هل يمكن إصلاح الرأسمالية؟

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 6082 - 2018 / 12 / 13 - 22:41
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في استقصاء تم منذ نحو عامين في الولايات المتحدة الأمريكية معقل الرأسمالية تبين أن أكثر من نصف الشباب هناك لم يعد يؤيد الرأسمالية كنظام اقتصادي يحكم البلاد منذ نشأتها، وهذا دليل على مدى التدهور الذي لحق بسمعة الرأسمالية خاصة في العقدين الماضيين نتيجة للتغير الكبير الذي طرأ عليها وحولها من نظام إنتاجي يمنح الفرص للجميع ويشجع الابتكار ويحارب الاحتكار إلى نظام استهلاكي شره منحاز لأصحاب رؤوس الأموال على حساب طبقة العمال وغير عادل في توزيع الفرص وموبوء بالاحتكارات الخفية.

ولو اننا تأملنا القضية بعمق لوجدنا أن معظم مشاكل الرأسمالية وازماتها الاقتصادية العنيفة وكان آخرها الأزمة المالية العالمية ما بين عامي ٢٠٠٧ و٢٠٠٨ تأتي عندما يضعف الدور الرقابي للحكومات في الوقت الذي تفشل فيه آليات السوق في العمل وتحقيق التوازنات المطلوبة وسوف نلاحظ أيضأ أن هذه المشاكل لم تحل إلا من خلال التدخل الحكومي القوي وهو ما حدث بالفعل عندما تدخلت الحكومات الغربية وعلى رأسها الحكومة الأمريكية من خلال بنوكها المركزية وأجهزتها المالية والاقتصادية لإنقاذ مصارفها وشركاتها العملاقة من الانهيار إبان الأزمة الأخيرة.

وما ثورة اصحاب السترات الصفراء المندلعة حاليا في فرنسا إلا مظهر من مظاهر السخط على الرأسمالية السائدة في الغرب حاليا والتي لم يعد هناك جدل بين الاقتصاديين على انها تعمل لصالح قلة غنية وتغض الطرف عن متاعب وأوجاع الأغلبية الفقيرة في ظل حكومات وأجهزة رقابية تتسم بالضعف والرضوخ لمطالب الرأسماليين. العالم كله في حالة من الدهشة لما يحدث في شارع الشانزليزيه الفخم والشوارع المتفرعة منه من مظاهرات عنيفة وأعمال تخريبية، إنها مظاهر اعتدنا على مشاهدتها في الدول الإفريقية وهو ما يسبب حرجا كبيرا للرئيس ماكرون الطامح لخلافة أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا وهي تقترب من التقاعد. أعتقد أن ما يحدث حاليا هو إعلان للوفاة السياسية المبكرة للرئيس الشاب الذي كان يحلم بتغيير أوروبا كلها وليس فرنسا وحدها وجرأ على تحدي ترامب بشكل لم يفعله أي زعيم أوروبي أخر، وها هو ترامب لا يخفي شماتته في ماكرون في واحدة من تغريداته المقيتة.

الخطأ الكبير الذي ارتكبه ماكرون على الرغم من ذكائه الشديد هو أتباعه لوصفة إصلاح اقتصادي للمشاكل التي ورثها من سلفه أولاند دون مراعاة للأبعاد الاجتماعية لإصلاحاته وكأنه في أحد الدول العربية التي لا حول فيها ولا قوة للمواطن الغلبان والمفعول به دائما.
تمثلت إصلاحات ماكرون في إعفاءات ضريبية كبيرة للأغنياء لحثهم على المزيد من الاستثمار وزيادة النمو الاقتصادي لخلق وظائف جديدة. ولم يكتفي بهذا بل قام بإلغاء مزايا عديدة للعمال والموظفين الصغار من خلال إدخال تعديلات غير منصفة على قوانين العمل مع فرض ضرائب على اصحاب المعاشات، ثم قام مؤخرا برفع أسعار الوقود. وكان من المؤسف أن يواجه الاحتجاجات الأولى من العمال والمواظفين باستهانة شديدة داعيا إياهم إلى الإقلال من ركوب السيارات!

وكما نرى فإن إصلاحات ماكرون المعتمدة على تدليل الأغنياء كما هو المتبع في معظم دول العالم لم تؤدي إلى زيادة كبيرة في معدلات التوظيف في أي من دول المجموعة الأوربية التي يصل متوسط نسبة البطالة فيها الى ٨% وتصل هذه النسبة في اسبانيا وحدها إلى ١٥% وفي إيطاليا إلى ١٠% وفي فرنسا إلى ٩%. بينما انخفضت نسبة البطالة في أمريكا أيام إدارة أوباما إلى ٤% من خلال سياسات التيسير النقدي التي اتبعها بنك الاحتياطي الفيدرالي هناك بالإضافة إلى تشجيع التجارة الخارجية ودعم العولمة. أما الآن فإن إدارة ترامب تحيد عن هذه السياسات وتعادي العولمة والتجارة الحرة كما قامت بتخفيض الضرائب على الأغنياء. وبالرغم من أن سياسات ترامب أدت إلى تحسن طفيف في نسبة البطالة حيث تبلغ الآن أقل قليلا من٤% إلا انها وظائف ذات دخل محدود ولا تتسم بالديمومة، كما أن حروب ترامب التجارية مع الصين وكندا والمكسيك ومعاداته للعولمة وتخفيضه للضرائب على الأغنياء سوف تكون لها تبعات اقتصادية سيئة على الاقتصاد الامريكي حتما وقد بدأت بالفعل فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء في الاتساع بشكل لم يحدث من قبل في تاريخ أمريكا حيث يملك الآن ١% فقط من مجموع السكان حوالي ٤٠% من ثروات البلاد.
والحقيقة أن أمريكا ليست وحدها التي تعاني من تزايد فجوة الدخل والثروة بين الأغنياء والفقراء، بل إنها ظاهرة عالمية أنتجتها آليات عمل الاسواق الرأسمالية التي تهدف بالأساس إلي تحقيق أكبر ربح ممكن كمعيار وحيد للنجاح وبغض النظر عن أي اعتبارات اجتماعية أو إنسانية. وفي بلد مولدي مصر ومنذ عهد الملكية كان ولازال مجتمع ال ١% يتحكم في كل مقدرات البلاد بينما يقع نصف سكان مصر تحت خط الفقر ولا أمل في أن تتحسن أوضاعهم في ظل السياسات والأنظمة الرأسمالية الحاكمة.


وعودة إلى الاسباب الأساسية لحالة السخط المتزايدة في الغرب على الرأسمالية نقول إن فجوة الدخل والثروة بين الأغنياء والفقراء والمتزايدة بمعدلات غير مسبوقة تمثل مصدرا لحالة مزمنة من الإحباط المشروع للمعدمين نتيجة احساسهم بانهم محرومين من خيرات بلادهم لا لشيء سوى أنهم ولدوا فقراء وسيموتون فقراء ومن ثم فإنه لم يعد لديهم ما يخسرونه، وعندما يضغط على المرء بشكل مستمر حتى يصل ظهره للحائط فإن أي خطوة له لن تكون إلا إلى الأمام، أي المواجهة التي بدأها أصحاب السترات الصفراء في فرنسا والتي ستتبعها حركات أخرى مشابهة في الغرب بكل أسف.

ومن الأسباب الأخرى لحالة الإحباط انحسار المنافسة الحرة التي كانت تميز النظام الرأسمالي وكانت أهم عوامل نجاحه لما أدت إليه من ابتكارات وتنوع وانخفاض في الاسعار ورفاهة للجميع. وفي تاريخ الفكر الاقتصادي وبالتحديد في بدايات القرن العشرين كانت الحكومات في الغرب تحارب الاحتكارات بقوة. وحتى ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية بنت نهضتها الحديثة على أساس المنافسة الحرة ومحاربة الاحتكارات.

أما الآن فإن هناك حالة تركز كبيرة في الاقتصاديات العالمية خاصة الغربية حيث تسيطر مجموعة صغيرة من الشركات العملاقة على كافة أسواق القطاعات الاقتصادية خاصة في قطاعات الميديا والتكنولوجيا والتسويق والأدوية والبنوك والتأمين والبترول والغاز وكل من يعيش في الغرب يدرك هذا. وتحقق هذه المجموعة من الشركات أرباحا ضخمة ومتزايدة، والحقيقة غير المعلنة هي أن حالة التركز هذه تمثل نوعا من الاحتكارات الخفية وهوما يعطى نفوذا كبيرا لهذه الشركات في القرار السياسي للدول التي تعمل بها. وكان من المفترض أن تؤدي ظاهرة العولمة إلى إزكاء المنافسة والحد من حالة التركز هذه ولكن لم يحدث هذا بشكل قوي مما أدى إلى المزيد من الانخفاض في نسبة مساهمة العمال في الناتج المحلي الإجمالي لمعظم الاقتصاديات العالمية ومن ثم تآكل قوتهم الشرائية وتدهور أحوالهم المعيشية.
ومع تصاعد نفوذ وقوة الرأسماليين ضعف دور ونفوذ النقابات العمالية بشكل ملحوظ في الغرب، أما في عالمنا العربي فقد تم اختراقها وتحويلها إلى أجهزة تابعة للحكومات اختصارا للوقت.

ومن العيوب الأخرى لمشكلة التركز التي اوضحناها سابقا صعوبة دخول لاعبين جدد إلى الأسواق التي تسيطر عليها الشركات العملاقة وهو ما يعني انخفاض مستوى المنافسة وتدني مستوى الابتكارات الجديدة التي يمكن أن تعمل لصالح الفقراء ويواكب هذا انخفاض في معدلات الإنتاجية وهي مشاكل حقيقية تعاني منها معظم الاقتصاديات الغربية.

وبالطبع فإن الحلول اللازمة للتعامل مع هذه الأوضاع السيئة معروفة لصناع وأصحاب القرار السياسي والاقتصادي ومن أمثلتها استخدام أدوات السياسة المالية للحد من اتساع فجوة الدخل بين الفقراء والاغنياء كما أوضحنا في مقال سابق لنا وتقوية الأجهزة الرقابية الحكومية واعادة بعث دور نقابات العمال الحرة والمستقلة وفرض تعيين عدد أكبر من العمال في مجالس إدارات الشركات لتحقيق نوع من التوازن بينهم وبين الرأسماليين و محاربة الاحتكارات وفرض تشريعات تقضي على كل الحواجز والعوائق التي تضعها الشركات الكبيرة أمام الصغيرة التي تسعى للدخول إلى اسواقها........الخ

وكما نرى فإن مثل هذه الحلول لا تحتاج إلى فراسة ومعروفة للاقتصاديين المبتدئين! إذن أين المشكلة؟ المشكلة تكمن في غلبة غريزة الطمع والأنانية التي جبلت عليها النفوس البشرية ، وخلال مسيرة حياتي العملية الطويل عبر دول العالم تبين لي أن الناس عندما تعاني من ويلات الفقر و الحرمان تتحدث عن الاشتراكية والمساواة والعدل وحقوق الإنسان وما أن تخرج من دائرة الفقر وتبدأ في تذوق طعم المال حتى تصاب بحالة سعار وتتحول سلوكياتها تماما إلى النموذج الرأسمالي، بمعني أننا بالفطرة وفي ظل الظروف العادية وبعيدا عن الفقر المدقع نفضل الرأسمالية وتراكم المال حتى ولو كان من حولنا يعاني من الجوع والتشرد، والأرض التي تأوينا تعاني من التلوث البيئي من جراء أنشطتنا البشرية السيئة التي ستقود حتما إلى فناء أشكال عديدة من الحياة على وجه الأرض.
والخلاصة أنه لا أمل في إصلاح الرأسمالية الحالية في ظل المعطيات الراهنة ونحن بحاجة إلى ثورة ما في ضمائرنا قيل أي شيء آخر.

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي