الله الذي أحب -الطب النفسي الاجتماعي-حكايتي 19-


لمى محمد
الحوار المتمدن - العدد: 6218 - 2019 / 5 / 2 - 22:44
المحور: الادب والفن     

آمنْ:

عندما تؤمن بالطب النفسيّ فأنت تعرف أقصر الطرق إلى الله…


سألني أحد الأطباء عن ديانتي، ثمَّ قال لي: - هل صحيح أن المسلمين يحرّمون الفنّ و الغناء؟
قلت: لا.. تطاول دعاة التديّن و سمح لهم البسطاء على التمدد فوق كل مناحي الحياة…
-يبدو الله في دينكم قاتل محترف.. لا أعرف كيف تدرسون الطب…
-أنت تخلط بين الله و من يوّقعون الحروب باسمه.. بالمناسبة هؤلاء ليسوا فقط من (المسلمين)، بل يتواجدون في أي بلد و تحت غطاء أي دين..
بالنسبة للشق الثاني من سؤالك فالطب للإبداع و مساعدة جميع الناس دون استثناء.. من درسه يختلف تماماً عمّن آمن به.

استمر حواري مع هذا المختلف نصف ساعة.. احترمت اختلافه، بينما أحزنني تعميمه…
التعميم سهل و مباح..
الهجوم على أي دين في هذي الحياة سهل و مباح في هذا الزمن.. الندرة فقط تفكر في الحلول، لا في نسف الأمكنة و الأديان.
***************

صلِّ:

حتى عند جبابرة الناس، هؤلاء الذين نراهم أقوياء طوال الوقت.. يعمل اللاوعي كطفل في دواخلهم، فيحفر في ذكريات يريدون نسيانها، و يقلّب في أوراق حاولوا إحراقها.. يذكرهم بأحلام حاولوا خنقها.. ويحارب تمثيلهم للسيطرة على كل مفصل من مفاصل حياتهم…
هذا في أحد الحالات يعد أحد تفاسير الأمراض النفسيّة.. بالإضافة إلى الجينات المتعددة، البيئة و طعنات الظهر و خيبات الأمل…

الله الذي أحب هو الذي علمنا أن لنفسك عليك الكثير من الحقوق، عقلك هو سيد قراراتك، لا موروثك و لا ما علمه لك عبدة التقاليد.. و أن روحك أمانة من عنده فحافظ عليها…
الله الذي حقت له الصلاة خلق البشر جميعاً، وأحبهم بكلهم.. بكامل أديانهم، توجهاتهم، ألوانهم، عقائدهم…
الله الذي يصوم في سبيل رضاه المؤمنين هو الذي جعل دينك معاملة و عقلك سيدك…
بالعقل - الذي ميز الله به الإنسان عن سائر مخلوقاته- :
العبادات جميعها و في جميع الديانات تبدأ و تنتهي عند فكرة قدرتك على التعايش و السلام.. إن أنت فهمت ف لله فيك أمانة.. و إن أنت اعتقدت بأفضلية قومك، دينك، معتقداتك، فلك في رؤوساء العرب خير قدوة.. و لك في الشيطان خير دليل.
**************


فكّرْ:
عندما تحرق جلدنا الشمس نلجأ إلى طبيب الجلد، و عندما تحاول الحياة حرق السر الإلهي فينا، كسرنا، إذبال نبتة من نباتات قلبنا - نلجأ إلى الطب النفسي…

جزء من حكاية مجد:
" أنا إنسانة ناجحة في عملي، أم لأربعة أطفال، علاقتي مع زوجي عادية، زواج تقليدي استمر بسبب العادات و الخوف من كلام الناس، مشكلتي أنني دائماً أحس بألم في معدتي، و قدميّ.. أيضاً تطورت عندي تقلصات عضليّة في منطقة الجبهة، يعني تتحرك جبهتي لا إراديّاً.. فأبدو و كأني أزور .. أتعجب أو أقرف من دون أن أقصد.. قصدت الكثير من الأطباء، و قاموا بتحاليل و فحوص و تناظير كثيرة.. - كل التناظير و الفحوص طبيعية- أحس أنه لا يعرف أحد مشكلتي و لم ألتقي حتى اليوم طبيب شاطر.. قرأت عن اختصاصك الدقيق في الطب النفسي الجسدي ، و مقالتك حول العلاقة بين الجسد و الروح، فقررت كتابة هذه الرسالة لعلّه يكون على يديك شفائي”.


مما حكته غنوة:
“ متأكدة أنا من أني مصابة بمرض جسدي، عندي أعراض كثيرة: ألم ، شرب كثير من الماء، تبوال كثير، قلة نوم، أرق، تعب، أحس و كأن ضفدعاً في معدتي… تحاليلي، تناظيري، فحوصي كلها طبيعية.. قالوا لي أنني مصابة بالاكتئاب.. أنا تعيسة بسبب هذه الأعراض و ليس العكس.. أحس أنك لا تكتبين من أجل الشهرة و لا يهمك إرضاء الناس، لهذا تشجعت و أرسلت لك هذي الرسالة، هل يمكنك شرح ما أمر به؟” .



شكراً ل مجد و غنوة، أتشرف بكما و يسرني جداً وعيكما حول قدرة المرض النفسي على خلق الأعراض الجسديّة المستعصيّة على التشخيص.
لن أتكلم عن حالتكما بشكل خاص، بل سأفتح الباب لعقليكما، فتتابعان مع طبيب نفسي في بلديكما، الذهاب إلى الطبيب النفسي لا يفرق عن الذهاب إلى طبيب الجلد في شيء..

تدور حكايتيكما في فلك الاضطراب الجسدي الشكل Somatic symptom disorder,
ببساطة هو اضطراب نفسي لمدة ستة أشهر على الأقل يتمثل بعرض جسدي واحد أو كثر يسبب قلقلة الحياة اليوميّة عبر أفكار، مشاعر و حتى تصرفات يومية ذات علاقة بهذا العرض الجسدي.. كالتفكير المستمر بخطورة و هوال هذه الأعراض، قلق رهيب حول الصحة أو الأعراض الجسدية، و تضييع كثير من الوقت، الجهد، و حتى الأموال على هذه المخاوف و الأعراض.

يفكر الطبيب النفسي بهذا المرض في كل حالة أعراض جسدية غير تابعة لمرض معيّن، و كامل الفحوص، التحاليل، و الأشعة طبيعية.
أسباب هذا المرض المباشرة غير معروفة، تتهم الوراثة و العوامل الجينية، العوامل البيولوجية التي تفاقم الإحساس بالألم، الشخصية المتشائمة السلبيّة التي تتصور الأسوأ، عدم الوعي الذاتي للمشاعر و العواطف، فيتحول اهتمام الشخص إلى أعراض جسدية.. الوصمة ضد الطب النفسي، تجعل من صاحبها يعتقد أن العرض الجسدي مباح بينما الألم النفسي جنون!

ما العلاج:
عموماً العلاج : معالجة نفسية بالعلاج المعرفي السلوكي، تنفع مضادات الاكتئاب في علاج الاكتئاب و القلق المرافقين لهذا المرض.
يستخدم العلاج بالإيحاء في العلاج النفسي في هذه الحالات، مثال منه أن يحكي الطبيب للمريض عن حالات مماثلة تحسنت بفعل الوعي الذاتي، و إدراك مشاكل اللاوعي.
يتحسن بعض المرضى الواعيين حول أهمية الطب النفسي في حياتنا، بينما تقف الوصمة تجاه الأمراض النفسية حاجزاً خطيراً للتحسن خصوصاً إن كان المريض متعلماً.. فهو يستخدم علمه ضد الطب النفسي و ضد نظريات التشخيص و العلاج.
ما لا تذكره الكتب كثيراً هو أهمية النوم لعلاج هذا المرض و غيره من الأمراض النفسية، قلة النوم تفتح أبواب القلق و الاكتئاب.. الهيوجية و الانفعالية الزائدة.. و حتى الخرف-الذي أثبت العلم ارتباطه مع قلة النوم- ، لذلك لا تستهينوا أبداً بعرض الأرق و تابعوا مع طبيب نفسي في حالته…
من الأدوية المتاحة في الصيدليات للحصول على نوم جيد هو الميلاتونين و هو مادة طبيعية يفرزها الدماغ أثناء النوم، لكن قبل أن تذهب و تشتريه، اسأل نفسك ما سبب الأرق:
اكتئاب، قلق، ثنائي قطب.. اضطرابات نوم، أو أمراض عضوية ؟
لذلك مراجعة الطبيب العام في أقل تقدير و النفسي بشكل خاص تيسر حياتك و تمنع أمراضاً كثيرة من التمدد في حياتك و احتلالها.
أنا أعلم أن مراجعة الطبيب قد تعتبر رفاهية عند كثير من محدودي الدخل، الحلول المتاحة تختلف من حالة لأخرى..

التفكير بالمرض النفسي كمرض السكري.. معاملة الأرق مثلاً كمعاملة عرض ألم القلب هو بداية الطريق لمعرفة الحلول و كسب المستقبل…
***************

كنْ أنت القدوة:

الله الذي نحب هو في نفسنا و أرواحنا.. في وعينا لكن في لاوعينا أكثر..
في قدرة عقلنا على الخروج عن التقاليد الباليّة و التصورات الموروثة للشخص المختلف…
في قدرة منطقنا على كبح العنصريّة التي يرفضها الجميع بينما يمارسونها لا وعياً من خلال تسليمهم لعقد الأفضلية، توهمات العظمة.. وترهات اعتبار المرض النفسي جنوناً…

الله الذي نحب يشبه الشمس بسطوع وجوده و تقويته لنا.. بجعل هذه الحياة ممكنة.. دافئة.. منيرة و قويّة..
خلق الجميع بعدل و أحبهم بمساواة..
لا تعميم حول دين، قومية، بلد، لون، جنس، توجه.. بل كثيرات من الحالات الخاصة.. ولا أفضلية لأحد على أحد إلا بنفعه لعيال الله…

الشمس لا تغيب مطلقاً.. هي تسطع علينا حيناً و على بشر غيرنا أحياناً…


أنهيت حواراً هادئاً مع الطبيب المختلف، بجملة :
الله الذي أحب في قلوب البشر جميعهم، لذلك أحبهم بنفس الدرجة و لا أؤمن بالحدود.. أعتقد أن في اختلافك و اختلافي مغزى.. و أفعالنا هي الوحيدة التي تصلح حكماً…


يتبع…