة ترامب ويجعله مصمما على تصحيح هذا الوضع واجبار هذه الدول خاصة الصين صاحبة أكبر فائض على فتح أسواقها للصادرات الأمريكية أو فرض رسوم جمركية عالية على صادراتها لأمريكا.
ولأن الاقتصاد الصيني يعتمد في نموه على قطاع التصدير فإن الحكومة الصينية في حالة قلق شديد، وقد بدأ معدل النمو الاقتصادي بها في الانخفاض بالفعل لأول مرة منذ عقود.

الحقيقة أن العالم كله وليس اميركا وحدها بدأ يتنبه إلى سياسة الصين في تحويل الشركات الضخمة المملوكة للحكومة والتي يصل عددها إلى 150 ألف شركة تنتج كل شيء إلى مراكز للتصدير لمعظم دول العالم. وتتمتع هذه الشركات بكل أنواع الدعم الحكومي لكونها تعاني من سوء الإدارة وثقل مديونيتها. ومما يساعد الصين على الاستمرار في سياساتها الخطيرة هذه رخص عمالتها وتمتعها بما نسميه في الاقتصاد باقتصاديات الحجم الكبير والوفورات، وهي تعتمد على سياسة النفس الطويل في غزوها لكل أسواق العالم وتحجيم الصناعات المحلية بهذه الاسواق.

ولكن ترامب بعناده يسعى لتغيير هذه المعادلة حتى ولو أدت إلى كساد كبير في التجارة العالمية وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي العالمي. ومن ثم فإنه لم يعد أمام الصين سوى الرضوخ لمطالب ترامب بفتح أسواقها للمنتجات الأمريكية لأنه ليس بمقدورها الدخول في حرب تجارية شاملة مع أمريكا حيث ستكون الخاسر الأكبر
باعتبارها دولة آخذة في النمو.

وحتى نفهم ما هو حاصل الآن بين أمريكا والصين يلزم أن نعود إلى فترة السبعينات من القرن المنصرم عندما زار الرئيس نيكسون الصين أيام ماو تسي تونج وبدأ سياسة انفتاحية مع الصين من خلال التبادل التجاري ومنحها مزايا كثيرة باعتبارها دولة فقيرة وكذلك لإبعادها عن الاتحاد السوفييتي وقتها.
وعندما لمست الصين فوائد التجارة الخارجية مع أمريكا بدأت في دفع مواطنيها إلى العمل الشاق كمآ بدأت بعد ذلك في الاهتمام بمشروعات البنية التحتية لتسهيل عمليات النقل والتصدير، كما بدأت في الاهتمام بالتعليم وأرسلت الآلاف من شبابها للدراسة في الخارج خاصة أمريكا، ولا مانع أن يكون عدد كبير من طلاب العلم هؤلاء جواسيس تقنيين لصالح الصين.

ومع الوقت بدأت الصين في التفنن في الهروب من الكثير من استحقاقات وقواعد منظمة التجارة العالمية وسرقة حقوق الملكية الفكرية أينما وجدت الشركات وطلبة العلم الصينيين، وهو ما أهلها لتقليد كل المنتجات الأصلية العالمية ومنافستها بمنتجات صينية رخيصة. ولهذا بالطبع آثار سلبية على الصناعات المحلية في كل الدول التي تتواجد بها الصادرات الصينية. وبالإضافة إلى ما سبق تقوم الصين بإقامة حواجز جمركية هائلة أمام صادرات الدول الأخرى إليها مع القيام بتقديم كل أشكال الدعم والاعانات إلى صناعاتها المحلية كما أشرنا سابقا.

وجميعنا يلاحظ أيضا الوجود الكبير للجاليات الصينية في عدد كبير من دول العالم وهي جاليات نشطة جدا في مجال الأعمال ولا تتعامل إلا في السلع الصينية وهي تحصل على كل أشكال الدعم والتسهيلات من الحكومة الصينية حتى تنجح في مهمة تسويق منتجاتها، وبالمناسبة فإن هذه الجاليات لا تقبل بأي شراكة محلية!

وعلى المستوى الشخصي فقد لاحظت أن المنتجات الصينية تتنوع في جودتها بشكل كبير، فالمنتجات ذات الجودة العالية تذهب الى أمريكا وأوروبا، وذات الجودة المتوسطة تذهب إلى جنوب شرق أسيا، أما المنتجات المضروبة فإنها تذهب إلى الشرق الاوسط وأفريقيا. وليس للصين ذنب في هذا لأننا إزاء عملية عرض وطلب والمستوردون لدينا يطلبون أردأ المنتجات وأرخص الاسعار لتحقيق أكبر ربح ممكن بحجة أن شعوبنا فقيرة وقنوعة وترضى بالقليل.

السياسات التجارية التي أشرنا إليها مكنت الصين من أن تحقيق فوائض مع كل الدول التي تعمل معها وهو ما مكنها من تكوين أكبر احتياطي نقدي على مستوى العالم وهي تستخدم هذا الاحتياطي للاستثمار بكثافة في أمريكا على وجه الخصوص ثم أوروبا وأفريقيا وباقي دول العالم. كما أنها بدأت في زيادة إنفاقها العسكري وبنت أول حاملة طائرات في أسطولها البحري الضخم. والولايات المتحدة وحلفائها في شرق آسيا يراقبون هذا التوسع الصيني بقلق.

تحدث كل هذه التطورات مع توجه إدارة ترامب إلى تفعيل سياسة أمريكا أولا والتوقف عن لعب دور رجل بوليس العالم والانسحاب من الكثير من الالتزامات الدولية التي تعهدت بها أمريكا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولكن إدارة ترامب في ذات الوقت لا ترغب في أن تحل الصين محلها وأن تهيمن وحدها على المناطق الاستراتيجية في العالم.

ولذلك بدأت أمريكا في إجراءات اقتصادية مصاغة بعناية للحد من النفوذ الاقتصادي للصين والسعي لتقليص معدلات النمو بها عن طريق إرباك سلاسل الإمداد العالمية التي تنشط بها الصين تجاريا وهو ما ينعكس سلبا على النمو الاقتصادي في الصين رغم ما في هذا من مخاطر على النمو الاقتصادي العالمي ككل. كما بدأت أمريكا في الضغط على الصين لفتح أسواقها أمام صادرات أمريكا أو مواجهة رسوم جمركية عالية كما أسلفنا. وتدفع إدارة ترامب حلفائها للتعامل مع الصين تجاريا على نفس النحو.

وإمعانا في الضغط على الصين وامتهانها اتخذت إدارة ترامب إجراءات انتقامية ضد شركة هيوواوي عملاق الاتصالات الصينية وأكبر شركة في العالم متخصصة في تقنيات الجيل الخامس للاتصالات ومنعت كل الشركات الأمريكية وعلى رأسها جوجل من التعامل معها بحجة أنها تستخدم تقنياتها للتجسس وجمع المعلومات الحساسة المتعلقة بالأمن الوطني. وقد بدأت أمريكا في حث حلفائها الأوربيين عل مقاطعة الشركة لنفس السبب.

و ترامب هنا في لندن هذه الأيام وهو يضغط على الحكومة البريطانية لوقف شركة هيوواوي عن استكمال الاعمال الخاصة ببناء شبكة اتصالات الجيل الخامس في بريطانيا بالرغم من توقيع العقد الخاص بهذه الشبكة. ومن المرجح أن تستجيب أوروبا للضغوط الأمريكية وهو ما قد يعني انكماش الشركة العملاقة واقتصارها على العمل داخل الصين فقط.
الصين لم ترد على استفزازات ترامب حتى الآن ولكنها المحت إلى أنها لن تصمت طويلا وأنها تفكر في تصفية بعض استثماراتها الضخمة في أمريكا، ولكن هذا الإجراء سوف يضر بالصين أيضا حيث تسيطر أمريكا على نظام التحويلات والتسويات الدولية الخاصة بالدولار ويمكنها الحاق أضرار بالغة بالبنوك الصينية العملاقة. والأهم من هذا أنه سوف يضر بالعولمة التي كانت السبب في خروج مئات الملايين من فقراء العالم خاصة في الصين من دائرة الفقر لما أدت إليه العولمة من ابتكارات وتنوع في الاقتصاد الصيني وازدهار حركة التجارة الخارجية بينها وبين العالم وزيادة النمو الاقتصادي والتوظيف.

نعتقد أنه لم يعد أمام الصين أي خيار آخر سوى فتح أسواقها أمام العالم كله وليس أمريكا وحدها وتغيير استراتيجيتها في النمو الاقتصادي اعتمادا على التصدير للخارج، لقد آن الأوان أن تعتمد الصين في نموها على أسواقها المحلية الضخمة والتي لها قدرة استيعابية هائلة وغير مستغلة.

نعتقد أن الصين تعلمت درسا هاما وهو أنه لم يعد من الحكمة الرهان على أمريكا بهذا الشكل الخطير. وهذا درس أيضا لكل الحكام العرب الذين يراهنون الآن على أمريكا ترامب لحمايتهم ضد شعوبهم وضد جيرانهم.

وبغض النظر عما إذا كانت الصين تستحق ما يحدث لها فإننا أمام عبرة تاريخية هامة وهي أن أمريكا بلد الفرص المتاحة للجميع وموطن أعظم الجامعات في العالم وأكبر مراكز الأبحاث ومراكز الفكر ورائدة الاعلام العالمي سقطت في غفلة من الزمن في يد رئيس محتال وكاذب ولا يتمتع بأي خصال أخلاقية وهو رئيس لا يؤمن بمبدأ اقتسام المنافع في كل تعاملاته مع الآخرين. لقد عاش حياته كسمسار مخادع في الأراضي والعقارات ومروج لمباريات الملاكمة والمصارعة و نوادي القمار ....الخ ودائما ما يفخر في أحاديثه بأنه لا يعرف الخسارة ولابد أن ينتصر على خصمه بالكامل أو أن ينسحب.

والخلاصة أن الصين في ورطة كبيرة مع أمريكا ترامب، وحتى ما بعد ترامب فإن الصين لن تسترجع المزايا التجارية الكبيرة التي حصلت عليها عبر عقود من أمريكا وغيرها لأن ترامب غير وجه أمريكا والعالم وأخرج أسوأ ما في الشعوب وهو الآن المثل الأعلى للطغاة والقوميين والشعبويين ودعاة الانغلاق ويكفي أن ننظر إلى نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة لنرى أن الخاسر الأكبر فيها كان أحزاب الوسط أي المعتدلون.
العولمة في أفول والعالم على ما يبدو يتجه الى المزيد من التطرف.

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي