عندما يقوم الشيوعيون ببناء الرأسمالية


محمد سيد رصاص
الحوار المتمدن - العدد: 6130 - 2019 / 1 / 30 - 00:21
المحور: ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا     


كان عنوان كتاب لينين الصادر في عام 1905 «خطتا الاشتراكية الديموقراطية في الثورة الديموقراطية» وليس «الثورة الاشتراكية»، إذ كان لينين آنذاك متقيّداً بوصفة ماركس في «البيان الشيوعي» (1848) بأن الثورة الاشتراكية لا يمكن أن توفّر مقدماتها سوى في البلدان الرأسمالية المتقدمة وبأن مهمّة الشيوعيين في البلدان المتخلّفة مثل ألمانيا، «في ألمانيا يناضل الحزب الشيوعي بالاتفاق مع البورجوازية» («البيان الشيوعي»، مختارات ماركس وإنجلز، أربعة أجزاء، دار التقدم، موسكو، ج 1، ص 94). كان المناشفة في خلافهم مع لينين والبلاشفة عام1903 أقرب إلى ماركس، حيث قال لينين بأن مهمة الماركسيين هي «إنشاء ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الثورية الديموقراطية»، ولم يسع كما دعا المناشفة إلى تحالف مع البورجوازية «ضد النظام الملكي المطلق وضد الملكية الإقطاعية العقارية» كما يحدد ماركس في «البيان» (ص 94-95)، وإن ظل لينين ملتزماً بأن الثورة في بلد متخلّف هي «ثورة ديموقراطية». عندما عاد لينين إلى روسيا في نيسان 1917، قدّم في كرّاس «موضوعات نيسان» ما يتجاوز كتاب 1905، إذ قال: «إن ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الثورية الديموقراطية قد تحققت في الثورة الروسية (شباط 1917)، إن هذه الصيغة قد شاخت» («موضوعات نيسان»، دار التقدم، موسكو 1969، ص 14-15)، داعياً إلى «القفز من فوق الثورة البورجوازية الديموقراطية غير المنتهية ــــ والتي لا تزال مشوبة بميزان الحركة الفلاحية ــــ إلى الثورة الاشتراكية» (ص 19). عارض أغلب البلاشفة «موضوعات نيسان» متسلّحين بكتاب 1905، لكن لينين انتصر في الحزب وقاد روسيا متسلحاً بـ«موضوعات نيسان» إلى ثورة أوكتوبر 1917. بعد أربع سنوات، مع خراب الصناعة ومقتل معظم أفراد الطبقة العاملة في القتال ضد أعداء ثورة أوكتوبر بالحرب الأهلية، ومع فشل مراهنات البلاشفة على ثورات في الغرب الأوروبي،


بدأ لينين مع «السياسة الاقتصادية الجديدة ــــ النيب» يقول إن «تعبير جمهورية السوفيات الاشتراكية يعني حزم سلطة السوفيات في تأمين الانتقال إلى الاشتراكية» (كراس «عن الضريبة العينية»، أيار 1921، ضمن مختارات لينين، دار التقدم، موسكو 1971، المجلّد الثالث، الجزء الثاني، ص 229) ثم يضيف: «ولكن ماذا تعني كلمة انتقال؟... ألا تعني، مطبّقة على الاقتصاد، أنّ في النظام المعني عناصر، أقساماً، أجزاء من الرأسمالية والاشتراكية؟... لنعدد هذه العناصر: 1ــــ الاقتصاد الفلّاحي البطريركي، 2 ــــ الإنتاج البضاعي الصغير، 3 ــــ الرأسمالية الخاصة، 4 ــــ رأسمالية الدولة، 5 ــــ الاشتراكية» (ص 229).
في المؤتمر العاشر للحزب قبل شهرين، كان لينين مدركاً بأن استمرار السلطة السوفياتية، رغم الانتصار في الحرب الأهلية، قد أصبح مستحيلاً من دون إرضاء الفلاحين، لذلك تنازل اقتصادياً عبر سياسة (النيب)، وفي الوقت نفسه تشدّد سياسياً وحزبياً من خلال قرار المؤتمر العاشر بمنع الأحزاب، في تكريس لوحدانية الحزب البلشفي وبمنع التكتلات في الحزب البلشفي.

بعد وفاة لينين عام 1924 بسنتين قدم البلشفي الأبرز في علم الاقتصاد أوجين بريوبراجنسكي، توضيحاً أكثر للمهمات أمام البلاشفة من خلال كتابه «الاقتصاد الجديد» حيث يقول إن «التراكم الأولي الاشتراكي يعني تجميع الموارد المادية بيد الدولة جزئياً أو كلياً... لا يمكن لمرحلة التراكم الاشتراكي الأولي أن تتم بدون الاستحواذ على فائض إنتاج الفلاحين والحرفيين» («مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية»، دار الطليعة، بيروت 1971، ص 33-103، ص 38 و43). كان بريوبراجنسكي واعياً بأن الدولة السوفياتية ستقوم بدور الرأسمالي وبأنها ستمارس «سلب فائض الإنتاج الصادر عن جميع الأشكال الاقتصادية ما قبل الاشتراكية»، وهو كمناصر لتروتسكي كان ضد «النيب» وضد سياسة إرضاء الفلاحين، بخلاف اليميني بوخارين أو الوسطي ستالين الذي اختار بعد إبعاد تروتسكي وبوخارين وصفات المعارضة اليسارية التروتسكية لما اتجه نحو سياسة (الكلخزة ــــ التجميع الزراعي الإجباري في كولخوزات) بين عامي 1929-1932 والتي هي تطبيق لوصفات بريوبراجنسكي مع إضافة إجبار عشرات الملايين من الفلاحين على النزوح من الريف والتحول إلى عمّال صناعيين في المدن. كانت (الكلخزة) طريقاً ستالينياً إلى الثورة الصناعية وتحديث الاتحاد السوفياتي وانتقاله من المحراث الروماني إلى القنبلة الهيدروجينية وغزو الفضاء.
لم يستطع لينين وستالين ثم من أتى بعدهما أن يحققوا «الانتقال إلى الاشتراكية»، بل بقوا ضمن «رأسمالية الدولة» التي استطاعت نقل الاتحاد السوفياتي إلى مصاف الدول الصناعية المتقدمة وأن تنتج تحديثاً تكنولوجياً وعلمياً، وقد ظل الاتحاد السوفياتي الرقم الثاني بين عامي 1950 و1990في الاقتصاد العالمي بعد الولايات المتحدة، قبل أن تحتل اليابان هذا المركز. في موسكو ودول حلف وارسو، كانت الانهيارات في السلطة السياسية بين عامي 1989 و1991 انتقالاً من الحزب الواحد ورأسمالية الدولة إلى الديموقراطية السياسية واقتصاد السوق. في الانهيار السوفياتي، كان هناك انتصار لـ«البيان الشيوعي» على «موضوعات نيسان» وتأكيد على تناقض حدي مقولة «الماركسية ــــ اللينينية».
عند الشيوعيين الصينيين، كان هناك عودة إلى ماركس مع دينغ سياو بينغ، الذي سيطر على مقاليد الحكم بين عامي 1978 و1997 بخلاف ماو تسي تونغ المتأثر بلينين. فمنذ الثمانينيات، بدأ الحزب الشيوعي الصيني يطرح طروحات تقول بأنه لا يمكن الدخول في المرحلة الاشتراكية قبل استنفاد كامل مهمات المرحلة الرأسمالية. منذ ذلك الحين، يقود الشيوعيون الصينيون أكبر ثورة رأسمالية عرفتها البشرية منذ الثورة الصناعية البريطانية في القرن الثامن عشر. هذه العملية الرأسمالية الصينية التي يقودها الشيوعيون لا تتم تحت شعارات «اشتراكية»، بل هي عملية رأسمالية صريحة من قبل القائمين عليها وهم ماركسيون فلسفياً وشيوعيون في الفكر السياسي ــــ التنظيمي، بخلاف ما فعله لينين وخلفاؤه الذين قادوا ثورة رأسمالية وإنجاز الرسملة وتجاوز العلاقات ما قبل الرأسمالية تحت شعار «الانتقال نحو الاشتراكية» ثم سقط الحكم السوفياتي بحكم تناقض البنية المجتمعية ذات المصلحة في أكثريتها خلال الثمانينيات، نحو الاتجاه إلى اقتصاد السوق والديموقراطية السياسية، مع سلطة رأسمالية الدولة والحزب الواحد. الجديد عند الشيوعيين الصينيين هو جمع اقتصاد السوق مع وحدانية الحزب الشيوعي واحتفاظ قطاع الدولة في الاقتصاد باحتكار قطاعات اقتصادية استراتيجية مدنية وعسكرية. في فييتنام، حيث قاد الشيوعيون عملية النضال ضد الاستعمار الفرنسي وضد الاحتلال الياباني، ثم هزموا الأميركيين، وصولاً إلى التوحيد القومي لشطرَي فييتنام الجنوبي والشمالي، قاد الحزب الشيوعي الفييتنامي العملية الرأسمالية التحديثية الفييتنامية خلال الأربعين عاماً الماضية مع الفصل أيضاً، مثل الصين، بين الحرية السياسية والحرية الاقتصادية. عبر هذا النهج، تفادت بكين وهانوي مصير موسكو والشيوعيين السوفيات.
في القرنين العشرين والواحد والعشرين، أظهر الشيوعيون أنهم أفضل من أنجز الرأسمالية من خلال النتائج المحرزة على الصعيدين الاقتصادي والتقني وعلى صعيد تجاوز البنى الما قبل ــــ رأسمالية في الاتحاد السوفياتي والصين وفييتنام، وهذا يفوق تجارب ثانية في الرسملة مثل الهند وكوريا الجنوبية حيث كانت القيادة لغير الشيوعيين. تظهر تلك التجارب الخمس أن هناك طريقاً إجبارياً من رأسمالية الدولة إلى اقتصاد السوق، وهو ما تبيّنه أيضاً تجربتا مصر ما بعد 23 يوليو 1952 وسوريا ما بعد 8 آذار 1963. تفادت الصين وفييتنام عملية التزامن في انكسار الحزب الواحد ورأسمالية الدولة معاً من خلال قيادة الحزب الواحد للتحول من رأسمالية الدولة نحو اقتصاد السوق.